المعذبون (2)….ماسح الاحذية

منقول  عن مجلة العنقاء الشاملة_

الكاتب: جواد طيباني_ المغرب_

معذبون 02_ ماسح الأحذية.

على رأس شارع يفيض بالمارة، يجلس القرفصاء أمام صندوق رمادي خشبي تعلوه عتبة مسطحة بشكل القدم، وإلى جانبها في أعلى الصندوق فتحة بداخلها مناشف ومناديل وفرشات (شيتات) وعلب (السيراج) تتموج بين الأسود القاتم والأصفر، ينتعل على الأرجح صندلة (حلومة) مقطعة ومهترئة، وسروال خالطته ألوان السيراج حتى غشيت لونه الأصلي، وقميص رياضي لا يمت إلى السروال بأي صلة، يضع على شعره  الأغبر قبعة (كاسكيط) حمراء، بدت عليها نجمة خماسية خضراء بارزة، تتربع على ذقنه وشاربه بعض شعيرات غير متساوية في الحجم والطول توحي بأنه على أبواب المراهقة، يداعب علكة بلسانه ويلوكها لوكا، ويده اليمنى تمسك الفرشاة (الشيتة) ذات ظهر خشبي، يقرعها على جانب الصندوق مرددا: (سيراج سيراج…)
تجده كل يوم، صباح مساء على رأس الشارع، يسعى بين  المقاهي كالفراشة، لا يكاد يرفع رأسه، بل تجد يتصفح أحذية المارة والجالسين بناظريه، فهذا يلبس حذاءً رياضياً، وتلك السيدة ذات الكعب العالي النحيل لا عرف لها بالتلميع، لا تكاد قدمها تألف نعلا حتى تبدله بآخر جديد، وآخر يجر صندلة من بلاستيك صيفية، وشيخ  يمشي على مهلٍ  على بلغة زيوانية صفراء، فقليل هم أولائك الذين مازالوا يحافظون على أناقتهم بانتعالهم أحذية كلاسيكية وبزات ورابطات العنق، إلا أن يكونوا موظفين حكومين أو رجال إدارة أو ممن يعشقون الشياكة.
على شرفة مقهى عتيق في منتصف الشارع، أومأ إليه  أحد الجالسين في المقهى، تبدو عليه سمات ذوي الجاه والنفوذ، يلبس زيا رسميا أسود وربطة عنق زرقاء،  يخفي عينيه وراء نظارت طبية دائرية، ويقبض بكلتا يديه جريدة  يقلبها ذات اليمين وذات الشمال، بين أصابع يمناه سيجارة من النوع الفخم، يلثمها حينا بعد حين في أبهةٍ،  بادر  الصبي فور الإشارة إليه برفع قدم الرجل اليمنى على الصندوق وقد أحاطها بمنديل بسرعة البرق، وبدأ يفرك الحذاء بطلاء تلوى الآخر. بينما بقي  الرجل منغمسا في صفحات الجريدة، ويداه تتناوبان بين طرفي الجريدة والسيجارة وكأس القهوة،  التي أوشكت أن تبين عن ثُفلها، غير آبه بما يصنعه الصبي، لأنه داوم على تمريغ  كرامة هؤلاء المعذبين.     لم تمض سوى دقيقتين أو أقل حتى قرع الصبي بطرف الفرشاة (الشيتة) على الصندوق، وأردف قائلا: الرجل الأخرى سيدي.
خفض الرجل رأسه إلى أسفل الطاولة الدائرية، بعد أن زفر بسحابة من الدخان إلى أعلى، وضرب بسبابته على السيجارة ليفرغ رمادها في المرمدة(الطفاية)، فتطاير بعض من الرماد على رأس الصبي.
كان الوقت مساء، والشمس قد أوشكت أن تنحني لتقبل الارض، كانت بضع دقائق مرت ليصبح حذاء الرجل لامعاً وبراقاً، فأدِن الصبي للرجل بانتهاء المهمة.
سيدي، لقد أنهيت.
أطرق الرجل برأسه إلى قدميه، أمعن النظر جيدا في الحذاء من كل الجوانب، لم يجد أدنى ملاحظة؛ الصبي ماهر في عمله.
تفحص جيب معطفه، فأخرج درهمين، وضعهما على الطاولة دون أن يكلف نفسه عناء شكر الصبي بكلمة طيبة، وعاد إلى الجريدة.
جمع الصبي أغراضه وتلاشى بين المارة بعد أن وضع الدرهمين في جيب صغير على خصره الأيمن، لا بد أنه يدرك قيمة هذا المبلغ ليخبره بهذه العناية.
…..
هؤلاء المعذبون، ماسحو الأحذية، يعيشون على  هامش المجتمع، هذه المهنة التي تحط من كرامة الإنسان من حيث سمو القيم الإنسانية، يزاولها أناس فقراء ومهمشون ويتامى وأطفال الشوارع والصعاليك… كل الذين لم ينصفهم المجتمع، رغم أن في المهنة قبس من الشرف والعزة لن تجده فيمن يملكون أحذية غالية الثمن وبذلات أنيقة.
هذه المهنة  ظهرت في العصر الحديث وارتبطت بطبقة البروليتاريا، زاولها سياسيون وأدباء أصبحوا مشاهير وأعلام؛
نذكر منهم الرئيس البرازيلي الأسبق إيناسيولولاداسيلفا، الملاكم الأسطورة مايكتايسون، و أديب الهامش ولسان الفقراء والمعذبين محمد_شكري…

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *