مراجعة محمدالكايد لرواية حديث الجنود.

 عن :مدونات_الجزيرة
رواية حديث الجنود للكاتب الدكتور أيمن العتوم، تتحدث عن الاحتجاجات الطلّابية التي حدثت في جامعة اليرموك في الأردن في منتصف الثمانينيات، وتحديدا في أيام وليالي شهر رمضان المبارك في مايو/أيار 1986، والتي نتج عنها قتلى وجرحى ومعتقلون بالمئات، ناهيك عن آلاف من جرحى الذاكرة التي كلما همّت أن تبرأ جراحهم عاجلتهم طعنات الذكريات ليعود النزف من جديد. والرواية هي ملخص الذكريات الأليمة لقائد تلك الاحتجاجات ورفاقه الطلبة، والجميل هنا أنّ ذلك القائد والكثير من رفاقه ما زالوا على قيد الحياة إلى الآن، وهم من وضعوا أوراق جروحهم التي كتبوها في لحظات الألم والخوف بين يدي كاتبنا المبدع أيمن العتوم، وبرأيي فنعم من اختاروا لأنهم لن يجدوا من هو أجدر منه ليروي لنا حكايتهم.
وبطلنا هو أحد أولئك الجرحى الذين لم تبرأ ذاكرتهم ولن تبرأ أبدا، حيث كان على عاتقه قيادة تلك الاحتجاجات بإرادته أو رغما عنه لا نعرف، ولن نعرف أبدا!! ربما الأقدار هي التي ساقته ليكون في ذلك المكان والزمان ليوثق الألم بالقلم، ويرسم الجراح بالدموع والدماء، حيث احتفظ لسنين طويلة بشهادات أولئك “المخربين” الذين سوّلت لهم أنفسهم أن يعتقدوا أن من حقهم التعبير عن رأيهم معاذ الله، أولئك “الأشرار” الذين ذاقت أنفاسهم نسائم الحرية والكرامة ولو لأيام معدودة، ثم ما لبثت أن اختنقت تلك الأنفاس بالغاز المسيّل للدموع الذي كان ربما أقل ألماً من هول الصدمة مما شاهدته أعينهم من إخوانهم في الدين والوطن والإنسانية.
أما الزمان، فكما قلنا سابقا منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، وتحديدا في مايو/أيار 1986 للميلاد، في شهر رمضان المبارك. وأما المكان، فمدينة إربد في شمال الأردن، وتحديدا في جامعة اليرموك الحكومية، ثاني أكبر جامعة بعد شقيقتها الكبرى الجامعة الأردنية، وإن كان زمانا أو مكانا فالمبدع أيمن العتوم ينقلنا إلى تلك الساعات والأيام في شوارع إربد، كأنك تتجول فيها وأنت تقرأ الرواية، تراها رأي العين وإن كانت سطورا، وتشم رائحة الخبز من “مخبز الهامي” كأن نار التنور لم تنطفئ، تُحصي الخطوات وإن كانت كلمات، وأما الأبطال.. آه، كلما ذكرتهم انتابني حزن مرير وتعاركت في داخلي خناجر ما هدأت منذ أن بدأت قراءة الرواية.
ورد.. بطل الرواية وقائد الاحتجاجات الطلابية، أكثر ما أُمنّي النفس أن أدخل إلى أعماقه الآن وأغوص في أحاسيسه وهو يقرأ الرواية لأعرف بماذا يشعر، ذلك أن أيمن العتوم أخرج كل ما في جعبته من إبداع ليرسم لنا وردا. أكاد أجزم أن وردا بذاته قد نسي ذاته للحظات وتعاطف مع ورد الرواية! بكل ما حملت السطور من معاناة وألم وحيرة كان يشعر بها ذلك الورد، فقد وجد نفسه في منتصف جسر أوله نار وآخره نار وتحته نار، ولا يعرف أين يتجه، ويا ليته وحده لكان سلّم أمره للأقدار وهو يبتسم، لكنه وبلا مقدمات، وجد الأرواح تلتصق به من كل جانب حتى وصلت الأعداد للآلاف، فلا هو انهار من البداية فسقط، ولا أسعفته الظروف لينجو بتلك الأرواح، وكل دقيقة تزداد الجموع التصاقا به حتى ما عاد يقوى على ذلك الحمل الثقيل، حياة الشباب والشابات، مستقبلهم، دراستهم، سجلهم الأمني وعدم محكوميتهم…! كلها صارت بكف ورد، يا لها من كارثة.
نعيمة.. إن كان للوفاء معنى وللصبر عنوان، فهي تلك المرأة التي استشهد زوجها طيارا يحارب الأعداء، فما غابت ذكراه عنها 3 عقود، وما فقدت رائحة ملابسه طهرها، ولا نياشينه بريقها، ولا زوجته وفاءها. وأقول زوجته لا أرملته، لأنك حين تقرأ الرواية ستعرف أنهما معاً دوماً، إما في حياتها معا أو في مماته معا، حتى أنك كقارئ وفي خضم الاحتجاجات تنتظر بعضاً من السطور تطمئنك على تلك الوفية، كما كان ورد ينتظر بلهفةٍ أن يزورها ويطمئن عليها مجازفاً ومعرضاً نفسه للقتل أو الاعتقال. وكما كانت نعيمة وفيّةً لزوجها 30 عاما، كانت كذلك وفيّةً لإرثه وتاريخه، وعرفت لمن تسلم الأمانة قبل أن تسلم الروح إلى بارئها، فأودعت كل ذكرياتها إلى ورد لأنه أهل لحمل تلك الأمانة.
أما خال ورد.. فإنه سقراط الرواية وعرّاب حكمتها، وإن كانت تلك الحكمة لا تخرج في الغالب إلا في ذهاب العقل وبيع الحياة بثمن بخس، إلا أن كلماته كانت وقودا يغذي نار الحرية في نفس ورد، وكلما خمدت تلك النار أسرع ورد لخاله من أجل إشعالها من جديد، حتى نفد وقود خاله فما عاد يقوى على الصبر في وطن كان فيه غريبا، ففضل الغربة في الغربة على الغربة في الأوطان، وعنده حق، فالأولى على مرارتها أقل ألماً من الثانية، لأن الإنسان حين يكون غريباً في وطنه، فإنه يخشى أن يدفعه ذلك لكراهية الوطن، وهو ما لا يطيقه الأوفياء والمخلصون، فيفضلون الفراق حتى يبقى للوطن جماله في أعماقهم.
أما رفقاء درب الثورة.. أصدقاء ورد، فكانوا مزيجا رائعا من الأفكار والتوجهات، اجتمعوا على هدف واحد وهو الحرية والعدل والكرامة لهم كطلبة، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية والفكرية، لنرى الإخواني والشيوعي جنباً إلى جنب في مواجهة عنجهية رئاسة الجامعة والقبضة الأمنية التي فرضت عليهم فيما بعد. وحين تقرأ سطور الرواية يصيبك الاستغراب والتعجب حين ترى مقدار الفرق بين ذلك الجيل من طلبة الجامعات وجيل اليوم، فهم كانوا أصحاب فكر وثقافة وشجاعة، مثقفين مبدعين يحملون المبادئ والقيم والإيثار والتضحية، ويتجلى ذلك في يوم اقتحام جامعتهم من جحافل الجيش والأمن بعد أن فقدت رئاسة الجامعة ولايتها العامة على جامعتها، وسلمت براعمها الطلبة للقبضة الأمنية التي دهست أحلامهم ومستقبلهم قبل أن تدهس أجسادهم، وأسالت دمعات الحسرة من عيونهم قبل أن تسيل دماءهم من عروقهم.
حديث الجنود وأي حديث، ألم وعذاب وخوف عرف الكاتب كيف يجعلنا نشعر به مع أولئك المستضعفين، بلغة عربية تجعلك تسافر مع مفرداتها إلى عالم الجمال، فتصيبك الحيرة بين الاستمتاع بذلك السرد بصوره الأدبية الرائعة، وبين الحزن على ما في تلك السطور من معاناة، وهنا سرّ إبداع العتوم حين يجعلك تشعر بالألم الجميل…! ناهيك عن توظيفٍ لم يجاريه فيه أحد لعبارات من آيات القرآن الكريم، تُضفي على الفقرات رونقاً وجمالاً وسحراً لا ينتهي، كما أن التفاصيل الصغيرة التي ذكرها الكاتب في الرواية أدخلت القارئ إلى أعماق أعماقها، فتراك تهتف مع جموع الطلبة في الساحات، وتراك تقفز معهم من فوق الأسوار للهروب والاختباء، حتى أنك تدخل في صندوق سيارة “أبو أسيد” برفقة ورد، ويضيق صدرك كما ضاق صدره حتى خرج من الجامعة بسلام.
انتهت الأحداث بالقوة الأمنية، ولكن ألم الذكريات لم ولن ينتهي أبدا، أرواح فاضت إلى بارئها تحت أقدام العساكر، وأحلام دُفنت قبل أن تولد، وعقلية بوليسية دفعت وردا بعد أن نجا بأعجوبة إلى مغادرة الوطن مثل خاله تماماً، لأنه لم يستطع أن يعيش غريباً فيه، ففضّل الفراق على أن يكره وطنه وأرضه، ولكن المبدع أيمن العتوم أعاده ثانية إلى الوطن، إلى إربد، إلى اليرموك، فعاد نزيف الذكريات من جديد.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *