fbpx

مسرحية بريندا أو درس القسوة

تأليف وإخراج أحمد أمين الساهل بقلم : رشيد بلفقيه
تطور مسرحنا كثيرا، تطور بشكل منحه الريادة بين المسارح العربية في مناسبات كثيرة، بالنظر إلى عدد التتويجات التي بات جيل الحساسيات الجديدة يحصدها تباعا، فغدت العروض المقدمة دروسا عميقة في فنون الفرجة والتعبير والإبداع، وفي التوسل بأساليب درامية حديثة ومستحدثة تخاطب باحترام شديد متلقّ تُدرك أن ذوقه تغير كثيرا.
حلّقت فرق كثيرة عاليا وبعيدا عن الظروف التي ظلت بعض الفرق القديمة تتحجّج بها مبرّرة رداءتها، وتواضع مستوى عروضها. فصار مسرحنا المغربي مسرح عروض متسارعة تجاوزت الروعة لتنحت مستقبلا يعد بالكثير والجميل.
عرض “بريندا” يسير في السرب عينه، أو ربما يتجاوزه بقليل كما قال بعض النقاد، مقدما قصة مراهقة استُقدمت من فن الراب من عوالم “توباك شاكور” القاتمة تحديدا، لتجعلنا ننصت إلى نبض عوالمنا السفلية المعتمة، مستغلة قوة هذا الفن(الراب) وصدقه، وشغبه، وإيقاعه الحيوي، لتدقق في المسكوت عنه، واصفة أعطابا ينوء بها مجتمعنا المسكون بالتواصي بالصمت والتعتيم، وواقعنا الغارق في الوحل، رغم مظاهر الطهر الكاذب الذي يطفو على سطحه، فبريندا كما يقول أحد الممثلين : “كاينة معنا، وبريندا وحدة منا، وبريندا جزء لا يتجزأ منا” شئنا أم أبينا.
راهن العرض، بالإضافة إلى الاشتغال على الراب، على أسلوب القسوة وعلى تقاليد مسرح القسوة في إبداع لغة خاصة تنحت من بلاغة الجسد تعابيرها وأساليبها لتملأ بياضات كثيرة يخلفها غياب الكلام، كما راهن على جعل الصدمة تحرك المتلقي فتنتزعه من واقعه المريح، وترمي به -بوصفه راشدا يحقّ له الاطلاع على الحقائق كما هي- وجها لوجه أمام وقائع يعرفها الجميع لكنهم يتحاشونها، ممثلة في الاغتصاب، والقهر،والاستغلال الجنسي للقاصرات، والهشاشة الاجتماعية، والتفككك الأسري الذي يوصل إلى أسوأ الكوارث الإنسانية، والدعارة الراقية، وتجارة المخدرات، والجرائم ضد الأصول …
بريندا “تخبر بشوية من بزاف” عن فئة من المضطهدين المهمشين، فهي الواحدة هناك في أغنية توباك، المتعددة هنا في العرض المغربي، وهي الكناية العميقة التي تعوض المقهورين باختلاف فضاءاتهم وأزمنتهم، فهي بذلك شخصية واحدة مصبوبة في شخصيات متعددة. وهي الذات التي تطوعت لفض الصمت نيابة عن كل من يعانون من استغلال المجتمع، وشراسة الواقع، وتجاهل الجميع.
في أحداث العرض الدرامية، تفشل محاولات الشخصية الرئيسية في التشبث بطفولتها ممثلة في فقدانها الدمية التي خضعت لأشكال متعددة من التنكيل كناية عما يلحق الطفولة المستباحة من اعتداء.
ثم نتابعها بعد بلوغها تعاني من الاستغلال الجنسي حتى من أقرب المقربين، ثم نتابعها وطفلها في حضنها محاولة كسب لقمة عيشهما متحدية الوحوش الآدمية في شوارع لا ترحم، ثم نتابعها في دار الدعارة تبيع جسدها بالتقسيط، ثم أخيرا وهي تنهي كل شيء برصاصة تستقر في ضمير المتلقي، أو في خياله، أو في رأسه لا فرق، فالظلام الذي كتم تفاصيل المشهد قبل أن تطلقها-إن كانت قد أطلقت- يبقي كل تأويل ممكن…
مسار درامي يوظف إمكانيات الباتوس توظيفا حجاجيا يؤجج مشاعر التعاطف عند المتلقي، ذلك التعاطف الذي بات عملة نادرة في مجتمع تحول إلى حلبة قتال “تذيب كل شيء بحال الحديد بحال الميكة” كما يقول الرابور في العرض. مسار ينمو بإيقاع سريع وعنيف بحثا عن أقصى تطهير ممكن للمجتمع، أو بحثا عن تطهير الشخصيات، أو بحثا عن تطهير مفهوم الطهارة الذي خان حتى اللون الأبيض الذي تحول إلى ما يشبه الكفن على أجساد الممثلات، فخيل إلينا أنه يغطي الأجساد الشقية بدل أن يسترها …

اترك رد