ماذا يريد وائل حلاق من طه عبد الرحمن؟ (1/2)

بقلم: عبد الله العليان
عن موقع: أواصر
تعّرفت على كتابات ومؤلفات الأكاديمي الكندي من أصل فلسطيني د. وائل حلاق، من خلال تقديم الباحث اللبناني د. رضوان السيد، لكتابه (نشأة الفقه الإسلامي وتطوره)، ثم كتاب (تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام)، بمجلة التسامح العمانية في أوائل الألفية الثانية من هذا القرن، وأبدى رضوان إعجابه بهذه المؤلفات، لمتابعته للفقه ونظرياته إلخ؛ فقمت بشراء هذين الكتابين، ثم الكتاب الثالث الذي صدر في العام نفسه، (السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي) ثم كتبه الأخرى التالية. والحقيقة أنني بعد قراءتي للصفحات الأولى السريعة لبعض كتبه السابقة، أعجبت بنقده القوي للاستشراق، وللاستعمار الغربي الذي اجتاح البلاد العربية في القرن التاسع عشر، وعاث فيها فساداً وتدميراً للبنية العلمية والفكرية، وتوقعت بحسب الظاهر أن د. حلاق سيكون باحثا عن الحقيقة بدون أحكام مسبقة أو الالتفاف على المعلومات والتناقض فيهما، كما سنبين تاليا.
لكن هذا التوقع لم يمتد طويلا، وقد صدمت عندما أعدت قراءة كتابيه مرة أخرى خاصة (نشأة الفقه الإسلامي وتطوره)، و(تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام)، بعد صدور كتابيه (الدولة المستحيلة) و(القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة)، فوجدت الأمر ليس كما كنت أتوقع وتوقع غيري كذلك، فكان ما كتبه شيئا لا يعقل، ولا يتقارب مع منهج بهكذا تقييم.
ففي مقدمة كتابه (نشأة الفقه الإسلامي وتطوره) ادعى د. حلاق أن الاستشراق أعطى هالة لبعض علماء الفقه والأصول: «فالشافعي يصبح الرمز الاستشراقي لما يظهر أنه تحقيق وإنجاز، ولكنه في الحقيقة الفوران المؤقت الذي وقف على مفترق الطريق بين النتيجة لهذه المصادرات وبين حتمية الانحدار والتعفن والتجمد التي عانى منها الإسلام»! لكن ماذا كان المخرج الذي جاءت به الأقدار لما وقع للأمة من التجمد والتعفن والانحدار للإسلام كما يراه؟ يقول حلاق في السطور التالية، جاء الحل عندما: «أقدمت أوروبا والغرب على إنقاذه في عصر الحداثة هذا». (ص15) (!!)، وكأن وائل حلاق يقول بشكل واضح وجلي، إن الاستعمار أقدم على اجتياح البلاد العربية والإسلامية، في القرن التاسع عشر، هدفه إنقاذ الإسلام من انحداره، وربما أسهم الاستشراق بخروجه من الجمود والتعفن! وفي فقرة أخرى من مقدمة هذا الكتاب يقول حلاق: «فما كان من بعده -الشافعي- إلا شريعة متجمّدة غير قابلة للتغير والتطور خالية من حوادث الزمان، باستثناء انسداد باب الاجتهاد الذي ُيشاع أنه أغلق بحتمية قاضية. فرُفع الشافعي إلى منصب المخترع الأوحد.. وهي الخطوة الأولى لتحضير منظومة معرفية تاريخية تنتهي بانحدار وتهافت التاريخ الإسلامي والإسلام جميعا»! وهذا القول لم يسبقه إليه حتى أكثر المستشرقين تعصبا من أمثال جوزيف شاخت، وبرنارد لويس وجولد تسيهر وغيرهم ممن كتب في هذا المجال.
وهناك العديد من الشبهات وضعها حلاق في كتابيه الأولين، ستكون لها مناقشة قادمة.. لكننا سنناقش كتاب حلاق الجديد (إصلاح الحداثة: الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة.. طه عبد الرحمن). والحقيقة أن الكثير من المتابعين لكتابات حلاق ممن يعيش في الغرب، ويدرّس في جامعاتها، نجد لهم اشتغالا لافتاً بالإسلام -ومنهم وائل حلاق- حيث ازدادت كتاباتهم حول الشريعة والفقه والنظم، خاصة بعد ثورات الربيع العربي سنة 2011، وكأنهم مدعومون من مؤسسات بحثية غربية، تريد أن تستقي هذا الدين ممن هم أقرب إليه، ويتم نشره في الوطن العربي، لإبرازه كفكر جديد، يمثل الإسلام كما يريدونه، وليس كما كتبه أهله! ونلاحظ أن وائل حلاق يتحرك في كتاباته كلها بداية، في مدح الإسلام وشريعته ونظمه، وخاصة على شريعته الأخلاقية وليس غيرها، فيهاجم الغرب الكلونيالي والحداثة غير الأخلاقية، والرأسمالية التي دمرت البيئة والإنسان، إلى آخر المسمّيات، لتمرير رؤيته التي يريد إرسالها، وبالأخص للشباب كما قال في مقابلته مع الإعلامي عليّ الظفيري! فلماذا اختار وائل حلاق طه عبد الرحمن وأصدر كتابه عن ما أسماه (إصلاح الحداثة)؟
لا شك أن طه المفكر المغربي الشهير، متابع للفكر الغربي متابعة واعية، ليس للاستفادة من منهجه في النهضة العلمية، وليس في الالتحاق به فكراً ومنهجاً وإنما للتنبيه من سلبياته، وهذا ما جعل كتابات طه عبد الرحمن تتصدر الاهتمام والتقدير من أغلب النخب المثقفة العربية والإسلامية، ووصلت المؤلفات عنه إلى أكثر من عشرين كتابا، ناهيك عن مئات البحوث والدراسات المتفرقة في كتب أخرى ولا تزال تتوالى عن هذا الفيلسوف المؤثر..
ولذلك أعتقد أن وائل حلاق يريد أمرين من اهتمامه بطه عبد الرحمن، الأول: إبراز فكرة الأخلاق التي يركز عليها د. طه في العديد من مؤلفاته، وتحوير الموضوع من جانب حلاق: أن الإسلام هو نظام أخلاقي ولا شيء غير ذلك، مثله مثل الديانة المسيحية أو الفلسفات الوضعية؛ والأمر الثاني: نقض فكرة روح الحداثة من منطلقات إسلامية بحسب رؤية د. طه في كتابه (روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية)، وأنها -كما يراها حلاق- لا يمكن أن تقام حداثة بغير واقعها الراهن كما هي في الغرب، بل وقال وائل حلاق في هذا السياق في كتابه (القرآن والشريعة):”إن الحداثة حقيقة واقعة بحيث لا يمكن تنحيتها جانبا أو تحييدُها على صورة من الصور في صميم الحياة الإسلامية، فهي ليست التكنولوجيا والعلم، أو هوليوود وما كدونالدز(..)، ولكنها بنية نفسية، ومنظومة أخلاقية وقيمية، ونظرية معرفية، أو بتعبير موجز: حداثة دولة عقل وطريقة حياة».! وهذا يعني أن النقد العنيف للحداثة ومركزيتها وعيوبها الأخلاقية كما كتب حلاق، كان في رأيي مجرد طرح لا مصداقية له، لأن ما قاله آنفا من مدح واستحسان لها وأنها (بنية نفسية، ومنظومة أخلاقية وقيمية، ونظرية معرفية، أو بتعبير موجز: حداثة دولة عقل وطريقة حياة»؛ يؤكد غير ذلك، وهذا التناقض يبرز بلا مواربة أن الرجل في نقده للحداثة وللاستشراق والدولة الحديثة، مجرد كلام لا يعبر عن حقيقة توجهه الفكري تجاهها، وطرح ليجد قبولا لرأيه لكي يمرره بهدوء، ففي مقابلة مع مركز نهوض للدراسات والبحوث. وجوابا عن سؤال عثمان أمكور حول فكرة (روح الحداثة لطه عبد الرحمن)، يبدو، كأنه مناقض لفكرته تماما، وعدّها ادعاء “طهاويا”، فيقول حلاق: «اللافت في فكر طه هو الادعاء أن روح الحداثة ملك للإنسانية كلها، لذا نجد أن هذه الروح متأصلة في تاريخ كل الحضارات. وهو ما يعني كذلك أن الحداثة ممكنة التحقق منذ قرون أو آلاف السنين. لذا فإن هذا الادعاء بالتحديد ليس صوفيًّا؛ لأسباب ليس أقلها أن الصوفية لم تنخرط أبدًا في الخطاب الإصلاحي المرتبط بالحداثة بوصفها مشروعًا أخلاقيًّا محتملًا. في الواقع لا أعرف أي شخص آخر غير طه يعتقدُ أن مشروع الحداثة قابلٌ للتحقق في أي وقت وفي أي مكان، حتى إن كان ذلك قبل ألفي عام. ولقد أظهرتُ في كتابي اختلافي مع طه بخصوص هذا الموضوع».
ولم يكتف د. حلاق بالاختلاف مع د. طه، بل عدّه صوفيا! فيفترض ألا يقول هذا القول، لأن من قاله لا يدخل في رؤى التصوف! كما قال بالنص: (الصوفية لم تنخرط أبدًا في الخطاب الإصلاحي المرتبط بالحداثة بوصفها مشروعًا أخلاقيًّا محتملًا). وهذا نقد لا يليق أن يقال في أكاديمي ومفكر، وصفه حلاق نفسه، في تمهيد الكتاب عنه أنه «يعد طه عبد الرحمن من أبرز الفلاسفة الذين أفرزهم عالم الإسلام منذ بداية عصر الكولونيالية في أفريقيا وآسيا». وكلمة الحداثة في رأي طه عبد الرحمن ليست بدعاً من القول، فهذا معروف عبر التاريخ، فمحمد أركون المعروف بنقده للفكر الإسلامي وقضايا كثيرة، وهو ممن اهتم بفكره وائل حلاق، وأثنى عليه في بعض كتاباته، قال في كتابه الموسوم بـ (الإسلام والحداثة): «إن الإسلام نفسه كان يمثل حداثة. كل الحركات التاريخية الكبرى كانت تمثل الحداثة في عصرها.. وبالتالي فالإسلام في زمن النبي ولحظة انبثاق الخطاب القرآني كان تغيرا، بل وتغيرا جذريا بالقياس إلى ما قبله».
إذن، لم يخطئ طه عبد الرحمن فيما قاله، وهذه حقيقة تاريخية من حيث استفادة الحضارات من بعضها البعض. ففي كتابه (روح الحداثة المدخل لتأسيس حداثة إسلامية)، يرى طه عبد الرحمن في هذا الكتاب، أن الحداثة كمصطلح كما يقال عنها: «ليست دائما من صنع المجتمع الغربي الخاص حتى كأنه أنشأها من عدم، وإنما هي، من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره، إذ إن أسبابها تمتد بعيدا في التاريخ الإنساني الطويل؛ ثم لا يبعد أن تكون مبادئ هذه الروح أو بعضها قد تحققت في مجتمعات ماضية بوجوه تختلف عن وجوه تحققها في المجتمع الغربي الحاضر، كما لا يبعد أن يبقى في مكنتها أن تتحقق بوجوه أخرى في مجتمعات أخرى تلوح في آفاق مستقبل الإنسانية، وليست روح الحداثة -أيضا – ملكا لأمة بعينها، غربية كانت أو شرقية، وإنما هي ملك لكل أمة متحضرة، كما أن النهوض والتقدم الحضاري، بأن كل أمة تقتبس من الآخر على مر التاريخ، وتلك سنة بشرية، في الأخذ والعطاء». وهذا القول من المسلمّات التاريخية التي عرفتها الحضارات، والأغرب أن القول المخالف أتى من باحث واسع الاطلاع كحلاق في أن ينقد هذا الرأي، ويعده ادعاء! وهذا ما كان يجب أن يقال في فكرة معروفة لا تحتاج إلى نفي.
وطه عبد الرحمن حقيقة، لم يرفض ما توصل إليه الغرب من نهضة علمية كبيرة، لكنه يريد أن ننهض من مجالنا التداولي، وليس التقليد للآخر بالإبداع، كما قال أحد المبهورين بالغرب: (لا إلحاق إلا بالالتحاق).
ويضيف طه عبد الرحمن في نقده للتقليد، دون الإبداع الذاتي، لبعض المفكرين العرب، لكونهم اتبعوا التقليد لفكر الحداثة ومآلاتها، وهذا الأمر كما يراه د. طه عبد الرحمن، ليس إبداعا، بل تقليدا، وهذا مدعاة للكسل الفكري، فلكل أمة حداثتها، ومن داخلها، يتم الإبداع: فـ «الحداثة لا تنال إلا بطريق الإبداع، داخلية مبدعة». وللحديث بقية…

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *