مسرحية “حدائق الأسرار” أو البوح المر

د. مصطفى الطالب / ناقد فني وسينمائي

للمسرح سحره وجماله، ينقل الإنسان من ضيق الواقع إلى فساحة الكون وحرية الفكر ويدفعه للتساؤل عن ماهية وجوده وكينونته.

هذا السحر وهذا الجمال وهذه الروح المنيرة للمسرح هي التي سعت فرقة “أكون” أن تقدمها للمشاهد في عرضها المسرحي الجديد “حدائق الأسرار” للمخرج محمد الحر وأداء الفنان المقتدر ياسين أحجام (الذي لا شك يجد ذاته في المسرح أكثر من التلفزيون) و الممثلتين المتميزتين جليلة تلمسي وهاجر لحميدي.

الفرقة قدمت عرضا مسرحيا قويا وعميقا في بعده الجمالي والفني والموضوعاتي ومحملا برسائل ذات منحى إنساني واجتماعي وفلسفي.

تسلط مسرحية “حدائق الأسرار” الضوء على معاناة أسرة تتكون من أب (لعب دوره ياسين أحجام بأناقة) وأم وبنتهما وهي في مرحلة الشباب. في الظاهر تبدو الأسرة كباقي الأسر لكن الحقيقة أن كل فرد من أفرادها يحمل همومه ومعاناته في صمت وفي عزلة إلى أن جاء الوقت الذي انفجرت فيه البنت ( التي أدت دورها الممثلة هاجر لحميدي باحترافية وبشغف وكأنها هي المعنية بالأمر) في وجه الأسرة وفي وجه المجتمع الذي أرغم الأب والأم على زواج تقليدي لم يكونا يرغبان فيه. فالزوجة (جسدت الدور جليلة تلمسي بقوة وبإقناع) كانت تستعد للزواج من رجل كانت تحبه ويحبها لكن ظروف الهجرة غيبته لتضطر أن تتزوج من أخر لإرضاء عائلتها، والزوج هو الآخر كان يحلم بحياة أخرى.

لينطلق مسلسل البوح والجرح والألم والاتهامات المتبادلة، لتتكشف لنا “أسرار الحدائق” وجحيمها المخفي. فتجد الأسرة نفسها أمام هذا الواقع العبثي في ظاهره ولكن في الحقيقة يخضع لمنطق المجتمع الجاثم على أنفاس الفرد وكينونته بماديته وأنانيته وعنفه. فتطلب الزوجة الطلاق والبنت التي سئمت حياة أسرتها تريد أن تحلق بعيدا مع من تحب خلافا لما عاشته أمها جراء زواج تقليدي، ضدا في أبيها  الذي يريد أن يفي بكلمته اتجاه الرجل الذي تقدم لخطبة ابنته التي على ما يبدو هي الاخرى وافقت دون رضاها. فتتأزم وضعية الشخصيات أو العائلة التي تجد نفسها على حافة الانهيار بعدما ظلت متماسكة على مر السنين. ما الحل إذن؟ فلا تجد الأسرة الحل لمشاكلها ومعاناتها إلا أن تستمر في التكتم على أسرارها وفي أداء “اللعبة الاجتماعية” أو مسرحيتها أمام الناس وأمام المجتمع عوض الطلاق، ولتستمر نفس المنظومة الاجتماعية بمنطقها العبثي الجاني على الفرد والذي لا يقيم وزنا لكينونته ولأحاسيسه ورغباته. فعبارة “حدائق الأسرار” إذن تحيلنا  إلى عالم الأحاسيس والعواطف والأسرار الباطنية والمعاناة التي يتكتم عليها الفرد ويسعى أن تظل بينه وبين نفسه لإنقاذ ماء الوجه. أو ليس يقال: لكل فرد منا حديقة أسراره؟

لقد جاء أداء الممثلين مقنعا جسدا وصوتا وتعبيرا وتفاعلا من جهة مع الشخصيات ومعاناتها ومن جهة أخرى مع الركح وفضاءاته التي تم توظيفها بشكل يخدم ليس فقط أحداث المسرحية ومشاهدها وإنما أيضا حركة الممثل وعوالم الشخصيات الدفنية والتي كانت للمؤثرات الصوتية والبصرية دور في إبرازها للجمهور. وفي هذا الإطار كان اختيار المقاطع الموسيقية موفقا خاصة مقطع الأوبرا الذي كان يضفي جوا مهيبا على العرض بالأخص مع مشاهد المونولوج (للشخصيات الثلاث) حيث الاعتراف والبوح الأليم الذي كان يتجسد بقوة مع البنت الثائرة وأيضا مع الأم التي سئمت حياتها. كما أعطى إيقاعا تصاعديا لتسلسل الأحداث وتطورها ولتأزم نفسية الشخصيات وتفاقم علاقتها مع محيطها الأسري والاجتماعي.  

وما كان هذا التصاعد في الصرع الدرامي يتحقق لولا قوة وعمق الحوار شكلا ومضمونا، فكما هو معلوم للحوار دور في إظهار الأبعاد الثلاثة للشخصية المتكلمة في النص  المسرحي: الأبعاد الجسدية والنفسية والاجتماعية. وبما أننا في عالم البوح وكشف الأسرار فقد استطاع الحوار أن يغوص في ذوات الشخصيات وعوالمها وأن يمتع سماع وبصر المتفرج من خلال لغة النص المعانقة لمعاناة وأحلام وبوح الشخصيات.

لقد لعبت اللغة دور كبير في إضفاء جمالية أخرى على المسرحية إلى جانب جمالية الأداء وجمالية السنينوغرافية (لمصطفى العلوي) التي كانت تفاجئنا عند كل مشهد بتجدد الديكور واكسسواراته  التي تعددت دلالاتها ورمزياتها، مثل  الثلاجة التي تخرج منها البنت والتي ترمز إلى البحث عن برودة الأعصاب التي تغلي يوميا جراء مشاكل الأسرة، أو لعبة المرآة، أو من خلال اعتماد التضاد: الأبيض (لباس البنت ) و الأسود (لباس الأب والأم)، الحب والكره، القسوة والحنان، البراءة والإحساس بالذنب، الظاهر والباطن (من خلال الجدار الذي يخفي ثم يظهر المعاناة)…فكل هذه المفاهيم والمعاني تجسدت على مستوى السينوغرافية واللغة.

فقد جاءت اللغة (العربية الفصحى) شاعرية وأدبية سافرت بنا بين الشعر والفلسلفة والمسرح من خلال صور بلاغية تجمع بين الواقع والمتخيل ومن خلال ايحالاتها أحيانا على كتاب وشعراء وفلاسفة مثل سارتر وكامو وفرويد و الشاعر أمل دنقل والشاعر الكاتب المسرحي الإسباني غارسيا لوركا الذي جسدت المسرحية رؤيته للمسرح حيث يقول: “المسرح شعر يخرج من الكتاب لينزل إلى الشارع“.  ثم ايحالات على شكسبير عبر مقولته الشهيرة على لسان بطله هاملت:”هناك شيء نتن في المملكة”. والتي وقعت بها نهاية المسرحية.

ومما ساهم في جعل االحوار قوي و متماسك  هو السلاسة في الانتقال من العربية الفصحى إلى الدارجة التي وظفت بشكل كبير إما للتعبير عن الغضب والسخرية والتهكم أو الضحك مثل البنت التي ظهرت في مشهد وهي تدعو على أبيها ان يمزق الله جسده في حادثة سير مروعة، مما اعطى للمشهد نكهىته الكوميدية رغم بعده المأساوي. وكذا لفضح واقعنا المغربي المليء بتناقضاته الاحتماعية والثقافية، ثم الانتقال أحيانا من الدارجة إلى الفرنسية للتعبيرعن اللاشعور أو عن بعض الأحاسيس الدفينة مثل اللحظة التي ترفض فيها البنت تبريرات الأم  فتنفجر أمامها قائلة بالفرنسية :Tu me dégoutes. بمعنى تقرفيني. فاستعمال اللغة الفرنسية هنا كان موفقا لأنه وفى بالغرض أو المعنى.

رغم هذا التباين على المستوى اللغوي  وإن كانت اللغة العربية هي الطاغية على المسرحية،  لم يأتي الحوار فجا بل على العكس من ذلك جاء الحوار متناغما ومتناسقا في خدمة المعنى وإيصال رسالة العرض المسرحي.

وهنا لابد من تقديم تحية أدبية وفنية لفرقة “أكون” على هذا الاختيار الموفق الذي يبرز جمالية اللغة وبلاغتها وشاعريتها والذي ينتشلنا من التنميط أوالتسطيح الذي تسقط فيه العديد من العروض المسرحية التي تكتفي فقط باستعمال اللهجة العامية أو الدارجة المغربية. ذلك أن المتفرج المغربي يحن اليوم إلى عروض مسرحية تعيد للنص المسرحي هيبته وسطوته وجماليته من خلال استعمال اللغة العربية التي كانت لغة إبداع مسرحيين مغاربة كبار مثل الراحلين الطيب الصديقي ومحمد سعيد عفيفي والكاتب المسرحي د.عبد الكريم برشيد والمسرحي عبد الحق الزروالي وغيرهم من الكتاب المسرحيين الذين أبدعوا بحق باللغة العربية او بدارجة ترقى إلى اللغة العربية في بلاغتها وجمالها، كما هو الشأن بالنسبة للفنان الراحل المتميز الحاج محمد حسن الجندي.

لا شك أنه لا يمكن لعرض مسرحي أن يكتمل وتتجمع كل عناصره لولا الإخراج المسرحي أو عبقرية المخرج – المايسترو الذي يشرف على الربط بين كل مقومات العرض المسرحي من خلال رؤيته الفنية والثقافية.

في هذا السياق يمكن القول ان نجاح مسرحية “حدائق الأسرار” تحقق أيضا بفضل أن العرض جمع بين نظريتين متكاملتين للإخراج المسرحي. النظرة الكلاسيكية التي تعطي الأولوية للنص المسرحي ومضامينه ومعانيه لتمكن المتفرج من تذوقه على جميع المستويات الأدبية والدرامية. وهذه الرؤية تظل وفية للكاتب ونصه الذي يعكس رؤيته الإبداعية والوجودية، دون تغيير أو نقصان.  وتعتمد على تسخبر الممثل جسدا وحركة وصوتا، أي من أجل خدمة النص بأحداثه وشخصياته وعوالمها.                    ثم هناك الرؤية الحديثة التي تجمع بين جمالية النص وجمالية الإخراج (السينوغرافية والديكور والمؤثرات السمعية والبصرية) بحيث لا تبخس الدور الدراماتورجي للمخرج في بلورة النص المسرحي من خلال اعتماد الأساليب التقنية والفنية الحديثة التي يعتمدها الركح اليوم.

طبعا لا يخلو أي عمل فني من النواقص فذلك من طبيعة الإنسان لكن الإخراج كان عموما مقنعا ومتماسكا.

غير أن هناك ملاحظة لابد من الإشارة إليها وتطرح اليوم بحدة، لها علاقة بالأعمال الفنية عموما وبرؤية المخرج للمسرحية خصوصا. ويتعلق الأمر بالتدخين في العرض المسرحي بحيث يظهر الممثل ياسين أحجام الذي يقوم بدور الأب، في بداية العرض وهو يدخن. لا شك أن ذلك يدخل في إطار شخصية الأب كما تصورها كاتب النص، وأكيد أن المسألة ليست لها أي خلفية أخرى، أي بدون قصد.

لكن الأمر أكبر من ذلك لأن له تبعات اجتماعية، بحيث له تأثير على المتفرج خاصة شريحة الشباب. فقد أكدت دراسة أمريكية حديثة (أجريت على الشباب) أن الأعمال الفنية  (أفلام أو عروض فنية) التي تحتوي على مشاهد التدخين (والكحول) تؤثر على المراهقين والشباب، بحيث أن لها أثر بالغ على تمسكهم بهذه العادة المضرة للصحة أو على تشجيعهم على التدخين. ونحن نرى ذلك اليوم بالملموس في صفوف الطلبة الذين يعتقدون أن التدخين مظهر من مظاهر الرجولة أو النضج أو التحضر.

لمحاربة هذه الظاهرة أوصت منظمة الصحة العالمية منذ سنوات حكومات العالم باتخاذ التدابير اللازمة وبالأخص التوقف عن تمويل الأعمال الفنية خاصة السينمائية  والتي تُظهر مشاهد استخدام التبغ أو التدخين.

وفي هذا الإطار لابد من التذكير أن محكمة كندية حكمت  بغرامة مالية السنة الماضية (2021) على ثلاثة مسارح لكون مدرائهم سمحوا لمشهد يظهر فيه ممثل وهو يدخن على خشبة المسرح، ذلك  أن الجمهور الحاضر استهجن ذلك التصرف ورفع البعض منه دعوة ضد مدير المسرح، وهي الدعوة التي ساندتها وزارة الصحة الكندية رغم تذمر الفنانين ومديري المسرح من ذلك لاعتبارات فنية محضة (للتعبير عن التخريب الذاتي لدى الشخصية).

فهل يعي فنانونا  خطورة مثل هذه المشاهد ومدى تأثيرها على الجمهور وخاصة الشباب؟ فالفنان بحكم موقعه له تأثير قوي وله مسؤولية أمام التاريخ وأمام المجتمع وأمام ضميره وهو مساؤل عليها. فالفن حرية والتزام والجمهور يقدر الفنان الذي يلتزم بهذا المبدأ. وكما قال الكاتب الفرنسي الشهير فكتور هيجو الذي خاض معركة “هرناني” المسرحية :”المسرح هو شخص ما. إنه صوت يتكلم ، إنه روح تنير، إنه ضمير يحذر”.

د. مصطفى الطالب

ناقد فني وسينمائي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *