مآزق الديمقراطية العربية عند جورج طرابيشي.

 بقلم: يوسف شرقاوي
تعتبر إشكالية الديمقراطية من أكثر الإشكاليات إلحاحاً في الساحة الثقافية العربية، حيث تم الترويج لها ورفع شعارها كما لو أنها أيديولوجيا خلاصية جديدة.
يقسّم المفكر السوري جورج طرابيشي إشكاليات الديمقراطية ويطلق على كلٍّ منها اسماً يلخّصها، ذلك بعد تحويل الديمقراطية في الخيال العربي، بعد فشل الأيديولوجيات القومية واليسارية الثورية، إلى كلمة “سمسم” بديلة تفتح مغارة الحداثة المستغلقة، ولتحقيق نقلة عجائبية، بلا مجهود ولا كلفة ولا زمن، من واقع التأخر إلى مثال التقدم.
تعني كلمة ديمقراطية في أصلها الفردي “حكم الشعب”، وترجع إلى أصل يوناني مكون من مقطعين، أحدهما “Demos” وتعني الشعب، والثاني “crates” وتعني حكم أو سلطة، فتصير في المعنى اللغوي: الشعب هو صاحب السلطة، أو: حكم الشعب.
كما عرّفها إبراهام لينكولن في إحدى خطبه أنها: حكم الشعب بواسطة الشعب ومن أجل الشعب. أي أنّ المواطنين مشتركون في صنع السياسة وممارسة الرقابة على ممثليهم أو نوابهم، وعبارة من أجل الشعب تعني أنّ الحكومة في خدمة الشعب.
هل الديمقراطية شرط مسبق أم هي نتيجة وحصيلة لمجتمع بعينه، وهل هي المفتاح السحري الذي نفتح به جميع الأبواب المقفلة أم هي التاج الذي يتوّج التطور العضوي للمجتمع المعني وينهض مقياساً على مستوى تطوره؟
إنّ معاملة الديمقراطية كأيديولوجيا خلاصية فسخت العلاقة الجدلية بين الشرط والنتيجة، فصارت الديمقراطية في نصاب الشرط المسبق المطلق لكل نتيجة لاحقة.
كما أنّ تصوير الديمقراطية على أنها لا تتطلب جهداً، بل تعفي من الجهد، وأنها لا ثمرة يانعة فحسب، بل فاكهة الجنة للمعذبين في الأرض العربية، بلا اعتبار أنها بذرة برسم الزرع أيضاً، هو ذنبٌ كبير اقترفته الأيديولوجيا الخلاصية. الديمقراطية نفسها تحتاج إلى مفتاح، ولا يمكن أن تتحقق بلا شرط الحامل الاجتماعي لها. يُصوَّر المأزق الديمقراطي في العالم العربي، أيضاً، على أنه تحصيل حاصل للقطيعة بين الدولة والشعب، ولانفراد الدولة بتقرير مصائر الشعب دون أن تكون له قدرة على التحكم بمقاليد الدولة.
إنّ الديمقراطية هي في التحليل الأخير ثقافة ومنظومة قيم متضامنة، والمجتمع العربي لم ينجز تحديثه المادي والفكري ولم يستكمل ثورته التعليمية. لذلك نرى الديمقراطية حاضرة في صناديق الاقتراع أثناء الآلية الانتخابية، ولكن، هل هي حاضرة في الرؤوس؟
إذا كانت الديمقراطية بالتعريف هي حكومة الأكثر عدداً، فإنّ الأكثرية العددية، من المنظور الفئوي الطائفي، أكثرية عمودية لا أفقية، جوهرية لا عرضية، ثابتة لا متحولة. وهي ليست أكثرية حزبية أو كتلوية، تنعقد وتنفرط داخل البرلمان، بل هي أكثرية مجتمعية دائمة توصف بأنها إسلامية أو مسيحية، سنية أو شيعية.
يطغى هذا التصور على الممارسة الانتخابية – وهي أهم آليات الحياة الديمقراطية – فيصير التصويت تصويتاً جماعياً إجماعياً، ينتصر فيه الناخبون لمرشحهم من دينهم أو طائفتهم أو إثنيتهم، ضداً على المرشح الذي يخالف انتماءاتهم.
كذلك، توجد ظاهرة اللولبيات الدينية التي تدخل في صدام مباشر وعنيف مع أهم المبادئ في منظومة القيم الديمقراطية وهو: حرية الفكر والاعتقاد.
تشهر هذه اللولبيات سلاح التكفير، وإلى جانبها تمارس أجهزة الرقابة للأنظمة العربية ضغطاً آخر. يصير في هذه الحالة المبدأ الأهم للديمقراطية، حرية الفكر والاعتقاد، بين فكّي كماشة: رقابة حكومية سياسية، ورقابة شعبية دينية.
من الممكن أن تأخذ الرقابة الحكومية على عاتقها وظيفة الرقابة على صراطية العقيدة الدينية تحت ضغط اللولبيات نفسها، أو لتقطع عليها طريق المزايدة.
لا يمكن أن تكون الديمقراطية نظاماً فصامياً، أي أن تكون نظاماً للحكم دون أن تكون نظاماً للمجتمع. وأن تسيّر العلاقات بين الحكام والمحكومين دون أن تسيّرها بين المحكومين أنفسهم. مع أنها بالتعريف نظام للدولة، فإنها بالجوهر نظام للمجتمع المدني، إذ هي بالأساس ظاهرة مجتمعية، والمجتمع نسيج من العقليات.
تنتهي الديمقراطية في صندوق الاقتراع الانتخابي، ولكنها تنطلق، لا محالة، من صندوق الرأس. وإن لم يتضامن الصندوقان، فلن يكون صندوق الاقتراع إلا معبراً إلى طغيان غالبية العدد. تقيم الأنظمة العربية القائمة عثرات كثيرة أمام الآلية الانتخابية، ولكن المجتمعات العربية الراهنة نفسها تقيم العثرات أمام الثقافة الديمقراطية.
يقول المفكر طرابيشي إنّ الأنظمة العربية لا تتحمل انتخاباً حراً، ولكن المجتمعات العربية لا تتحمل رأياً حراً.
إنّ المجتمعات العربية تريد الديمقراطية في السياسة، لكن لا تريدها في الفكر، ولا على الأخص في الدين، ولا في العلاقات الجنسية. إنها مجتمعات تستسهل الديمقراطية وتختزلها، وتريدها على مقاس نسيجها العقلي وانتماءاتها.
 
المصادر:
١. هرطقات، عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، جورج طرابيشي، دار الساقي، ٢٠٠٦.
https://www.amazon.com/%E2%80%AB%D9%87%D8%B1%D8%B7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%B9%D8%A9-ebook/dp/B078HQNX7N.
٢. في المسألة العربية، مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، د. عزمي بشارة، مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠٠٧.
https://www.amazon.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A/dp/6144451927.
٣. الديمقراطية: مقدمة قصيرة جداً، برنارد آر. كريك، مطبعة جامعة أوكسفورد، ٢٠٠٣. https://www.academia.edu/35294298/Democracy_A_Very_Short_Introduction_Bernard_R_Crick_2003_Oxford_University_Press_ISBN.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *