fbpx

الخصومة بين القدماء والمحدثين في الأدب الفرنسي

ترجمة: أحمد رباص –

تقديم
بعد ألفية من الظلام (من القرن الثالث إلى القرن الثالث عشر)، أيقظت النهضة الآداب والفنون بفضل العودة إلى الأصول الإغريقية اللاتينية للحضارة الغربية. فمنذ بترارك حتى إراسم، ربط المحركون الرئيسيون لهذا التطور بين أوربا العالمة (المثقفة) والعبقرية اليونانية القديمة. لاحقا، سوف ينشد آخرون التحرر من قبضة هذه الأخيرة. تحول هذا النقاش في القرن السابع عشر إلى حرب مفتوحة. فالتطورات الحاصلة للغة الفرنسية والتي شجعها تأسيس الأكاديمية الفرنسية سنة 1634 والتي رمز إليها قرار ديكارت القاضي بنشر “خطاب في المنهج” باللغة الفرنسية سنة 1637وسعت من دائرة الجمهور المتعلم بحيث أصبحت تضم “الناس الشرفاء” ومرتادي الصالونات الخاصة الذين التحقوا بأهل الأدب بعد أن قطعوا الاتصال باللغة اللاتينية وبالثقافة التي تمثلها. هكذا تشكل حزب “حديث” يستعمل نفوذ لويس الرابع عشر لمحاولة قطع الصلات التي تربط إنتاجات الفكر بالتقليد اليوناني القديم. في هذا السياق، أثارت قصيدة شارل بيرو (مؤلف “الحكايات”) المعنونة ب”قرن لويس الرابع عشر” والمنشورة عام 1687 حفيظة بوالو وارتفعت بالنقاشات إلى مستوى أكثر سخونة. لهذا كله، تبعث النصوص المجموعة اليوم في كتاب “خصومة القدماء والمحدثين” لمارك فومارولي على الدهشة بفضل فن الخطاب (المنسي) وكمال اللغة اللذين تشهد عليهما النصوص ذاتها. لقد أراد بيرو والمقربون إليه أن يجعلوا من قرن لويس الرابع عشر أول قرن حديث. كورناي، موليير، بوالو، راسين، لافونتين جعلوا منه آخر قرن كلاسيكي. لكن خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر أبانت الخصومة عن غنى تلك التداعيات. وبمناسبة صدور هذا الكتاب، أجرت مجلة Le point الذائعة الصيت مع مارك فومارولي مؤلف الكتاب حوارا مطولا أقدم فيما يلي لقراء وزوار “الجديدة اليوم” ترجمته إلى لغة الضاد.
– هذه دراسة مطولة حول خصومة القدماء والمحدثين. هل الظاهرة مهمة إلى هذا الحد؟
+ تم اختزال هذه الخصومة في خلاف عابر بين جماعتين من المتعلمين. كانت رهاناتها متعددة وأساسية وفي متناول الجميع. التاريخ الرسمي لم يدرس بما فيه الكفاية الشكل الاستكشافي للخصومة عموما. طيلة تاريخ الأدب الأوربي، الفرنسي على الخصوص، شكلت الخصومات المبدأ المحرك للتفكير في المجتمع بين أوساط أهل الأدب. بعد المعارك اللاهوتية في رحاب الجامعات خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر (الواقعيون ضد الاسميين)، تعاقبت خلال عصر النهضة دينامية الخصومة الخطابية: بين أقطاب متعارضة نشأ قوس كهربائي استدعى أدلة جديدة إلى جانب أدلة موجودة سلفا. لقد تمخضت خصومة القدماء والمحدثين في القرن السابع عشر عن خصومات مماثلة ومتعددة.
لكن قد يجدث أن يكون لهذا القوس الكهربائي ضغط منخفض. في هذه الخصومة يسترعي انتباهنا فرط صرامة الخصوم ومنتهى الرقة في معاملاتهم.
تحدثت عن الدينامية، غير أنها كانت في العهد القديم منمنمة وشبه إيقاعية. كان هؤلاء المتعلمون في قديم الزمن يجدون متعة في مهاجمة ومناقشة وتمحيص وتوسيع مجموع التهم. لكن دائما في إطار الشكل. إننا ما زلنا بصدد مجتمع أرستقراطي يمارس فنون الحرب وطقوس البلاط. المتعلمون في عهد لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر كانوا ينحنون إجلالا للطقوس الأرستقراطية. فيما بعد، منذ ما قبل الثورة، أصبحت الخصومات عنيفة وغامضة وإيديولوجية. بياغنات أندري بروتون وصكوك التكفير المتبادلة في سنوات الثلاثينيات الأقرب زمنيا إلينا شكلت أعراضا لعالم آخر.
– الخصومة أطلقتها من عقالها قصيدة بسطت راية “حداثية” للعصر، لكنها شكلت بالأحرى مدحا للملك في أزمنة الملكية المطلقة هاته. كيف أمكن انتقاد تلك الرؤية دون المساس بالملك؟ هل توصل بوالو إلى ذلك؟
+ مما لا شك فيه أن بوالو لم يكن أكثر عمقا من أطراف هذه الخصومة، غير أنه تفادى بلباقة هذه الصعوبة التي أشرت إليها وذلك بتفاهم تام مع راسين. لقد حاول بوالو وراسين استقطاب الملك إلى قضيتهما دون السقوط في المهانة. كانت لهما ميزتان: الأولى هي أنهما أحبا ملكهما والثانية هي سداد قضيتهما التي دافعا عنها، وهي قضية الذاكرة المفهومة بمعنى لا ينفصل عن حرية الفكر. لقد أراد بيرو إقناع الملك بأن الحداثة العلمية والتكنولوجية والإدارية والأدبية جعلت منه أعظم ملك في الدنيا. بوالو وراسين أوحيا للملك بأن الذاكرة، أي التقليد الأدبي، تقف الى جانبهما، وبالتالي فهما الوحيدان القادران، بصرف النظر عن نجاحاته، على أن يضمنا له مجدا يستحق الذكر. للذاكرة حسنتان لا شيء يعوضهما: فهي تضمن للملك قيمة وديمومة سمعته المقبلة وتترك لكتابه فسحة حرية المقارنة وهامشا من الحرية الذاتية.
مع بيرو، لم يقع ما أسماه مونتيني ب”خلفية دكان” (حرية الفكر التي تمنحها المقارنة مع الأقدمين). كل شيء حدث أمام الملإ، تحت أضواء ملك “طلائعي” مع الحداثيين، فرضت الراهنية ذاتها، وأصبح الكل خاضعا للمستجدات والأخبار الأخيرة، ذاكرة القدماء، احترام السلف، الرجوع إلى الأسلاف المتقدمين الذين يمدوننا بعناصر المقارنة، بسلم القيم، بمعنى مشترك وبانفصال ما كذلك. كل ذلك لا يعفي من السقوط في نزعة المحافظة على الراهنية، على الموضة، على الجديد. قال دي توكفيل سنة 1840 للأمريكيين: أنتم منغمسون كليا في المباشر، وقد تكون لكم المصلحة في إنشاء جامعات ممتازة في رحابها يمكن للبعض منكم أن يتعلموا الإغريقية، اللاتينية، ويدرسوا الكلاسيكيات. سوف تتوفرون ضمن مجتمعكم على عقول مستقلة قادرة على النظر فيما وراء النزعة المحافظة. هذا الدرس يصلح لنا اليوم. لهذا السبب، ضمن أسباب أخرى، كافحت من أجل العودة لتدريس الآداب القديمة الأجدر بمنح ذاكرة ممتدة لعقول ساخرة ومستقلة، لأنها محمية من الانحباس في إطار تقديس وعبادة الجديد ونزعة المحافظة على المباشر.
-لكن أليس هناك تفاهم مشترك بين الحزبين المتعارضين على أرضية قومية بإحدى الصور؟ كان العصر بهيا وحققت اللغة الفرنسية نجاحا باهرا…
+ القدماء والمحدثون في القرن السابع عشر يتقاسمون عن قناعة ملاحظة مفادها أن اللغة الفرنسية بعد تفوقها على اللاتينية والإيطالية، أثبتت ذاتها كلغة تتداولها العقول في أوربا، لكنهم لم يستخلصوا من ذلك نفس النتائج. القدماxيحبون لغتهم ويكتبون بالفرنسية، لكنهم يرجعون إلى تراث العصور القديمة اليونانية والرومانية التي تم توقيفها مع المسيحية منذ زمن بعيد. هكذا نحصل على أفكار أولية تحرر الفكر من الانطمار المبكر في المباشر وعلى معايير أقل تضليلا للحكم على الإنسان. الحداثيون لعبوا لعبة خطيرة. تمجيدهم للملك الحاكم وعدم تمييزهم بين التجديد العلمي والتجديد الأدبي مهد أحدهما إلى العقلية المزعومة. لقد أفضى بهم تمجيدهم لكل ما هو راهن إلى أحد أشكال القومية. كتب بيرو حكايات ادعى أنها تلائم العبقرية الشعبية لفرنسا الحديثة وذلك بغية تعويض الميثولوجيا الإغريقية-اللاتينية التي نعتها بالقديمة. إنه فتح الطريق لكل من هردر وجريم اللذين ينتسبان إلى الإثنية الجرمانية.
– بعيدا عن اعتبارات ذلك العصر، ما هو اتجاه وتطور هذه الخصومة؟
+ لقد تعاطى بيرو لاحتفال بلويس الرابع عشر مبالغ فيه وجسد مقدما الاحتفال بنابليون وسادة آخرين محدثين، لكن خلف هذا التمجيد الدنيء للملك، يثوي شيء آخر: فقدان الذاكرة لقيمتها في التأمل الأخلاقي والابتكار الأدبي. نجاحات “العلم الجديد” التي حققها ديكارت وجاليلي حملت الناس على الاعتقاد بأن المعطيات التي تقدمها الذاكرة في جميع المجالات أصبحت مهجورة وإن كان المهم، الحقيقي، حتى في الفنون والفلسفة والأدب، هو ما تسلمه لنا في النهاية. بدأت الناس اليوم وانتهت إلى الإشادة ب”ألإبداعية” على جميع الصعد.
– هذا ما أدى بك إلى إلى عنونة الدراسة التي تصدرت كتابك الأخير “النحلات والعناكب” لأجل استعادة مثل مهم استعمل في الخصومة…
+ نجد هذه الحكاية في “حرب الكتب” (قديمها وحديثها) الصادر سنة 1694، وهو يعد من النصوص الأساسية في الخصومة. في هذا الكتاب يأتي جوناتا سويفت على ذكر القدماء والمحدثين ملتجئا بدهاء إلى ما ترمز إليه النحلات مماثلة لربات الفن، بنات الذاكرة. النحلات تدخر الأنساغ التي تجدها ذات رائحة عطرة في الأزهار وتستخرج من ذلك العسل والشمع. الأول يغذي والثاني ينير العقل. أما العناكيب فتستخرج من فضلاتها خيطا ناعما تنسج به أقمشة هندسية، هي أيضا بمثابة فخاخ. يستعمل سويفت هذا المثل للتشديد على حكمة النحلات (القدماء) الذين ابتكروا مثل سقراط، فيما تدعي فردانية العناكيب (المحدثين) العلم والقيام بأعمال أنانية استلزمت منها أي شيء. سوف يوسع سويفت هذه الحكايةفي كتابه “رحلات جوليفر” الذي يقدم فيه نقدا لا ذعا للمحدثين.
بصرف النظر عن قوة إقناعه، فإن ما يثير اهتمامي في مثل سويفت هو خصوبته. لم تتوقف علنية استعادته واختباره حتى يومنا هذا. سنة 1714، أصدر برنار دومانفيل، طبيب هولندي الأصل، كتابه “حكاية النحلات” الذي استعاد فيه المعنى التقليدي للرمز. يؤكد مانفيل، وهو يستوحي آدم سميث المنظر الكبير في الاقتصاد الليبرالي، على أن العيوب الخاصة تعطي السعادة العامة. في جمهوريته النحلية، الكل يتبادل مع الكل، الكل يسرق الكل،لكن الجميع يعلنون أيضا عن تشبثهم بالمثل العليا الدينية، الأخلاقية والجمالية. السياسيون يستعملون هذه المبادئ الكبرى الخادعة لإضفاء واجهة نظامية على هذه الفوضى.
أقام ماركس وزنا كبيرا لماندفيل في كتابه “الرأسمال”. استعاد نقد ماندفيل لنفاق المجتمع البورجوازي العديم الشفقة، النهاب، الواعظ الأخلاقي الكبير مع ذلك. بفضل قصة النحلات والعناكيب كانت جل المسائل الأساسية المتعلقة بالحداثة ومعارضتها مرتبطة بقوة فيما بينها: بروز النزعة الفردانية، ظهور سوق التبادل الحر، مرور الفنان من الابتكار إلى “الإبداع”.
– لقد تفوقنا، خلال هذا الحوار، في عدم النطق بكلمة “التقدم”، مع أننا لمسناها غالبا، ذلك أن أحد الأسباب التي تعفي المحدثين من الرجوع إلى الماضي هو تمسكهم ب “تقدم” مستمر للإنسانية، مفترض يجعل من فناني اللحظة الراهنة كائنات في أعلى مرتبة من فناني الزمن الماضي. ألا يعد الرجوع إلى مفهوم التقدم لأجل تجديد وضع الفنان مخالفا للمألوف؟
+ يحيل بيرو على التقدم بشكل صريح في قصيدته المؤرخة ب1687، لكن التقدم الذي نتحدث عنه ليس هو تقدمنا، إنه راجع مرة أخرى إلى رؤية دوريةللزمن تفترض أن كل دورة تبلغ أوج مجدها…تلك هي الحالة في قرن لويس الرابع عشر. لكن بمجرد ما يتم تجاوز هذه القمة حتى يبدأ الاندحار. فعلا، حسب هذه الرؤية للزمن بعد لويس الرابع عشر، بوشر الحديث عن الانحطاط الذي كان أحد هواجس القرن الثامن عشر.
لكن، في غضون ذلك، ترسخت خطوات العلم على درب التقدم، وتم الانتقال من الزمن الدوري إلى الزمن الخطي الذي يضمن، بفضل التراكم، تقدم العلوم والتقنيات. كتب كوندورسيه في سرية تامة سنة 1793 أن تقدم العلوم ليس سوى حالة خاصة من تقدم عام، يحتضن في وقت واحد جميع شعب العلم والحضارة. تلك مسلمة حديثة في حالة صفاء. والحال أنه لم تكد تمضي بضع سنوات حتى صاغ روسو أطروحة عكسية، ظل نقد الحداثة يستمد منها مقوماته منذ تلك الفترة. في داخل روسو كمن منظر راديكالي لمساوئ التقدم: الانحطاط بدأ منذ اختفاء الحالة الطبيعية. لم تتباطأ وتيرته إلا في المجتمعات البدائية وجمهوريات العصور القديمة.
لا شيء من ذلك بعيد عنا تماما. حاليا نعاين من جهة اغتباطا بالتقدم بلغ أوجه، مثلا مع ظهور الإنترنت، وخلال سنة أو سنتين، ظن الناس أن الإنترنت سيعيد تشكل مجموعة بشرية مثالية وحرة، عالمة ومتواددة، إلخ…لكن من جهة أخرى، كل الأنماط من التيارات الفكرية، بعضها مختزل وبعضها الآخر واضح جدا، تسترعي الانتباه إلى الإفقار الروحي للبلدان المسماة متقدمة وتقدم جردا للتأثيرات الضارة التي يمارسها التقدم على التوازنات الطبيعية، الأخلاقية والسياسية. هكذا يستعيد الجدل بين التفاؤلية والتشاؤمية نفس الأسئلة التي طرحت في الخصومة القديمة، مع ما يستلزمه الأمر هذه المرة من رهانات بالغة الخطورة وباعثة على الدوار

اترك رد