من لغا، في الاحتفالية، فلا مسرح له..
د. محمد الوادي
1- القلق طبيعة الفعل الحي:
هذه الاحتفالية المزعجة والمشاغبة والمتمردة يجب منعها، ومصادرة كل بياناتها وأدبياتها. ما يكتبه شيخها ومريدوها مقلق للغاية. فهي تشاغب في الذاكرة وفي الوجود. وأصبحت سلطة فنية وثقافية وفلسفية. وقد تضرر العديد من المنتسبين إلى المسرح، وخاصة الذين راهنوا على موتها، وعلى نظريات ومذاهب أخرى، فماتت هذه النظريات والمذاهب وانتهى الأمر بالمراهنين إلى اليأس وبقيت الاحتفالية حية ترزق، وبقي وجودها وصداه. وهي اليوم تتقوى وتنتشر أكثر.. كل يوم تكبر أكثر وتغزو القارات النائية، والمجالات والميادين التي كانت حكراً على أصحابها. هذا الوضع الاعتباري والتصاعدي للاحتفالية هو الذي جعل منتقديها يصرخون ويحتجون ويتمنون زوالها. وهو ما جعل شيخها يطرح السؤال التالي: هل الاحتفالية حلال؟ وبناء على سؤاله نطرح سؤالا موازيا أو معاكسا: هل الاحتفالية حرام؟ وقد يطرح غيرنا أسئلة أخرى لها طابع تقييمي وديني وأخلاقي: هل الاحتفالية مكروهة؟ أو مستحبة؟ أو ضعيفة(بالمعنى الفقهي)؟
ومن أغرب الغرائب وأعجب العجائب أن نجد من بين المسرحيين من يكرهها، لا لشيء إلا لأنها تجاوزت حدود المحلي.. وحدود الإقليمي.. والحدود القارية.. وأنها لم تقتصر على المسرح وأخواته، بل عانقت الفلسفة والفكر والتصوف، وركبت أمواج التاريخ والجغرافيا والخيال، وكتبت – بالحبر المغربي والعربي- أن الاحتفالية لا ينتسب إليها إلا كل صادق أمين، وأن الخونة والمتلونين والمنافقين… خارج أسوارها ومداراتها واهتماماتها وفلسفتها.
هذه الاحتفالية الجديدة المتجدة.. الرافضة للتكريس والروتين صابئة في الأعين التي فيها رماد.. وفي نظر العقول التي فيها صدأ.. وفي ملة الذين لا ملة لهم. من هنا فهذه الاحتفالية الولود والتي أنجبت احتفاليات قد أصبحت قبيلة فكرية وفنية.. وهي إذ تكتب تاريخها وسيرتها بماء من دهب.. وبحروف بارزة.. وبلغة علمية وعالمة وشفافة وحالمة وشاعرية وبليغة في نفس الآن. وهذا هو ما حير الحائرين، وشغل المفكرين والمتسائلين.. وأصاب بالخرص بعض الهراطقة ومن دأبوا على اللغو. ونحن نقول: ومن لغا في الاحتفالية فلا مسرح له..
مع صدور كل بيان من بيانات الاحتفالية تتحرك المياه الراكدة.. والعقول النائمة، وتخرج الأفاعي، التي يقهرها القر، من جحورها.. وتتحرك جحافل المتمسرحين كالجراد في السنوات العجاف.. ويظهر الفقهاء المفتون الذين يقفون فيما لا يفقهون، ويجدون في المنابر إياها والمواقع التي لا موقع لها ليمرروا سمومهم، وليعبروا عن خيباتهم بالتحامل على الاحتفالية وصناعها.
2- الاحتفالية السائرة:
هي القافلة التي لا تلتفت إلى الخلف، وتتابع سيرها في اتجاه الآفاق الرحبة والمضيئة.. لا تلتمس غير تجارة الفكر والفن الرابحة.. ومن يتاجر في الفكر والفن والعلم والأدب… لا يخسر. ولذلك فالذين راهنوا على خسرانها وخسارتها بهتوا كما بهت الذين كفروا. وهم الآن يعدون ويحصون خسائرهم لأنه في الوقت الذي كانت ولا تزال فيه الاحتفالية تبدع وتنتج وتراكم التجارب كانوا ( حاضيين لبحر ليرحل) كانوا يراقبون الاحتفالية، كما لصوص الليل، ويتحينون أخطاءها وهفواتها. الاحتفالية تقول الذي يخطأ أكثر هو الذي يعمل أكثر. وبالتالي فالاحتفالية لا تخجل من أخطائها ( وخير الخطائين التوابون). واليوم عدد حسنات الاحتفالية أكثر بكثير من عدد عثراتها.
أصحاب الاحتفالية كأسنان المشط.. متحدون من غير وثيقة مكتوبة.. يسيرون ضمن هذه القافلة التي كلما مرت بقبيلة مسرحية أو ثقافية أو إنسانية إلا وانظم إليها محتفلون جدد وواصلوا السير مع السائرين.
3- الاحتفالية وجمر الإبداع:
الكتابة المسرحية الإبداعية النصية، في المفهوم الاحتفالي، هي أُسُّ كل فعل مسرحي.. هي المنطلق والامتداد والمنتهى. وليس أي نص.. بل النص الذي له خلفية فكرية وأدبية وفنية.. النص الذي له مرجعية وحمولة. ومن غير هذا النص الموسوم بالجرأة والذي يستند إلى قارة المعاني والمدلولات، ويحمل داخله أسئلته الحارقة يصبح المسرح مسخاً. ولأن الموجة -الآن- في زمن اللامسرح هي الاتجال، والانبهار بالصورة المركبة، والاستعانة بمكبرات الأصوات، وأصبحت الأدوات التقنية تقوم مقام المبدع فقد آمنت الاحتفالية أن لكل موضة نهاية عاجلة، ولكل مزيف مآل بئيس. لهذا راهنت على مقول النص ورسائله وشفراته. وبما أن الحياة لا تستقيم بدون حيوية فقد رأت الاحتفالية أن النص المسرحي هو منبع هذه الحيوية التي يجب أن تكون مطبوعة بالحب والحلم، وأن يكون محرك كل ذلك السؤال المخلخل.. الحارق.
4- الاحتفالة وصناعة المستقبل
كثير من المتمسرحين ربطوا الاحتفالية بالتراث، واعتبروها تحفة من الماضي، ومنهم من اعتبرها فكراً رجعياً لارتباطها بالإرث. والاحتفالية لا تنفي انحيازها لكل ما هو أصيل، ودعت إلى تأصيل المسرح المغربي والعربي، واشتغلت -إبداعياً- على تيمات عديدة تنتمي إلى تراثنا الثري. وبالمقابل، وهذا ما لا تراه العيون العمياء، والعقول المجبولة على رؤية الأحادية الجهة، أن الاحتفالية ترى أن أجمل الأشياء هي التي لم تكتشف بعد، وأن أجمل النصوص لم تكتب بعد، وأن الحياة القادمة ستكون أكثر حيوية، والمدن المدنية لم تشيد بعد، وأننا في هذا العالم لا نزال نبحث عن الإنسانية داخل كينونة الإنسان. الاحتفالية رؤية مستقبلية.