fbpx

القــــشــلــة…..دوار لمخـــازنــية الملاذات الهاجعة …..بوابات الحنين

وادي زم: 
محمد صمري أبو ريحانة
هي أمكنة يمتزج فيها الدمع بالندى وتفترش فينا عروش القلب ،
وكلما عبرناها تتنفس الأعماق العطشى دواخلنا ،يشعت الحزن
في رؤوسنا ويرتعش الفرح في أجسادنا ويلطمنا ،تلبسنا لوعة شاهقة لاذعة و تستعر رياح الشوق لتدق دفوفها
وترثي طيف وجوه وهامات مرت من هناك ،أمكنة افترشت
جدامير السحق والقحط بعد أن كانت فراديسا ذابحة
في أعالي الروعة والجمال تستصرخ زخات الرذاذ الشفيف العابر
وهمس الريح الطليقة التي تلامس حوافي العتبات المهجورة مترنحة كزبد يعانق الموج في حضرة البحر.
القشلة بذرة مخصبة في قلب الشهيدة وذاكرتها، يشهق التراب آسفا تحت أقدام عساكرها مستعجلا انبلاج الفجر ،اليوم أدعنت للصمت
واخرست كل أبواب البوح بنايات نفدت نفحات عطرها الطيب وخفت عبق عبيرها، وانفطر أريجها وتحول إلى أثلام ،وبترت حبال الغسيل تحت أشعة الشمس وجفت دموع كساها…. القدر اللعين
ا أوغل مناجله ولوى بأعناق كل سنابل المواعيد لتسعل الريح
في جوف الدروب وتتكلس على صهوة الانتظار، أضواء واهنة
مرتعشة تنبعث من أعمدة مشققة كبصيص من مصباح يدوي هرمت بطاريته، دروب تكحلت بالفحم وتلونت به ونامت في الظلام تآكلت السواري وانشق الطين على الجدران وعلا الصدأ
مقابض الابواب وأصبحت الحدائق شعتاء، تهرأت النوافد والشرفات
واهتزت صفائح القصدير فوق السطوح ولم يلطم أحد
حيطانها بالملاط ،سواري منخورة قضبانها عارية ملتوية ، دور هاجرتها طيور الفجر وأربكت أغرودة أطيارها ، ومواء قططها
الخفيض على الشرفات بعد أن كانت بيوتا ناسكة في البهاء والهدوء
تتبرج بحنطتها الأمازيغية وترفل في قفطانهاالأطلسي والريفي ، تتأمل تلك المساكن بدهشة الممسوس فيعتريك غضب وحنين
لايقاس فتشتهي أن تلثم على شفاه الجدران والعتبات بكل شبق
لتغرق في تعبك وفقدك المرتجف أمام هول الإمحاء الذي امتص جدائل الذكريات وشهقة الأحلام المنبهجة في أروقة المكان.
تعبر دروبها جنود بخطوات ساهية وزحف متمهل وقد سقط الري
الريش من أجنحتهم وأوغل الآسى منجله ليحصد كل المواعيد الجميلة،أعمار مذبوحة نزفت على رمال الصحراء في أصابيح وأماسي مزيفة ووعود وكلام عابر يرفرف على حبال الهواء، دفنوا ضحكاتهم المجلجة الرقراقة، يصيخون إلى صمت عظامهم ،ويتكؤون على راحة صمتهم وقد غادرت البسمة شفاههم ،أجساد نازفة منخورة تلملم خراب الأيام، رؤوس مغموسة في ضباب الأحزان تساقط شعرها وابيضت لحاها ،وأجفل النوم من
عيونها يتناوبون على عتبات المسجد يسبحون بافواه مفتوحة للشتم والتدمر بحمد الله وشكره وكرمه لاعنين بأدعية مقبرية مطلسمة كل من سرق معاشهم وخسسه،يرتقون الضياع بإبرة الانتظار ويخدشون فراغ النهار لعلهم يسرقون بعض الفرح الهارب
تحاصرهم رزمة استفهامات حول المعاش وغلاء الأسعار وزحف العمران… يخاتلون قدرية الأيام بخطوات حذرة، يمشون متراخين
وبعضهم موشك على السقوط وهو يمسك نفسه ،يداه خلف
ظهره يحذق في أرجاء القشلة تمور في عروقه موجة من غضب أخطبوطي الامواس تندس في جمجمته
الكثير من الاحزان والاسرار فكيف يا ترى انقلبت أحوال
الكثير منهم من قمة الصلابة والتماسك إلى هذا المنحدر من الضعف والوهن ليتحولوا إلى كائنات كئيبة تشكو من ألم المفاصل ومسمار الكيف والمعاش الاسود ……
فوادعا لكل جنود القشلة القدامى الذين غادرونا في
هجعة الليل قاطعين المسافات القصية لأمراس حقول قراهم الأمازيغية والريفية حيث تهدهد نسائم الهواء السهل والعشب والهضبة وأفواههم مختومة ببوح مغتال في جرابهم الباردة ،في انتظار ماتبقى من عدة زمانهم……
رحلوا بآمال وأحلام وذكريات عالقة في حلق القدر
ليعانقوا تراب قراهم بتوهجها واندياحها المضيئ ،بخرير سواقيها ونقيق ضفادعها، وهديل أطيارها ،وثغاء تيوسها النافرة وسجع حمامها عند الاصائل على مئدنةمسجد الدوار والتفرج على رقصة الطائر “بوعميرة” في غبش الفجر فوق حقول الزيتون يغازل الغيوم المشردة في أعالي الافق البهي ودفء بيوتها الواطئة بأطيافها النورانية المسربلة بشمس تهتك ستائر الافاق وتستصرخ التاريخ…..
وداعا أيها العساكر الشجعان القادمون من قبائل أضرمت النار في شياطين الفرنسيين ،الذين لم يمضغهم ضرس الموت في جراب (التشابولات ) ،الهامات التي عصت برطمة الاطباء ،ولعقت حليب حبات الرمال بالشفاه اليابسة ولم تنحن لخرافة الموت وإن اختفت تلك الضحكات المجلجة و تهاوت صولاتكم وخف وقع أحذيتكم السوداء على حصى الممرات شامخين في تفاصيل طفولتنا تنزلق وتتقافز أساميكم في تجاويف ذاكرتنا : موحا ،باسو، حوسا،
ميمون ،عقا، علي ،بيهي ال: 30 و40 بوهو ،أملال ،باها، موحند ،خلاف، باهو، أمقران،والرائعات العفيفات الصاهلات كالمهور إيطو، إيزة، فاظمة، عائشة وميرا، تافوكت،تيناس هن زهور برية بتعاويد آسرة وأمنا (تودا ) بأتوابها المبرقشة وعقدات رأسها المتميزة التي تربعت في أرجوحة القلوب…تفك الضيق عند الملمات
ولو كلفها الأمر بيع أقراطها الذهبية، دوما حاملة للشموع وقناني ماء الزهر تفرغها على الضيوف كلما أقيمت الحفلات ومدت الأسمطة وتعاريج ظفائرها منسابة على كتفيها رافعة أكمامها على أساورها الفضية بلا غنج ولا احتشام تصدع بصوتها العذب وزغاريدها الثاقبة المولولة في تجاوب منظوم مع باقي نساء القشلة وبأنفاس مشتركة.
…( تودا) الجميلة دون أن تزج حاجبيها وتكحل عيونها وتطلي ثغرها بالأحمر …سليلة أغصان الزيتون بأقراطها الأمازيغية وعقيقها المتلئلئ سيدة الوشم في أسافل الأعناق والدقون الذي لا يعرف ما المحو سيدة روابي الزعتر وتيميجا …الزنبقة الزاهية التي تنبلج نورا دافقا عبر دروب القشلة نافثة الكثير من الفرح بصوتها المتهدج والمهموس والايادي القزحية المنقوشة بوشم الجمال والإباء التي غاص حبها في مسام جلودنا و التي كانت مروحة وإزميلا نحث الكثير من الذكريات….
تلك جميعها أسماء حارة محفورة ومضطجعة على عتبات بيوت دوار المخازنية و القشلة ببركات غير مرئية أنبتت سلالة من الصالحين رغم بؤس الحال تاركة صداها لخرائب الذكرى وسهو الأيام والمصادفات الراعشة وبوح العتمات .

وستبقي أعيننا مشدودة لصدى ظل تلك الأمكنة نقرأ فيها حروف الحنين ونصوص الغياب عسانا نكنس فائض الآسى عن عتبات أبواب غجرية لم يعد لها متسع لتتبرج بحنطتها من شهقات الأيام……

اترك رد