صفقة التنمية: لماذا تنجح بعض الدول في تحقيق التقدم الاقتصادي؟

بقلم: ستيفان ديركون

عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

يجادل “ستيفان ديركون” في كتابه “المقامرة على التنمية.. لماذا تربح بعض الدول ويخسر البعض الآخر؟”، حول أسباب نجاح بعض الدول النامية في تحقيق التنمية وفشل البعض الآخر، بأن الإجابة لا تكمن في اتباع مجموعة محددة من السياسات، بل في تبني “صفقة تنموية” رئيسية؛ حيث تتحول نخب الدولة من حماية مواقعهم إلى المقامرة على مستقبل زاهر لدولهم قائم على النمو. وقد بلور “ديركون” رؤيته لكيفية تحقيق التنمية في دول العالم المختلفة، وكيفية المساعدة في إنجاز مثل هذه النجاحات، استناداً إلى مجموعة من الأبحاث الأكاديمية، وأعوام خبرته الطويلة التي امتدت لثلاثة عقود، وزيارته إلى نحو 40 دولة من دول العالم النامي في آسيا وأفريقيا. جدير بالذكر أن “ستيفان ديركون” هو أستاذ السياسة الاقتصادية في كلية “بلافاتنيك” الحكومية ومدير “مركز دراسة الاقتصادات الأفريقية” بجامعة “أكسفورد”، وهو يجمع بين العمل الأكاديمي والعمل مستشاراً للسياسات؛ حيث يقدم الاستشارات الاقتصادية والإنمائية الاستراتيجية، ويعزز استخدام الأدلة للمساعدة في عملية صنع القرار.
وضع التنمية:
حاول الكتاب تقديم أبرز ملامح التغيُّر، لا سيما فيما يتعلق بالتنمية والناتج المحلي الإجمالي والوضع الاقتصادي في بعض الدول النامية خلال الثلاثين عاماً الماضية؛ وذلك على النحو والآتي:
1– تغيرات اقتصادية عميقة في بعض دول العالم النامي: بحسب الكتاب فإنه في السنوات الثلاثين الماضية، شهد العالم النامي تغيرات هائلة؛ فبوجه عام، انخفض الفقر، وتحسنت حياة المواطنين وارتفعت مستويات أعمارهم مع تمتعهم بصحة أفضل، في ظل تطور الاقتصادات النامية لمعظم الدول، وإن كان ذلك بمستويات مختلفة؛ فبحلول عام 2018، وصلت دول مثل الهند وإندونيسيا وبنجلاديش وفيتنام إلى مستويات ناتج محلي إجمالي أعلى بمرات عدة من تلك التي كانت في عام 1990، وبرزت الصين في المقدمة لتُضاعف ناتجها المحلي الإجمالي عشر مرات خلال تلك الفترة، مع الإشارة إلى أن هذه الزيادة في الدخل لم تكن لصالح الأثرياء فقط؛ فقد انخفض الفقر كثيراً في هذه الدول أيضاً.
2– نسبية التحسن الاقتصادي في دول العالم النامي: رغم التقدم العام، فإن التحسن لم يشمل كل دول العالم النامي التي شهدت تفاوتاً ملحوظاً في النمو الاقتصادي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، رغم تشابه منطلقاتها الاقتصادية وأوضاعها السياسية العامة. وحتى إن شهدت بعض الدول الأفريقية بعض التقدم الهادف، خصوصاً في غانا وإثيوبيا؛ حيث تضاعف متوسط ​​الدخل ثلاث مرات بين عامي 1990 و2018، وبدأ العدد الإجمالي للفقراء في الانخفاض، ولكن في العديد من الدول الأفريقية الأخرى كان نمو الدخل أقل بكثير، واستمر عدد الفقراء في الزيادة باطراد في أنجولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا ومدغشقر.
3– صعوبة تحديد الدول النامية بدقة: وفق الكتاب، فإنه بعدما كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في نيجيريا وأنجولا أعلى في عام 1990 من بنجلاديش وفيتنام والصين والهند، أظهرت الدولتان الأفريقيتان لاحقاً تحسناً طفيفاً في مؤشرات الفقر، بل إن نيجيريا لديها الآن عدد من المواطنين يعانون الفقر المدقع أكثر من أي دولة أفريقية أخرى، بل ربما تكون قد تجاوزت الهند (التي يزيد عدد سكانها عن أربعة أضعاف سكان نيجيريا) باعتبارها الدولة التي بها أكبر عدد من الفقراء في العالم. وعلى ضوء ذلك، لم يعد “العالم النامي” محدداً بوضوح من حيث مستويات المعيشة أو الفقر أو الصحة أو إحصاءات التنمية الأخرى؛ إذ يعتبر من الدول النامية اليوم اقتصادات ومجتمعات من أعلى الاقتصادات من حيث معدلات النمو الاقتصادي، وأخرى من أدنى الاقتصادات من حيث المعدلات نفسها.
4– انعكاس جائحة كورونا على الاقتصادات الوطنية: بحسب الكتاب، فإن تفشي فيروس “كوفيد– 19” ألقى الضوء على مدى التفاوت بين الدول في القدرة على التعامل مع تبعات الوباء؛ فبالرغم من أن الفيروس مثَّل تحدياً للدول الغنية والفقيرة على السواء، كان واضحاً التباين حتى في المصطلحات المستخدمة لتجاوز ومعالجة تلك الأزمة؛ ذلك أن الدول الغنية استخدمت مصطلحات تستدعي ما تم فقده، مع الوعد بـ”إعادة البناء”، وبالنسبة إلى بعض الاقتصادات الأسرع نمواً في الآونة الأخيرة مثل الصين والهند، وكذلك إثيوبيا ورواندا وبنجلاديش وغانا، كان المغزى العام يتعلق بالحاجة إلى إيجاد طرق لإحياء نموها السريع المبكر واستكمال خطواتها للتنمية.
ولكن بالنسبة إلى العديد من الدول الأخرى التي كانت تكافح عشية الأزمة، مثل لبنان ونيجيريا، وكذلك الدول الأكثر فقراً وركوداً مثل سيراليون ومالاوي، لم يكن الأمر يتعلق بإعادة البناء؛ لتدهور أوضاعها الاقتصادية، بل بإيجاد مخرج للمواطنين من أزمة النمو والتنمية العامة التي تعانيها دولهم في العموم، ليضاعف “كوفيد–19” الحاجة إلى وضع تصور فعَّال لتحقيق النمو، خصوصاً مع تزايد القيود على تمويل الدول النامية من الشرق والغرب على السواء، وهو مما يضاعف الضغط من أجل ضمان أن تجد حتى أفقر البلدان نماذج انتعاش اقتصادي تتفق مع أهدافها التنموية.
محددات النجاح:
لفت الكتاب إلى بعض النماذج التي حققت نجاحاً في التنمية، في إطار ما وصفه بأنه “صفقة تنموية” قادرة على تحقيق النمو. ويمكن توضيح أبرز محددات ذلك فيما يأتي:
1– محورية الارتكاز على صفقة تنموية في الاقتصاد: في إجابته على التساؤل الرئيسي لكتابه، حول أسباب ازدهار دول وإخفاق أخرى، يجادل “ديركون” بأن الإجابة لا تكمن في اتباع مجموعة محددة من السياسات، بل في التزام سياسي من جانب أعضاء النخبة بالدولة بتنفيذ “صفقة تنموية” رئيسية، هدفها أولاً إرساء السلام والاستقرار بالدولة، ولتمهيد الطريق على المدى الطويل لإنجاز وتحقيق التنمية المنشودة؛ فالسمة المميزة لصفقة التنمية هي التزام أولئك الذين لديهم القدرة على تشكيل السياسة والاقتصاد في المجتمع، بالسعي إلى تحقيق النمو والتنمية، وتجنب أسباب الصراع وعدم الاستقرار، وهما العاملان اللذان يؤثران سلباً في نجاح عملية صنع القرار السياسي والاقتصادي بالدولة؛ وذلك مع العلم بأن أي صفقة نخبوية مستقرة ليست مجرد صفقة سياسية، بل أيضاً صفقة اقتصادية حول سبل الوصول إلى موارد الدولة والاقتصاد وتوزيعها. وفي صفقة التنمية، تتمحور هذه الصفقة الاقتصادية حول سبل متابعة النمو والتنمية.
2– اعتبار الصين نموذجاً ناجحاً في النمو الاقتصادي: أوضح الكتاب أنه على الرغم من عيوب مثل هذه الصفقات، التي “تقامر” فيها النخبة على استقرار أوضاعها مقابل وضع رؤية لتحقيق النمو على المدى الطويل، تعد الصين من أكثر قصص النجاح الأخيرة لفتاً للانتباه، بجانب إندونيسيا ودول أخرى لم يكن متوقعاً تقدمها نسبياً، مثل بنجلاديش وغانا وإثيوبيا؛ حيث تمثل هذه الدول قصص نجاح في النمو والتنمية، على الأقل من حيث الانتقال من بلد فقر مدقع يعاني من مستويات عالية من الحرمان إلى بلد نامٍ بسرعة عالج في داخله أشد أشكال الفقر المدقع، وهو ما بدا واضحاً على نحو خاص في الصين.
هذا مع الإشارة إلى أن نجاح الصين لم يتحقق إلا منذ ثمانينيات القرن الماضي رغم تاريخها البيروقراطي الذي يمتد لألف عام؛ حيث بدأ التحول في الدولة فيما بعد عام 1979، انطلاقاً من التزام أساسي من قبل قادتها بالنمو والتنمية؛ فقد راهنوا في الواقع بشرعيتهم السياسية كدولة الحزب الواحد على تقديم ظروف معيشية أفضل لمواطنيهم من خلال النمو والتنمية، وهو ما مثَّل بلا شك مقامرة واضحة كان يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، سواء اقتصادياً أو سياسياً، في حال عدم تحقيق الرهان على النمو.
3– ضرورة فهم التغيير الاقتصادي في إطار السياق المحلي: أكد الكاتب  ضرورة أن يكون التغيير الاقتصادي في إطار السياقات الداخلية لكل دولة، وأنه في الواقع ليس هناك وصفة محددة بوضوح للنجاح، بحيث يكون صقلها وتطبيقها في دول أخرى هو كل المطلوب؛ ذلك لأنه لا يمكن صقل وصفة واحدة للسياسة ونشرها في جميع أنحاء العالم. ولكن صفقة التنمية تمثل عقداً ضمنياً بين الذين يمكنهم تحقيق التنمية. ويمكن أن يتخذ هذا العقد أشكالاً مختلفة. وحتى عندما بدأ تقدم الصين في التحرك، لم يكن لدى بكين وصفة واضحة إزاء هذا التقدم، ولكن قام من هم في السلطة بالمقامرة، والتزموا بها حتى أسفرت عن نتائجها الإيجابية.
4– صعوبة وضع تعميمات لفهم إخفاقات التنمية: بجانب أن النجاح لا يقتصر على المؤسسات البيروقراطية، فإن الإخفاق لا يرتبط بالضرورة بتفشي الفساد وضعف السياسات في الدول ذات معدلات النمو المنخفض؛ ذلك لأن التعميمات لا تكفي لتفسير إخفاقات التنمية؛ فهذه المشكلات أعراض لعدم النجاح وليست أسباباً له؛ فكل أجزاء العالم وكل حضارة ودولة كافحت مع الفساد، كما أن إلقاء اللوم ببساطة على مشكلات الأنظمة السياسية لا يصح أيضاً، بحسب وجهة نظر “ديركون” الذي يشير إلى أن الصين، وكذلك العديد من الدول الآسيوية الناجحة الأخرى مثل كوريا، كان لديها نظام دولة الحزب الواحد وغيره من الأنظمة الاستبدادية خلال معظم فترات التقدم السريع، بينما أجرت دول أخرى، بما في ذلك الهند، انتخابات حرة ومفتوحة إلى حد كبير لكنها تخلفت عن الركب لفترة طويلة.
5– اتباع مجموعة متنوعة من السياسات الاقتصادية: وفق الكتاب يتم إيلاء المخططات المحددة للتنمية الكثير من الاهتمام، ومع ذلك يبدو أن الدول الناجحة اتبعت مجموعة متنوعة من السياسات الاقتصادية، وفي إطار تلك السياسات نجحت الدول التي حققت أهدافها الإنمائية في إرساء استقرار اقتصادي معقول، واستثمرت في البنية التحتية والصحة والتعليم، وأدارت مواردها الطبيعية بحكمة، ووفرت بيئة استثمارية معقولة لنمو القطاع الخاص، وسمحت للسوق بلعب دور مركزي. فلا يوجد طريق مجاني محدد ومرسوم للتنمية، حتى إن بعض الدول الناجحة على نطاق واسع تبنت سياسات كانت مكلفة لاقتصادها.
6– محدودية دور المساعدات الدولية في تحقيق التنمية: في مقابل محورية دور النخبة، فإن الدور الذي يلعبه التعاون الدولي والمساعدات الدولية في صفقة التنمية – وحتى مع الإقرار بأهميته بسبب التباين الشاسع في الثروات عبر العالم النامي – هو دور محدود في ظل اعتماد نجاح صفقة التنمية في المقام الأول على العوامل الداخلية؛ ذلك لأنه حتى مع الاعتراف بأهمية المساعدات الخارجية، وفي ضوء استكشاف بعض النماذج القياسية التي تتبعها وكالات المعونة الدولية، فضلاً عن منظمات التنمية الحكومية وغير الحكومية؛ فإن كل هذه النماذج يمكن أن تكون ناجحة أو فاشلة اعتماداً على صفقة النخبة الأساسية، التي يجب أن يلتزم فيها كلا الطرفين بجدية بإنجاح صفقة التنمية.
وختاماً.. يؤكد الكاتب أنه رغم الصورة القاتمة التي رسمها لتجربة بعض الدول، فإن النجاح الذي حققته دول أخرى ومن خلال آليات ووسائل مختلفة، يمنح التفاؤل للدول المتعثرة بإمكانية تحقيق النجاح التنموي المنشود؛ فقد تحسنت أوضاع العديد من الدول التي بدت كأنها حالات ميؤوس منها قبل عقود قليلة مضت. وحتى لو لم تصل هذه الدول بعد إلى مستويات المعيشة المنشودة لمواطنيها، فقد حققت مع ذلك حياة أفضل لمليارات المواطنين لم تكن متوقعة للعديد من المتابعين، وذلك رغم الصعاب التي واجهتها هذه الدول في طريق التنمية الذي رسمته بموجب صفقات التنمية بين أعضاء النخبة، وهو ما يعطي الفرصة للقادة السياسيين والاقتصاديين، والمفكرين، والأكاديميين، وحتى المواطنين عامةً في الدول المتعثرة التي تخاطر بالبقاء في الخلف، لتعلم الدروس من هذه النجاحات، وأن يجرؤوا على تنفيذ “المقامرة” المطلوبة لإنجاز التنمية.
=======================
المصدر:
– Stefan Dercon, Gambling on Development: Why Some Countries Win and Others Lose, (United Kingdom: C. Hurst & Co. (Publishers) Ltd., 2022).

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *