الدين و الموسيقى

بقلم :د. امحمد جبرون
إن الكثير من المسلمين والمتدينين اليوم يعتبر الإسلام والموسيقى ضدان لا يلتقيان، فلا تدين مع تعاطي الموسيقى والاستماع إليها، ولا موسيقى مع الالتزام الديني. أو في أحسن الأحوال يشترطون جملة من الشروط حتى يقيموا بعض الصلة بينهما.
إن هذا الالتباس في العلاقة بين الموضوعين يستدعي مقاربات وزوايا نظر مختلفة، ولو أن الكثير من الناس عندما يطرح هذا الموضوع يميلون إلى مقاربته فقهيا، ويبحثون عن حكم الشرع من الموسيقى، وفيما إذا كانت حراما أم حلالا، وما هي شروط الموسيقى الحلال..؟ غير أننا أيها الأعزاء اخترنا زاوية نظر أخرى، تتوخى في نهاية المطاف الربط بين الطرفين، روحيا وجماليا، وبيان المغزى الإنساني لكليهما.
إن الموسيقى هي «لغز معرفي» يعبر عن حاجة روحية عميقة في الإنسان، والروح – أيها السادة – هي وجود مغلق، عصي عن الفهم، لا يفصح عن ذاته إلا من خلال وسائط وأشكال مادية مثل تعبيرات الجسد وملامحه، أو أسلوب في التعبير، أو أداء خطابي… فطبيعة الروح وأوصافها من حيث الحسن والقبح تستشف عادة من تعبيراتها الجسدية، والطقوسية، والإيحائية.. إلخ.
إن الموسيقى في جوهرها لغة الروح، ووسيلة من وسائل تعبيرها، وتجسد بأصواتها وإيقاعاتها وترانيمها عن جانب من روحانية هذا الكائن الإنساني. وربما لن نبالغ كثيرا إذا قلنا إن الموسيقى تعبير فصيح عن الروح الإنسانية في مختلف حالاتها، واللغة التي تفهمها، وتستمع لها، وتتأثر بها. ولهذا حيثما حللت ومن أي زقاق مررت تقرع طبلك مقاطع الموسيقى، فأحيانا تطرب لها، وتهتز روحك لسماعها، وأحيانا أخرى تمتعض من ضجيجها، وتحث الخطى هربا من سماعها.
ولم يوجد من بين الشعوب والقبائل التي عمَّرت الأرض منذ القدم إلى اليوم وفي كل الحضارات والتقاليد من استغنى عن التعبير الموسيقي وصناعة الأنغام، مهما اختلفت مقاماتهم في سلم الحضارة. بل، والأبلغ من هذا كله هو تطلع جميع الطوائف والتشكيلات الاجتماعية على اختلاف مواردها ومصادرها الفكرية والثقافية إلى إبداع “لغتها” وتعبيرها الموسيقي، فتجد الموسيقى الدينية، والموسيقى الملتزمة، والموسيقى الشعبية، والموسيقى العصرية، والموسيقى الشبابية، والموسيقى التقليدية….، الشيء الذي يؤكد الحاجة الفطرية في النفس والروح الإنسانية للموسيقى، وأن الإنسان مهما كان وإلى أي مذهب أو دين انتسب لا يستغني عن الموسيقى ولا يمكنه الاستمرار في الحياة بدونها. وهذه الحقيقة لا يمكن تجاهلها أو القفز عنها أثناء معالجة قضايا الإنسان وتدابير إصلاحه.
بؤس الذائقة الاستهلاكية وتشوهها:
إن الموسيقى في العموم ومن حيث التعريف هي أصوات إيقاعية طبيعية أو اصطناعية تصدر عن معازف وآلات الطرب، وعلمها هو «معرفة نِسب الأصوات والنغم بعضها إلى بعض وتقديرها بالعدد، وثمرته معرفة تلاحين الغناء»، وعلم الموسيقى من أقدم العلوم، ويندرج حسب التصنيف التقليدي للعلوم تحت علم التعاليم الذي ينظر في المقادير على العموم إلى جانب الهندسة وعلم الفلك والرياضيات…، وهو من العلوم القديمة التي اشتهرت بها الحضارتين اليونانية والفارسية وانتقل أثرها إلى الحضارة الإسلامية من بعدهما.
ومن الملاحظات الطريفة والدالة من الناحية التاريخية أن تطور علم الموسيقى ساهمت فيه طائفة معتبرة من الفلاسفة، سواء في الحضارتين الفارسية واليونانية أو في الحضارة الإسلامية، فالذين كانوا يتعاطون علم الموسيقى، وتحدثوا فيها وأبدعوا الألحان كان كثير منهم من الفلاسفة، ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة الذين أثروا علم الموسيقى الفيلسوف اليوناني أرسطو والكندي وغيرهما. ومما يحكى عن الكندي في هذا الباب – وكان حاذقا في الموسيقى بارعا فيها – أنه كان يصنع من الألحان ما يحرك النفس إلى الحزن أو الفرح او النوم، ف«إن شاء حرك أي عزف ما يبكي أو يضحك أو ينوم»[1] في إشارة إلى الأثر الروحي والنفسي القوي الذي كان يحدثه نقره وعزفه للموسيقى.
ومن ناحية أخرى، إن الضبابية التي تميز الموقف الإسلامي من الموسيقى تستند إلى تأويل وتفسير قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين﴾[2]: فهذه الآية من أقوى الأدلة القرآنية وأبرزها، التي يستند عليها كثير من الفقهاء لتحريم الغناء والموسيقى جملة، ويُفسر هؤلاء «لهو الحديث» في الآية الكريمة بالغناء. ويرجعون في ذلك إلى قول ابن مسعود رضي الله عنه، الذي كان يقسم على أن لهو الحديث هو الغناء.
فواضح من الكلام السابق أن الدليل الذي يستدل به في فتوى تحريم الغناء والموسيقى لدى هذا الفريق من الفقهاء هو قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث…﴾. وبالرجوع إلى أقوال المفسرين وأسباب النزول لتمحيص دلالة هذا النص نجد أن هذه الآية «نزلت (..) وما بعدها في النضر بن الحارث، كان اشترى كتبا فيها أخبار الأعاجم، ويحدث بها أهل مكة، ويتملق بها في المجالس، ويقول إن محمدا يحدثكم أحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم أحاديث فارس والروم، وأقرأ عليكم كما محمد يقرأ عليكم أساطير الأولين، هو يأتيكم بكتاب فيه قصص الأمم الماضية، وأنا أتيت بمثله، وكانوا يستملحون حديثه، وكان إذا سمع شيئا من القرآن يهزأ به ويعرض عنه».[3]
فمن الملاحظات الأساسية التي نلاحظها على الوجهة التي اتخذها فهم وتفسير هذه الآية الكريمة: إهمالها للعنصر السياقي والمقام الذي تدل عليه أسباب النزول، وكذلك عدم تناول الآية في كليتها؛ فلم تصل معظم التفاسير بوضوح بين قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث…﴾، وقوله ﴿ليضل عن سبيل الله بغير علم﴾، بحيث اهتم المفسرون والمفتون بالطرف الأول من الآية بمعزل عن الطرف الثاني، فهل كل «لهو الحديث» حرام، أم فقط الذي اقترن بنية التغرير بالناس وتضليلهم، أو ما نتج عنه الضلال على اختلاف قراءات الآية؟.
ومن الناحية الثقافية والتاريخية يعتبر الغناء وافدا على البيئة العربية زمان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا صح ما جاء في بعض الروايات التي رواها أبو حيان، التي ترد سبب نزول الآية إلى شراء ابن خطل جارية. ولم تكن للعرب آنذاك تقاليد موسيقية وممارسة غنائية معتبرة. يقول ابن خلدون عن العرب في هذا الباب «وكانت البداوة أغلب نحلهم. ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في قضاء خلواتهم، فرجعوا الأصوات وترنموا. وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناءً…»[4]. ومن ثم كان الغناء على الطراز الفارسي، الذي تعرف عليه المسلمون الأوائل تحديا ثقافيا وأخلاقيا، بالنظر إلى مرجعياته ومرفقاته. ويؤكد هذا المعنى ما جاء من نصوص وأقوال تجيز أنواعا من الغناء كانت أصيلة في البيئة العربية حتى قبل البعثة مثل ضرب الدفوف والتغني بالشعر…، وما يجوز في الأعياد والولائم.
وإجمالا؛ إن فهم الآية الكريمة ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث…﴾ لدى الأوائل كان فهما ثقافيا، ارتبط بمعطيات البيئة العربية زمان البعثة، وتناقل المفسرون والرواة هذا الفهم، وإذا كان هذا الموقف صحيحا وسليما بالنظر إلى ظاهرة الغناء وما ارتبط بها في الحضارة الفارسية، فإن ما نشأ في بلاد الإسلام وخرج من صلب الحضارة الإسلامية، وصحيح النسب إليها، لا يحتمل هذه المصادرة والقياس، وبالتالي فالحُكم بالحِرْمة بإطلاق، وفي سائر الأزمان، وبغض النظر عن الشروط الأخرى حكم مجانب للصواب.
ف«لهو الحديث» -في فهمنا- هو كل حديث، وترويح مندرج في دائرة المباح، سواء كان موسيقى أو غناء أو شيئا آخر… أدى بصاحبه، أو المشاركين فيه إلى تضييع الواجب الديني والدنيوي. والآية تتحدث عن طائفة من الناس الذين يشترون حقيقة أو رمزيا لهو الحديث ليضِلوا، أو ليتسببوا في ضلال الآخرين، ﴿أولئك لهم عذاب مهين﴾، أما إذا اقترن سعيهم بنية أخرى، كأن يكون القصد من «لهو الحديث» سياقة الناس إلى الخير، ومنعهم من الفساد، أو الترويح عن النفس.. ففي هذه الحالة يكون للعاملين الأجر والثواب من الباري عز وجل. وبالتالي فالآية لا يستفاد منها ما يحرم الغناء أو الموسيقى في ذاتها، إلا إذا احتوى العمل الفني (موسيقى، سينما…) قرينة أو قرائن تدل على التحريم.
وإذا أردنا أن نترجم هذا الذي قلناه إلى لغة أصولية وفقهية، يمكن القول إن هذه الآية عامة تتحدث عن لهو الحديث بإطلاق، وأن العقل الفقهي والمفسرين عموما «خصصوا» لهو الحديث بالغناء، بناء على قول الصحابي، وآثار حديثية أخرى غير قطعية في هذا الموضوع، فقد يكون هذا التخصيص مشروعا وسليما بالنظر إلى البيئة والأحوال الثقافية في زمان الأوائل، لكن غير المشروع هو ترديد هذا التخصيص (الفهم) في الأزمنة الموالية بغض النظر عن تغير الظروف والأحوال والتطور الحضاري. وبالتالي فلهو الحديث في الآية الكريمة اليوم يعني أشياء أخرى غير مرفوضة لذاتها، وبغض الطرف عن مقاصدها والنوايا المحيطة بها.
وبالرغم من الموقف المتشنج من الموسيقى الذي وقفه مجموعة من الفقهاء، فإن علم الموسيقى شهد ازدهارا كبيرا في الحضارة الإسلامية، بحيث لم يتخلف المسلمون عن غيرهم في التأليف والإبداع العلمي في مجال الموسيقى بل أثروا الحضارة الإنسانية بنصوص وأعمال لا زالت شاهدة على تقدمهم في هذا الميدان إلى اليوم، فلا تخلو كشافات المخطوطات وفهارسها في مختلف البلاد العربية والإسلامية من عناوين مصنفات الموسيقى والعلوم المرتبطة بها، وقد ساهم في هذا التدوين الفلاسفة والفقهاء والساسة…، الشيء الذي يدل على رقي الحضارة الإسلامية وكمالها الإنساني، فلم تهمل ناحية من الطبيعة الإنسانية كما يحاول أن يصورها البعض.
إن الحضارة الإسلامية منظورا إليها من هذه الزاوية تمدنا بأمثلة بارزة وقوية عن الوظيفة الدينية للموسيقى. ففي المغرب –مثلا- ألف الفقيه أبو الربيع سليمان الحوات (ت. 1816م) كتابا في الموسيقى الأندلسية يعرب فيه عن هذه الوظيفة سماه “كشف القناع عن وجه تأثير الطبوع في الطباع”[5]، ويقصد طباع الناس وأخلاقهم.
 فالإنشاد الديني والصوفي الذي ازدهر في كثير من البلاد في الحضارة الإسلامية كانت وظيفته تهذيبية وأخلاقية وتطهيرية ودعوية، فلم يكن كموسيقى مقصودا لذاته، بل كان وسيلة لغيره من الغايات الأخلاقية والتهذيبية. وشيء من هذا لا زال حاضرا في حياتنا المعاصرة، مشخصا في الأناشيد والمديح والأغاني الدينية، التي هي موسيقي تحضِر الذات لاستقبال المعاني والقيم الدينية أو تعمل على ترسيخها.
إن مشاكل الموسيقى واختلالاتها سواء في ذاتها وفي علاقتها بالدين وغيره من المجالات، هي مشاكل مرتبطة بالوضع الحضاري لهذه الأمة، وخصيصة التخلف التي نختص بها في هذا الطور التاريخي، فلا يمكن والحالة هاته أن يكون وضع موسيقانا على غير حال بقية الأوضاع، وجانب من تخلف وانحطاط الموسيقى في بلادنا يتجلى في علاقتها المتشنجة بالدين…
وإذا كانت سائر نواحي الانحطاط ومكامنه استفادت من العناية الإصلاحية ومحاولات التغيير، فإن ناحية الموسيقى بقيت في الظل، فلم يهتم كوادر النهضة ومفكروها بهاته الناحية، فترك الباب مفتوحا للهواة ولكل من هب ودب، بعدما كان الأمر في سالف عهد الحضارة الإسلامية من اختصاص أهل الحكمة والفلسفة. لقد بقيت الحركة الموسيقية لدى المسلمين بشكل عام خارج مشاريع النهضة، ولا يلتفت نحوها، واقتصرت حركات الإصلاح على اختلافها على استهلاك بعض الأجناس الموسيقية التقليدية أو أبدعت موسيقاها الخاصة. فلا زالت مادة الموسيقى في مدارسنا وثقافتنا وإعلامنا منحطة ومتخلفة.
وكان من نتائج هذا الإهمال انحطاط الموسيقى في ديارنا، وافتقادها في كثير من الحالات للمقاصد التربوية والتهذيبية، وتخلفها عن هموم الأمة وتحدياتها، واحتجابها في الماضي، أو في حالات أخرى تأثرت سلبا بموسيقى الاحتلال، الوافدة أو الغازية.
إن التداول في شأن الموسيقى والدين في الساحة الإسلامية غلبت عليه المقاربة الفقهية والنظرة الأخلاقية في غالب الأحوال، فتجده غارقا في السبر والتقسيم في نوازل وقضايا المعازف وصوت المرأة ومصاحبات الموسيقى…، ولم يلتفت إلى الأبعاد الحضارية والثقافية لهاته الإشكالية، وبالتالي صودر الحق في الموسيقى، وصودرت معه وظيفتها التهذيبية والتربوية والإصلاحية، أو في أحسن الأحوال أنزلت منزلة المباح الذي لا حكم له، أو المقبول الاشتغال به بالجزء، المكروه بالكل إن لم يبلغ درجة الحرام.
فإذا كانت الموسيقى تقع تحت طائلة الفقه شأنها شأن سائر تصرفات المكلفين، فيجب أن لا يتحول الفقه إلى مجمد للفعالية الموسيقية الإسلامية وعامل من عوامل انحطاطها بل يجب أن يقتصر دوره على ترشيدها. فحضارية الإسلام ناقصة إذا هو أهمل التعبير الموسيقي وعلم الموسيقى، وقد تكون هاته النقيصة من علامات جفائه، ومن أسباب عجزه وضعف امتداده في الواقع المعاصر، فالموسيقى من أدوات إصلاح النفس والروح من الناحية الدينية. وقد جسد تاريخ الحضارة الإسلامية التكامل والاهتمام بسائر أبعاد الفطرة الإنسانية، ولا أدل على ذلك خوض الفقهاء والفلاسفة والمتصوفة… في الموسيقى وعلومها دون إحساس بالنقص أو الاغتراب.
إن الموسيقى هي أكثر من إيقاعات وأصوات طربية ينتهي مفعولها بانتهاء النقر، بل هي أسلوب تربوي وتهذيبي، فالشباب الذي يتعاطى الموسيقى على أصولها شأنه شأن الشباب الذي يتعاطى الرياضة، هو على طريق النجاة من الانحراف والرذائل. فلا بد لنا اليوم من إعادة الاعتبار الأخلاقي للموسيقى، ونشر التعليم الموسيقى على نطاق واسع، وتبديد الشك الديني والتحفظ الشرعي عليها. فلو كانت الموسيقى بالسوء الذي يتصور البعض لما أمر الله تعالى في كتابه العزيز بترتيل القرآن قال تعالى: »وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً«. والترتيل هو تنضيد القراءة وإحسانها وتنظيمها، وهذه كلها أوصاف موسيقية، وعليها بني علم التجويد، الذي هو في نهاية التعريف والتحليل هو علم أداء موسيقى القرآن.
[1] ابن كثير، البداية والنهاية، ج. 11، مكتبة المعارف، بيروت، ص. 224.
[2] لقمان، 5.
[3] نفسه.
[4]  ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1/1992، ص. 457.
[5]  (الطبوع هي صيغ الموسيقى الأندلسية وأنغامها، والطباع هي السجايا). أبو الربيع سليمان الحوات الشفشاوني، ثمرة أنسي في التعريف بنفسي، تحقيق ذ. عبد الحق الحيمر، منشورات مركز الدراسات والبحوث الأندلسية، شفشاون، 1996، ص. 23.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *