لماذا رفْع الدعوى أمام محكمة العدل الدولية وليس أمام المحكمة الجنائية الدولية؟

محمد إنفي

بداية، لا بد من تقديم الاعتذار لأهل الاختصاص على ما قد يكون في هذا المقال من هفوات وزلات قانونية ومن أفكار خاطئة عن اختصاصات المحكمتين الدوليتين المذكورتين في العنوان أعلاه؛ خصوصا وأن كاتب هذه السطور ليس لا رجل قانون ولا متخصص في العلوم السياسية ولا في العلاقات الدولية. لكن بالبداهة وإعمال النظر، يمكن أن ندرك أن بين التسميتين أو المحكمتين تباينا في الاختصاصات؛ وإلا لتم الاكتفاء بإحداث محكمة دولية واحدة.
وقبل أن ننظر، ولو بشكل مختصر جدا، في الفرق بين المحكمتين كما توحي بذلك صيغة العنوان، نسجل، من حيث المبدأ ودون التفكير فيما قد يكون هناك من خلفيات وحسابات سياسية ضيقة، أن إقدام جنوب أفريقيا على رفع دعوى قضائية ضد إسرائيل، هو عمل جيد يلبي رغبة الشعوب المتطلعة إلى مبادرة قادرة على إيقاف إسرائيل عند حدها؛ خصوصا وقد أبان المنتظم الدولي عن عجزه في ردع هذا الكيان الذي يمارس الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل. ويمكن النظر إلى هذه المبادرة على أنها، من جهة، عمل تضامني يستحق الإشادة والتقدير؛ ومن جهة أخرى، يمكن اعتبارها (المبادرة) إدانة للنفاق الغربي وفضحا وتسفيها لقيمه المزعومة. فالدول الغربية التي تدعي الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، سقطت أخلاقيا بوقوفها إلى جانب إسرائيل وتشجيعها على إبادة الشعب الفلسطيني باسم الحق في الدفاع عن النفس المفترى عليه. لقد تنكر الغرب لقيمه ووقف إلى جانب العنصرية والغطرسة التي تنتهك أقدس حق من حقوق الإنسان؛ ألا وهو الحق في الحياة. فآلة الحرب الصهيونية تمارس الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني، وتحرم الآلاف من حقهم في الحياة، معظمهم من النساء والأطفال؛ ناهيك عن المجاعة التي تتهدد بالموت الناجين من القصف العشوائي المدمر؛ وذلك بفعل الحصار ومنع وصول المساعدات.
في خضم هذا الواقع، نتساءل عما يمكن أن تحققه مبادرة جنوب إفريقيا لفائدة الشعب الفلسطيني. منذ البداية، خرج بعض أهل الاختصاص لإبراز عدم الفائدة من وراء هذه المبادرة. وبما أن محكمة العدل الدولية قد أصدرت قرارها الذي يأمر إسرائيل بمنع ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية في غزة، نتساءل عن جدوى هذا القرار. فهل توقف القصف الهمجي الصهيوني على غزة؟ طبعا، لا. وهل للمحكمة المذكورة إمكانية تنفيذ قرارها؟ أكيد، لا. ما ذا بقي أمام المحكمة المذكورة أن تفعله، إذن؟ بقي لها أن تنتظر مداولات مجلس الأمن. وها قد عقد أول جلسة له بعد قرار المحكمة ليتأكد بالملموس أن لا فائدة من وراء هذه الإحالة التي تمت بطلب من الجزائر.
فلو رفعت جنوب إفريقيا الدعوى لدى المحكمة الجنائية الدولية، لكان الوضع ربما مختلفا، خصوصا وأن مذكرة التوقيف الصادرة من طرف المحكمة الجنائية الدولية في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتهم بارتكاب جرائم حرب، تدل على أن قرارات الجنائية الدولية لا تعرض على مجلس الأمن؛ وإلا لكانت روسيا قد استعملت حق الفيتو. وهنا، يظهر الفرق بين المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. فهذه الأخيرة تتولى الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول أو الحكومات؛ وذلك طبقا لأحكام القانون الدولي؛ بينما الهدف من إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، هو محاكمة المسؤولين، بصفتهم الشخصية، عن أسوأ الجرائم كالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان. وكل هذه الجرائم تُرتكب في غزة من طرف جيش الاحتلال الصهيوني؛ وهو ما يدين المجرم نتنياهو وأعوانه. فلو رفعت جنوب إفريقيا القضية ضد نتنياهو ووزيره في الدفاع، مثلا، أمام المحكمة الجنائية الدولية، لكان لهذه الخطوة بعض الأثر الإيجابي ولساهم هذا الأمر في التخفيف من وطأة الوضع في غزة.
لكن جنوب إفريقيا لها حساباتها وتدري ما تفعل. فلا يعتقدنَّ أحد أن هذه الدولة تجهل الفرق بين المحكمتين واختصاصاتهما. والمتخصصون في القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، يعلمون أن المبادرة مجرد مسرحية لدر الرماد في العيون من أجل تحقيق أهداف سياسية ضيقة؛ وذلك من خلال الركوب على القضية الفلسطينية العادلة ومأساة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب الإبادة.
وبالنظر إلى العلاقات التاريخية بين جنوب إفريقيا وإسرائيل، واعتبارا للنقاش الدائر في الأمم
المتحدة بشأن إصلاح التركيبة الحالية لمجلس الأمن الدولي وتمتيع إفريقيا في هذه الهيئة الأممية بتمثيلية دائمة، إما بمقعد أو مقعدين، ندرك الهدف الحقيقي من وراء هذه الخطوة التي أقدمت عليها جنوب إفريقيا؛ وهي، في الواقع، عبارة عن جعجعة بلا طحين.
خلاصة القول، جنوب إفريقيا تمارس النفاق السياسي وتتاجر بالقضية الفلسطينية كغيرها من تجار القضية، أفرادا ودولا، من أجل تحقيق مصلحتها الذاتية وليس مصلحة الشعب الفلسطيني. فركوبها على قضية هذا الشعب المغوار، وعينها على المقعد الدائم بمجلس الأمن الدولي، لن ينطلي إلا على المغفلين. ويبدو أنهم كثر!!!
مكناس في 5 فبراير 2024

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *