مكائد وفساد وسلطان “ضعيف”… عصر “السيّبة” المغربي كما شاهده والتر هاريس.

بقلم: علاء زريفة
عن موقع: رصيف
في أيلول/ سبتمبر 1893، اتّجه الصحافي البريطاني والتر بيرتون هاريس (1866-1933)، وكاتب الرحلات الذي كان يعمل مراسلاً لصحيفة “ذي تايمز” اللندنية بين عامي (1898- 1906)، في رحلة هي الثانية إلى المغرب. كان يرافق السير ويليام كيربي غرين (Kirby Green) إلى مراكش حاضرة البلاد وقتها، في محاولةٍ لتقويض التمدد الفرنسي. وخلف المهمّة “الدبلوماسية”، شُغف هاريس بالمغرب، وأحب هذا البلد، وتحديداً مدينة طنجة، وكتب الكثير من الملاحظات التي أصبحت كتاباً يقدّم جزءاً من النظرة الغربية إلى المجتمع المغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويكشف جزءاً مما كانت عليه حياة البلاط المغربي.
هاريس المليونير الثري، بنى لنفسه في طنجة التي عشقها فيلا كبيرةً حملت اسمه وتحولت اليوم إلى متحف للفن الحديث بعد ترميمها، وعاش فيها حتى وفاته في الرابع من نيسان/ أبريل سنة 1933، إذ كُتب على شاهدة قبره: “كان يُحبّ المغاربة وكان صديقهم”.
في كتابه “المغرب الذي كان”، والذي أصدره سنة 1921 (ترجمة حسن الزكري)، قدّم هاريس صورةً قاتمةً، عن فترة غامضة من تاريخ المغرب، من داخل “بيت السلطة”، والقصر الذي كان يتجول فيه بأريحية، ويبدو من كلامه أنه كان يُستشار في بعض شؤونه.
إن كانت “وجهة النظر” التي يقدّمها الكتاب ذات “طابع كولونيالي” بحت، بحكم أنها نابعة من نظرة استشراقيّة تقرأ الواقع بنظّارات غربية لمنتمٍ إلى دولة استعمارية “عظمى”، فإنها تحمل أيضاً شهادةً تاريخيةً عن وقائع من المغرب، سوداوية لربّما، لكن قد تقدّم إضاءات حول بعض مما كان…
“بلادٌ معزولة” و”سلطان جائر”:
يقدّم هاريس صورةً عن المغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر، ويصفه بأنه كان “معزولاً” عما يدور حوله من أحداث وتطورات سياسية في العالم، إذ لم تثُر في خلد السلطان، الذي كان يشنّ حملات عسكريةً تُسمّى بـ”الحركات” ضمن أقاليمه ومدنه، أي ريبة بخصوص ما يحاك في الخفاء للمغرب.
في خضم الصراع البريطاني-الفرنسي لمواجهة التمدد الإسباني، ونزاع إسبانيا الذي يصفه هاريس بـ”التافه” مع القبائل القريبة من “قلاع” تبسط سيطرتها عليها، انشغل السلطان العلويّ الحسن الأول (1894-1873)، الذي يصفه هاريس بـ”القاسي” و”الجائر”، بالقبائل المتمردة، وتمكّن من ضبط أمور البلاد لصالحه عبر ضرب القبائل ومحافظته على النظام. لكنّ الحملات المتكررة كل ستة أشهر لجمع الضرائب ساهمت في تعميق الأزمة الاجتماعية.
لم يكن أمام أهالي تلك القبائل، سواء أكانت متمردةً أو مسالمةً، إلا الفرار المؤقت للنجاة من الحركات السلطانية التي يرافقها زوجاته ووزراؤه وجيش من الجنود “الرعاع” و”المومسات”، على حد تعبيره.
في المقابل كانت الدول الأوروبية التي بدأت تهتم بشؤون المغرب، ترسل السفارات تقرباً من السلطان. سواء عبر تقديم الرشاوى إلى موظفي القصر لتسوية بعض الأمور العالقة، أو عقد الاتفاقيات التجارية وأحلاف الصداقة “الأبدية” بين طرفين معاديين سلفاً بسبب شعور المغاربة بالبغض تجاه هؤلاء الأوربيين الغرباء.
“قداسة” شرقية:
في بداية الكتاب، يتحدث هاريس، الذي التقى السلاطين الثلاثة الحسن الأول وعبد العزيز وعبد الحفيظ، عن مرافقته لرحلة السير وليام غرين، عبر البحر على متن سفينة حربية بريطانية، وصلت أولاً إلى “مازكان” (الجديدة)، ثم توجهت برّاً عبر المجال الجغرافي لقبائل المنطقة وصولاً إلى العاصمة مراكش محفوفةً بالعناية والاستقبال الحسن الذي لم يرَ فيه الكاتب إلا “نفاقاً”.
في مراكش، وعلى الرغم من روعة الاستقبال وضخامته، إلا أنه كان يحمل شيئاً من “الازدراء المُهين”، فقد تجمّع الوفد البريطاني واقفاً لساعات تحت حرارة الشمس أمام ميدان القصر في انتظار الإذن له بالدخول، يحيط به موظفون بلباس أبيض، وحشد كبير من الجنود المصطفين بانتظام، يرتدون أزياء براقة وملونةً.
داخل سور القصر، كان اللقاء الأول مع مؤسسة السلطة على الطريقة المغربية، ولا يخلو الوصف من صور نمطية استشراقية. يحكي هاريس أن السلطان كان بلباسه الأبيض، يمتطي جواده المُزيّن بسرج أخضر وذهبي، وفوقه مظلة تحمي “قداسته” من لهيب النهار الحارق، بينما يقوم عبيده بهشّ الذباب عن قداسته الشريفة. ما أن فُتحت الأبواب الخضراء الكبيرة للقصر، كان هناك موكب لاستقبال الوفد مصحوباً بموسيقى الناي وقرع الطبول. بدت مظاهر الفخامة واضحةً من خلال الأزياء النظيفة، والسروج والألجمة الذهبية حول أعناق الخيول فما أن يمر موكبُ جلالته حتى تتعالى صيحات الشكر والثناء، ويطلب الرجال الراكعون وهم يبكون أن يحمي الله “حياة سيدهم”.
عندما اقترب الموكب من الوفد البريطاني، كانت تتفرق الحشود ليتقدم السلطان ووزراؤه، وينحني له أعضاء البعثة مع التحية، ويُقدّم له السير أوراق اعتماده، ويكتفي السلطان بإلقاء بعض الكلمات له وينصرف. طقوس الاستقبال هذه سرعان ما تغيرت مع قدوم البعثة البريطانية للسير آرثر نيكولسون Nicolson، سنة 1902، والتي كان هاريس أيضاً شاهداً عياناً عليها.
“نسبٌ شريف” وأم تركية:
توفي السلطان الحسن الأول في عام 1894. لم يكن وريثه عبد العزيز مؤهلاً بعد للحكم حتى أنه لم يكمل الثانية عشر من عمره بعد. وعلى الرغم من كونه أصغر أخوته لكن للسلطان كلمة الفصل بمجرّد ذكر ولي عهده. يؤكد هاريس أن “الانحدار من السلف، أي النبي محمد، هو أهم عامل من عوامل اختيار الخليفة بغض النظر عن موت السلطان أو كفاءته.
ساهم عامل آخر مهم في تولية عبد العزيز السلطة، يذكره هاريس، وهو أمه التركية التي كان لها تأثير بالغ على زوجها الحسن الأول، فقد كانت تشاركه إدارة شؤون البلاد، ولها نفوذ كبير في “مهجع الحريم”، وهي أيضاً تركية وأم لسلطان آخر هو يوسف (1912-1927). الذي تولى السلطة بعد السلطان عبد الحفيظ بعد توقيع معاهدة الحماية مباشرةً مع فرنسا. ويضع هاريس إشارة استفهام كبيرةً حول وجود امرأتين غريبتين في بلاد أجنبية، صارت كل منهما أمّاً لسلطان.
“باحماد”… الرجل القوي:
تولى الوزير أحمد بن موسى، المعروف بـ”بَّاحْمَادْ”، الإشراف على الحكم حتى يصل عبد العزيز إلى العمر الذي يسمح له بمباشرة الحكم بنفسه. يذكر هاريس أنه في أول زيارة له إلى البلاط، شاهد باحماد الذي كان يتولى منصب الحاجب، (وبعدها الصدر الأعظم)، وهو الرجل الأكثر أهميةً في القصر، فقد كان ملازماً للسلطان، ومتفانياً في خدمته. ورث المنصب عن والده الذي كان أحد عبيد القصر. “كان أسود البشرة، وذا منظر غير جذاب، وذكاء محدود”، بحسب وصف هاريس الذي قد لا يكون دقيقاً، بحكم أن الرجل كان نافذاً وساهم في الحياة السياسية للبلاد لعقود طويلة. لكن الكاتب يشير إلى أن باحماد رفض الاهتمام “بالعلاقات الخارجية للمغرب، ولم يكلف نفسه عناء فهمها، وتركها لغيره من الوزراء بالرغم من تدخله في كل كبيرة وصغيرة داخل القصر”.
يرى هاريس، أن تولية شاب “قاصر على الحكم”، كانت فاتحةً طبيعيةً لسلسة من المؤامرات والمكائد، سواء من قبل باحماد صاحب السيادة، وقائد الجيش، أو من طرف أبناء العائلات الأرستقراطية مثل عائلات “الجامعي، الحاج أمعاطي، ومحمد سورير”، التي أزعجتها سيطرة باحماد على امتيازاتها السلطوية، تحديداً بعد نقل العاصمة من الرباط إلى فاس.
وفقاً لهاريس، لم يكن لأي سلطان أن يأتمن على سلطانه ما لم ترضَ عائلات فاس وسلطتها الدينية. انتظر “ولاد الجامعي” وصول السلطان للكيد له، واستغل باحماد الظروف المناسبة للطعن في الوزير “الحاج معاطي” أمام السلطان، بعد مقابلته الأخير، متهماً إياه بضعف الولاء والجشع والابتزاز وجرائم سياسية، وحصل من السلطان على أمر باعتقاله مع محمد سورير وزجهما في السجن.
توطدت الأمور لصالح باحماد، ويصف هاريس سطوته قائلاً: “إرادته كانت لا تُقهر وكان قاسياً. كان نوع من الخشوع الخرافي يحيط به”. لكن في عام 1900، تلاشى هذا التبجيل عندما أطاح به المرض، وما أن أُعلن خبر وفاته حتى هاجت الشياطين في رؤوس عبيده الذين نهبوا قصره، ثم نُقلت جثّته بعيداً. بكى عبد العزيز عليه، لكنه سرعان ما مسح دموعه وهو يوقع على أمر سلطاني بمصادرة جميع أملاكه ليعيش أبناء باحماد وأسرته من بعده في ذلة ومهانة.
من “الإذعان” إلى فرض الشروط
يذكر هاريس أنه تم إلحاقه بالبعثة البريطانية في عهد السلطان عبد العزيز (1893-1908)، وطُلب منه الذهاب إلى السلطان لتدبّر مسألة “إلغاء مراسم الاستقبال”، التي تزدري البعثات الأوروبية. على الرغم من موافقة عبد العزيز على ذلك، إلا أنه تلكّأ حتى اليوم ما قبل الأخير من الزيارة ليُبلغ هاريس بذلك.
أشيع بين عامة الناس أن معبودهم قد أصيب بوعكة صحية، ولن يقدر على الخروج في الهواء الطلق كالعادة، لاستقبال ضيوفه. لم يرِد السلطان الظهور أمام شعبه بمظهر الضعيف المتنازل عن طقوسه، لكنه في المقابل لم يعد قادراً على فرض هذه الطقوس على الأوروبيين الذين أوقعوا البلاد في “ورطة الديون”، و”عقم الإفلاس”، في محاولة لتحقيق سياسة الإصلاح الداخلي، وإدخال مظاهر الحضارة الأوروبية إلى بلاطه.
يذكر هاريس في سياق مشاهداته تفاصيل مثيرةً في عهد وصاية الوزير باحماد على السلطان عبد العزيز، وانغماس الأخير في وسائل الترفيه والتسلية باهظة الثمن المجلوبة من أوروبا، كالمفرقعات النارية، والدرّاجات وكاميرات التصوير.
مع قدوم البعثة برئاسة السير نيكولسون، جرى استقبالها في غرفة علوية في القصر. جلس عبد العزيز متربعاً على عرشه وبجانبه وزير خارجيته وحاجبه، وفريق من مجلس الشورى. قرأ المندوب البريطاني رسالته وترجمها ترجمان محلّف للسلطان الذي همس في أذن الأخير تاركاً المجلس.
بالنسبة إلى هاريس، بدا هذا الاستقبال “جذاباً”، وأكثر “ملاءمةً” و”صداقةً”، من المراسم السابقة. لكنه في المقابل أبرز مدى الضعف الذي غدا عليه العرش المغربي، جراء التنازع بين الوزراء وغضب العامة، وثورات القبائل وعلى رأسها ثورات بوحمارة والريسوني الذي اختطف هاريس نفسه قبل افتكاكه، بالإضافة إلى التكالب الأوروبي على البلاد، إذ تمكنت فرنسا في عام 1900 من السيطرة على واحة “توات” في أقصى الجنوب الغربي، كذلك سقطت إدارة البلاد المالية في أيدي الأجانب، بسبب فشل الإصلاحات وعدم تحقيق نظام الضرائب الجديد أيّ إيرادات تُذكر تغطّي عجز الميزانية المستمر.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *