حينما تضيق بنا السبل نترك الديار إلى فضاء أرحب.

 بقلم: عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير
حينما تضيق بنا السبل نغلق النوافذ خوفا من المجهول، ولا نجهر بالحق خوفا من الخلق، كل ما نملكه محاولة لتفسير أقوال الآخرين ومهاجمة أفكارهم وسجنها في مخيلتنا، وتسييجها خوفا من أن تحدث في بنائنا شرخا لا نقدر على ترميمه. هكذا هي بنية الأنظمة الهشة المتآكلة الواهمة المغرقة في الدفء الحالم .
لا ننظر في المرآة كي لا تتكشف أمامنا عوراتنا، وتصرخ فينا عثراتنا ، وتبرز عيوبنا . ونبقى على هذا الحال إلا أن يحدث ما نبهنا إليه العقلاء وحث عليه النبلاء الحاذقون. وقد دم الشرع كما العقل كل تقليد أو اتباع لأنه سبيل القطيع ” وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ” ومن خوف البعض يحسبون كل صيحة عليهم.
إننا لن نؤسس بناء ديمقراطيا بطاقات ذيلية ولا بمركزية الشيخ وتبعية المريد ، ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾
إنه فرعون الطاغية المستبد يستخف بقومه، وبتلبس في خطابه لباس المخلص لهم ، الساعي لمصلحتهم، الحريص على ما ينفعهم ، والذي يبتغي هدايتهم ، ويعمل على نصرتهم، ولذلك ادعى أنه لم يقل هذا القول؛ إلا لأنه يراه صوابًا، ويعتقده نافعًا ، وهاديًا إلى الرشاد.
إن هذا الشعار وهذه المقولة التي تنضح بالفكر القمعي، والمتسلط المستبد، والتي تنبعث منها رائحة الأنا الغاشمة ، والدكتاتورية البائسة، ويحفها الكبر والغرور، ويلفها العنف والنفور، هي سياسة يتبناها دومًا الطغاة ، ويمتطي صهوتها الجبابرة العتاة، وهم معجبون بوسمها ورسمها كيفما كان! ويلقنوها لأبنائهم السذج.
ولذلك فإن هذه السياسة القمعية والمتسلطة هدفها – في الدرجة الأولى – دغدغة مشاعر الجماهير ، بصورة عجيبة ، تجمع إلى ذلك سخرية لاذعة ، محفوفة بجهل وتجهيل خطيرين، وهي إلى ذلك تخفي في باطنها الهدف الحقيقي وهو : أنها تسعى لمنع كل فكر وإبداع ، يخالف ما هي عليه من الباطل، فلا صرير فيها لقلم حر، ولا لصوت يحمل الحق ، ولا لهتاف نزيه، بل للأقلام الهابطة، والأصوات الفاجرة ، والقيم المتدنية، وكل ما من شأنه أن يلهج بذكرها، ويسبح بحمدها ، ليلًا ونهارًا ، وسرًا وإعلانًا.
إنها ترسم فكرًا مخيفًا – سطحيًا – تجاه المخالف، ومع هذا فلا تتوانى أن تسمه بميسم من نار، وتشعل له الحرائق، وتنصب له المشانق ، على طول هذا الطريق. وقد جعلت – هذه السياسة – الكثيرين طوال التاريخ البشري يعانون من تجاهلهم وقمعهم ، واجتياح بلادهم، واستحلال دمائهم ونسائهم، كل هذا من أجل الحجر على العقول والآراء، وتكميم الأفواه؛ حتى لا تنطق بالحق والهدى. لقد كان نهج الطغاة وما يزال الاستخفاف بالخلق ” فاستخف قومه فأطاعوه “.
إن من شروط البناء المؤسساتي الشورى والاستشارة وقول الحق ” ولو مال عمر برأسه هكذا لمال الناس بسيوفهم ” للتصويب والتعديل والانتصار للفكر لا للأشخاص. وهذا خير الحلق عليه أفضل الصلاة والسلام يستشير القوم في غزوة بدر ومكانها وأسراها، ويعيد الاستشارة، يصيب ويخطئ ويرجح ويصحح له الوحي ، ويقدر، لكنه أول من بنى منهجا في الشورى وحسن الاستماع للرأي والرأي الآخر . ولم يخون أحدا أو يتهمه لا في منطلقاته ولا حقر من قيمة قوله.
ما أحوجنا اليوم للاستماع لبعضنا البعض واتساع صدورنا وقلوبنا وعقولنا للآخر، وعدم اتهام المخالف، ولا حاجة لنا إلى سوء الظن.
مهما تكن منطلقاتنا في بسط ما نؤمن به علينا أن نجدد نياتنا في اعتبار ما نقوم به واجبا للنصح وانتصارا للمبادئ والقيم التي تربينا عليها ودافعنا من أجلها، واستحضارا للمصلحة العامة ودفاعا عنها، لأنها ضمان استمرار مشروعنا الحضاري والتغييري. وكل انحراف عن المسار نكوص وردة عن اختيارات المؤسسين للبناء الديمقراطي، وضرب للقيم، ينبئ بالخراب والتفكيك، والانهيار إن آجلا أو عاجلا .
إن سر قوتنا فيما نملك من أفكار وحرية تعبير وحسن اختيار، لا فيما نحصل عليه من أصوات أو متعاطفين، أو مشجعين مادحين. قد يزعجنا المخالف المنتقد لتصرفاتنا المنبه لعثراتنا، غير الطامع في المناصب، المنافح عن المشروع والمبادئ بصفاء سريرة وغيرة تبدو لنا زائدة ومريبة، فنشرع في التحامل عليه والحرص على إخماد صوته وإقبار فكره، وبهذا ندق آخر مسمار في نعشنا ، ونأتي على البناء كله، فنسقطه من حيث أردنا حمايته. وقد جاء على لسان الصالحين المصلحين ” وأنا لكم ناصح أمين ” وحينما نتفقد المنبهين المنتقدين المنقذين نجد أنهم غادرونا إلى غير رجعة بعد أن ضاقت بهم السبل فقالوا مع القائل ” قال يا ليت قومي يعلمون بما عفر لي ربي وجعلني من المكرمين”
إن أهل الصلاح لا يهمهم من يخالفهم أو ينكر عليهم قولهم لأن مسارهم الإصلاحي معلوم العقبات وبين مما يحتاج إلى الثبات على قول الحق والانتصار للمبادئ لا الركون إلى الخلق . فلا خير في قوم لا يتناصحون ولا يقبلون النصيحة. علينا أن نبتعد عن ديدن الذين كانوا لا يتناصحون ولا يتناهون عن منكر فعلوه.
فأمة الرسالة خيريتها قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، لا التغني بالمنكر والسكوت عليه ولا الدفاع عن أهل الباطل والفساد والمفسدين

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *