قرات لكم …القضية جاهزة: محاولة في التأسيس

اعداد ابو ايوب

وحي القلم 249
القضية جاهزة: محاولة في التأسيس
حكيم وردي ( باحث في القانون)

تضمر إرادة المشرع كما أجلتها مرآة النقض إقرارا باحتكار المحكمة سلطة القول بجاهزية القضية للاختلاء بها أثناء المداولة أو التأمل، بعدما استفرغت الجهد وكونت قناعة كافية للفصل في شأن ما عرض عليها من وقائع مادية، وأدلة ثبوتية، وما اهتدت به من إجراءات تمهيدية.
ورغم الاستسهال الذي قد توحي به بساطة فهم فكرة الجاهزية، فإن المعايير التي يمكن الاهتداء بها من طرف هيئات الحكم الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية صبيحة 15 يناير 2023 لمواصلة النظر في الملفات الجاهزة إعمالا لمقتضيات المادة 107 من القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي الجديد، تحتاج إلى تأصيل ولو سريع لبناء فهم موحد للجاهزية يمتح من القواعد التشريعية لاسيما القوانين الإجرائية على ضوء تطبيقاتها القضائية.
فبالنسبة للقضايا الزجرية
بصرف النظر عن انتفاء العلاقة المباشرة أحيانا للمواد التي سيتم إيرادها بغرفة الجنح الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية، فإن مسعى القبض على استعمالات المشرع لعبارة الجاهزية أملته منهجية القياس الجائز في قوانين الشكل عند بناء المفهوم وضبط معناه.
وتأسيسا عليه استعملت الفقرتين 5و6 من المادة 74 من قانون المسطرة الجنائية عبارة ” جاهز للحكم ” كضابط لإحالة الوكيل العام للملك للقضايا الجنائية على التحقيق أو غرفة الجنايات في الحالة التي لا يكون فيها التحقيق إلزاميا. وهو ما يدفعنا إلى المغامرة بالقول بأن (الجاهزية) في سياق المادة 74 ق م ج جاء بالمعنى اللغوي وليس المعنى الإجرائي، ذلك أنه حتى ولو كانت قراءة النيابة العامة للمحضر الجنائي تمكنها كسلطة قضائية في الحسم من توافر أدلة كافية على العناصر التكوينية للأفعال موضوع التكييف فإن مجرد إحالتها على من المحكمة لا يعني أنها ستدرجها في المداولة في أول جلسة. وإلا فإن جميع الملفات المحالة مباشرة على المحكمة تعد جاهزة وهو أمر لا يستقيم.
والدليل على ذلك أنه و حتى في ظل الإحالة المباشرة متى كانت القضية غير جاهزة للحكم، حسب الفقرة الأولى من المادة 362 ق م ج أمرت المحكمة بتأجيلها لمتابعة دراستها بجلسة أخرى يحدد تاريخها.. وحتى الغرفة الجنائية بمحكمة النقض بصريح الفقرة الثانية من المادة 570 ق م ج لا تبت في طلب المراجعة المرفوع إليها إلا بعدما تصبح القضية جاهزة.
وإذا كان قانون المسطرة الجنائية منسجم مع ترك السلطة التقديرية للمحكمة في تقرير الجاهزية حيث استعمل عبارة جاهزة في ثلاث مواد فقط (74، 362 و570) وهي للإشارة جاهزية إجرائية وليست زمنية، فإن قضاء النقض بما له من دور تفسيري وتوحيدي لفهم وتطبيق القانون، حسم في الوقت الذي تعد فيه القضية جاهزة، بتمييز واضح بين مراحل الدعوى العمومية والتي رتبتها المادة 304 ق م ج في تحقق الرئيس من هوية المتهم، والمناداة على الشهود، والتأكد من حضور الطرف المدني والمسؤول عن الحقوق المدنية والخبراء والترجمان. ثم يأمر بانسحاب الشهود والخبراء. ويشرع آنذاك في دراسة الدعوى.
وإذا كانت دراسة الدعوى حسب الفقرة الأخيرة من ذات المادة تشمل البحث والمناقشات، فإن بحث القضية كما حددته الفقرة الأولى من المادة 305 ق م ج يشمل استنطاق المتهم إن كان حاضرا والاستماع إلى الشهود والخبراء وتقديم أدوات الاقتناع عند الاقتضاء. في حين تجري المناقشات طبقا للمادة 306ق م ج بعد انتهاء البحث، ما لم يتقرر خلاف ذلك بمقتضى قانون خاص، أو بأمر من الرئيس حسب الترتيب الآتي:
– يقدم الطرف المدني إن وجد طلبه بالتعويض عن الضرر؛
– تقدم النيابة العامة ملتمساتها؛
– يعرض المتهم دفاعه وكذا المسؤول عن الحقوق المدنية عند الاقتضاء؛
– يكون المتهم آخر من يتكلم.
يعلن الرئيس بعد ذلك عن انتهاء المناقشات.
ورغم تنصيص المادة 370 ق م ج على بطلان الأحكام أو القرارات أو الأوامر – إذ لم تكن هيئة الحكم مشكلة طبق القانون المنظم لها، أو إذا صدر الحكم عن قضاة لم يحضروا جميع الجلسات التي درست فيها الدعوى؛ فإن محكمة النقض استقرت على أن الزامية حضور القضاة تحت طائلة الإعادة او البطلان لا تشمل مرحلة البحت ولكن تشمل المناقشات (العديد من قرارات النقض المنشورة بموقعها الالكتروني على هذا التوجه من بينها نقض جنائي عدد 1527/2017 صادر بتاريخ: 21/11/2017 في الملف عدد 6746/6/4/2016،).
وبالبناء عليه فمتى كانت المادة 107 من قانون التنظيم القضائي بعدما نصت على الإحالة بصفة انتقالية للقضايا المستأنفة المعروضة على الغرف الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية، غير الجاهزة ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ، إلى محاكم الاستئناف المختصة، أكدت على استمرارية الإجراءات والمساطر المنجزة بصفة قانونية.دون إعادة، وكان المستقر عليه في قضاء النقض أن المرحلة التي تعاد أو تبطل المقرر إذا لم يحضرها جميع القضاة الذين شاركو في القضية، هي البحت، أمكن الاستنتاج أن القضية الجنحية تكون جاهزة متى دخلت مرحلة المناقشات، أي المرافعة، لذاك دأب قضاة الزجر على استعمال عبارة القضية جاهزة قبيل إعطاء الكلمة للأطراف للمرافعة.
ففي المرافعة تكون القضية داخلت مرحلة تكوين القناعة الوجدانية والاقتناع الصميم باعتبارها عمق الممارسة البنائية للحكم الزجري.
ومجمل القول في سياق هذا التحليل تكون جميع الملفات الجنحية المعروضة على الغرف الاستئنافية بالمحكمة الابتدائية التي لم تختم فيها المحكمة البحت بتاريخ 15 يناير 2023 للمرافعة تعين إحالتها على محكمة الاستئناف المختصة.

أما بالنسبة للقضايا المدنية

فقد كانت المسطرة المدنية أكثر سخاء في محاولة الإحاطة بمفهوم جهوزية القضية، إذ بعد تنصيصها صراحة على أن القضية تكون جاهزة للبت بعد استنفاذ إجراءات تحقيق الدعوى المأمور بها، أو انقضاء آجال الردود ( 327.21 و 335 ق م م )، ارتأت الحسم في آثر بعض الإجراءات على جهوزية القضية، في شكل تنصيصات صريحة من بينها:
• يمكن إدخال شخص في الدعوى إلى حين وضع القضية في المداولة. غير أنه يمكن للمدعي طلب تطبيق مقتضيات الفصل 106 إذا كان الطلب الأصلي جاهزا وقت إدخال الغير (الفقرة الأخيرة من المادة 103)
• إذا كانت الطلبات الأصلية، وطلبات الضمان جاهزة في وقت واحد حكم القاضي في الجميع بحكم واحد ويمكن للمطالب الأصلي إذا كان طلبه جاهزا وحده دون طلب الضمان أن يطلب البت في طلبه منفصلا عن الطلب العارض على أن يحكم بعد ذلك عند الاقتضاء في طلب الضمان. (الفصل 106)
• يجوز للمحكمة في حالة طلب إدخال الغير في الدعوى أن تحكم في الطلب الأصلي منفصلا إذا كانت القضية جاهزة، أو أن تؤجله لتبت فيه وفي طلب إدخال الغير في الدعوى بحكم واحد. (الفصل 112)
• لا يمكن أن يؤخر التدخل والطلبات العارضة الأخرى الحكم في الطلب الأصلي إذا كان جاهزا. (الفصل 113)
• لا تؤخر وفاة الأطراف أو تغيير وضعيتهم بالنسبة إلى الأهلية الحكم في الدعوى إذا كانت جاهزة. (الفصل 114)، وإلا فأن القاضي يستدعي بمجرد علمه بوفاة أحد الأطراف أو بتغيير وضعيته بالنسبة إلى الأهلية سواء شفويا أو بإشعار يوجه وفق الشروط المنصوص عليها في الفصول 37، 38، 39 من لهم الصفة في مواصلة الدعوى للقيام بذلك إذا لم تكن الدعوى جاهزة للحكم. الفصل 115
وعليه فالقضايا المدنية الرائجة بغرفة الاستئنافات الابتدائية لا تعد جاهزة للحكم بتاريخ 15 يناير 2023 إلا إذا استنفذت المحكمة إجراءات التحقيق المأمور بها أو انتهت آجال الردود المحدد، وإلا تعين إحالتها على محكمة الاستئناف.
وعلى هذا التفسير استقرت دورية السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عدد 52/22 الصادرة بتاريخ 8 دجنبر 2022
حيث دعت ضماناً للتنزيل السليم للمادة 107 من قانون التنظيم القضائي الجديد، إلى حث القضاة على بذل الجهد لتصفية القضايا الرائجة أمام أنظار الغرف الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية فيما تبقى من مدة سريان القانون الحالي، وبرمجةِ جلساتٍ لهذه الغرف لفترةٍ انتقاليةٍ بعد دخول القانون الجديد حيز التنفيذ، تُخَصَّصُ للبت في القضايا الجاهزة، وإحالة القضايا غير الجاهزة إلى محاكم الاستئناف المختصة، مع الحرص على أن تكون الإحالة تدريجيةً وليس دفعةً واحدةً، وبتنسيقٍ بين المسؤولين القضائيين عن محكمة الاستئناف والمحاكم الابتدائية الواقعة في دائرة نفوذها.
وأضافت الدورية أن المشرع لما عالج هذا الموضوع ضمن القسم الرابع المتعلق بالأحكام الانتقالية، ونص صراحةً على أن إحالة القضايا غير الجاهزة على محاكم الاستئناف تبتدئ من تاريخ دخول القانون الجديد حيز التنفيذ، فهذا يعني أن الغرف الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية ستستمر في عقد جلساتها بعد دخول القانون الجديد حيز التنفيذ للقيام بعملية الإحالة، والبت في القضايا التي أصبحت جاهزة أمامها، وذلك حرصاً على حقوق ومصالح الأطراف، وتفادي إطالة أمد النزاعات من خلال إعادة الإجراءات فيها من جديد أمام محاكم الاستئناف.
هذا وسعت الدورية إلى سياقة أمثلة على المقصود بالملفات الجاهزة وفق المادة 107 أعلاه، القضايا التي أصبحت جاهزةً للبت فيها، واستوفت جميع إجراءات التحقيق المتطلبة قانوناً، ولم تَعُد تتطلب إجراءاتِ تحقيقٍ جديدةٍ، ويندرج ضمنها القضايا التي تُصبح جاهزة في أول جلسةٍ بعد دخول القانون حيز التنفيذ.
وبديهي أن إرادة المشرع تنصرف بموجب هذا المقتضى، إلى تلافي إعادة محاكم الاستئناف مباشرة الإجراءات من جديد عند إحالة القضايا عليها، ولذلك فإن الجاهزية تتوقف على استكمال دراسة الملف من طرف الغرفة الاستئنافية لدى المحكمة الابتدائية في الجلسات الأولى بعد دخول القانون الجديد حيز التنفيذ، ومثال ذلك أن تكون المحكمة قد استدعت شهوداً، فحضروا أمامها بعد دخول القانون الجديد حيز التنفيذ، أو انها تنتظر تقرير خبرة كانت قد أمرت بها سابقاً، فإنها في هذه الحالة تمضي في مناقشة القضية وحجزها للمداولة للبت فيها. وهذا ينسجم مع ظاهر النص ويحقق المصلحة القضائية ومصلحة الأطراف معاً.
وأخيرا لا تزعم هذه الورقة الحسم في معايير إعمال المحكمة لسلطتها التقديرية في اعتبار القضية جاهزة للحكم، لتعذر ذلك حتى على المشرع نفسه، ولكن تستشعر ما لهذه النقطة من أهمية ستظهر بجلاء يوم 15 يناير من السنة المقبلة، فضلا عما يمكن أن يثيره الدفاع بهذا الخصوص من دفوع أووسائل بل ولما يمكن أن تثيره محكمة النقض من تلقاء نفسها لتعلق تشكيلة المحكمة بالنظام العام المقرر تحت طائلة البطلان.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *