تأليف وإخراج محمد زيطان
فرقة حوار
بقلم: رشيد بلفقيه.
تشتغل الاستعارات في المسرح على مستويات متعددة، مابقي المسرح “استعارة كبرى” يأوي إلى ركحه المجاز بأنواعه جميعها، فنجدها أحيانا تقفز خارج حدود النص لتتخذ مظهرا ماديا في العرض، ونجد آثارها في أدق التفاصيل السينوغرافية حيث تعمل على تفسير ما عجزت اللغة في ثوبها اللساني عن التعبير عنه، لذلك يكتسي الكشف عن تمظهراتها في العرض المسرحي أهمية كبيرة لكل متلق للخطاب المسرحي.
ليس من الصدفة كما يقول الأستاذ حسن لمنيعي أن يتناول”غومبروفتس” استعارة اللباس للإشارة إلى الشكل، فالشكل هو البذلة التي نرتديها لتغطي عرينا المخجل، إنها -أي استعارة اللباس- درع يضع حدا للتأثيرات الخارجية كما أنها تستر الفجاجة الداخلية.
في عرض “مقال افتتاحي” المقتبس عن نص مسرحي يحمل الاسم نفسه، تشتغل استعارات اللباس بشكل خفي لكنه مؤثر لتكشف للشخصيات، التي شاءت مخيلة الكاتب أن تجعلها تجتمع في ذلك المقهى المتواضع لتتأمل واقعها وتعيد التفكير في ماضيها، -لتكشف لها- مدى حاجتها إلى التشبث بشكلها الخارجي من أجل تأكيد انتمائها إلى طبقة اجتماعية معينة، تبرر وجودها وتبرر حياتها أيضا.
تشبّثٌ بقدر ما يبرز العلاقة العمودية الصارمة بين طبقات المجتمع، بقدر ما يكشف انعدام نضج تلك الشخصيات وضعف ثقتها في ذاتها، واستعدادها الكبير للتماهي مع المظاهر الخارجية لطبقتها الاجتماعية بما يجعلها مجرد علامة مزيفة تمارس لعبة الإخفاء والاظهار بحذر من يخشى ضياع ما في يده، لكن فضول اكتشاف ما تخفيه اللعبة يبقيه داخلها إلى النهاية.
لكن، ضدا عن رغبتها، تسقط تلك الأقنعة المنمقة التي حرصت على ارتدائها شيئا فشيئا لتتعرى الشخصيات (بمعنى مجازي) أمام المتفرج، كاشفة ما أخفاه ذلك التنميق الخارجي الذي أحاطت نفسها به، وفق مسار درامي متصاعد “يرصد التبدلات العميقة التي تلحق بالفرد، وهو يتحول من شرط اجتماعي ونفسي إلى شرط آخر مختلف، وما يعنيه ذلك من تراجيديا التجاذبين الصعود والأفول، أوالتسلق والتدحرج… وكل الأشياء وأضدادها، وما يعنيه أيضا من نوبات تمزق الفرد”، كما وصفه محمد بهجاجي في تقديم النص المسرحي.
وفق هذا المسار ينكشف بالتدريج الحقد الطبقي الدفين الذي يخفيه النادل خلف رداء لباقته المبالغة في خدمة زبناء المقهى، وتكشف فاتن منصور زوجة السياسي المعروف وجه المحتالة والمدعية التي تسطو على أعمال غيرها من التشكيليين المغمورين وتنسبها إلى نفسها دون ندم، وتكشف الصحفية فريدة أنها خلف قوتها الظاهرة وقدرتها على الترافع على قضايا المرأة والحقوق، روحا هشة ومعذبة تحمل هم الموت الزاحف نحوها شيئا فشيئا بسبب مرضها المميت، ويكشف السياسي ورجل المال حمزة العرفاوي أنه خلف رداء القوة والتسلط مجرد شخص ضعيف يدفن أوجاعه في السكر هربا من ذاكرة تناصبه العداء، وتحتفظ له بلحظات مؤلمة من ماض يرفض التبدد.
تسقط ألبسة الشخصيات فتبرز حقيقتها، ويبرز معها توترها الشديد وضياعها، وتفكك عوالمها، وصراعها الداخلي الحاد، بل وإحساسها الثقيل بالمسؤولية التي تحملها ممثلة في التعبير عن صراع طبقي يعرّي فساد الصحافة عندما ترهن نفسها للمال والسياسة، وفساد الاقتصاد عندما يمتزج بالسلطة، وفساد الثقافة عندما تتقوى بالمال، وانسداد الأفق تحت وطأة التفقير والاستغلال.
تسرد الأحداث الدرامية مسارات سعي كل شخصية إلى الانعتاق وفق طرائقها، ليغدو ذلك البحث مأزقها الذي تعيش فيه، وتعيش لترى نهايته، ويغدو التخلص التدريجي من الكمال الذي ولجت به عالم المسرحية مسارها نحو سقوط تراجيدي يبرز كأنه الحل الذي قد يحقق تطهرها من آلام الماضي …