المنطقة المغاربية بين حسابات أنظمتها ودور علماءها وإرادة شعوبها

عبد المولى المروري

يبدو أن دول المغرب العربي، أو المغرب الإسلامي، أو المنطقة المغاربية تعيش حاليا على صفيح ساخن، وعلى إيقاع حركة قوية وجديدة تداخل فيها السياسي والديني والتاريخي.. والتي تشكل في مجموعها حركة فكرية جديدة أو متجددة، ستؤدي لا محالة إلى توسيع دائرة النقاش داخل هذه الرقعة الكبيرة مساحة والمتنوعة ثقافة وأعراقًا وطبيعة وثروات .. ويبدو أن هذا النقاش سيفتح أوراشا كثيرة وعظيمة، ومهما ظهر هذا النقاش متوترا أو عنيفا، وأحيانا كثيرة خارج القيم الأخلاقية والضوابط العلمية التي تؤطر الخلاف والنقاش، ورغم ظهور بعض التفاعلات والانفعالات السيئة والمسيئة فإن ذلك علامة على حركية جديدة، ودليل على ظهور إرهاصات ومقدمات لانبعاث فكري جديد.. وكلما احتد النقاش إلا وكان ذلك حافزا على كسر القيود وتخطي الحدود التي فرضتها وتفرضها أنظمتها على الفكر والرأي .. وهو الأمر الذي يدفع إلى القول إن هذه المنطقة مفتوحة على تغييرات جذرية وعميقة على المدى المتوسط ..

أولا : جرأة الدكتور أحمد الريسوني في تناول قضية الصحراء وموريتانيا

دون الخوض في مضمون ما قاله الدكتور والذي تكلم فيه الكثيرون، وأبديت وجهة نظري فيه، فإن الجديد في الأمر أن الدكتور حرك معظم شعوب المنطقة المغاربية؛ علماءها وعوامها، وإعلامييها وساستها ومفكريها، وأحزابها وأنظمتها، حيث استدعى في تصريحه ثلاث مرجعيات مؤطرة للفكر، وهنا قوة الدكتور الريسوني البيداغوجية وجرأته في الحق، المرجعية الأولى دينية، ذلك أنه أعاد الوضع الحالي إلى أصله الديني، أن الأمة والوحدة هي الأصل، فخاطب الضمير الديني. والمرجعية الثانية تاريخية، ذلك أن موريتانيا أو منطقة شنقيط وجزء من غرب الجزائر هي جزء من الدولة المغربية قبل الاستعمار الفرنسي والإسباني، فأيقظ الذاكرة الوطنية. والمرجعية الثالثة سياسية، حيث أكد الدكتور أن ما تعيشه المنطقة المغاربية من انقسام راجع بالأساس إلى مخلفات استعمارية، وقبول الأنظمة المغاربية حينئذ بواقع التجزئة والتشرذم، منوها إلى ضرورة إشراك الشعب في أي قضية سياسية، فاستنطق الواقع السياسي وفتح شهية الجميع للكلام والرد والتعقيب دون قيود ..

لقد فتح الدكتور أحمد الريسوني (في دقائق معدودات) نقاشا مغاربيا كبيرا ومفتوحا بأبعاده الثلاث؛ الديني والتاريخي والسياسي، وهو ما يستدعي بالضرورة مشاركة كل ذوي الاختصاص والاهتمام، وستتعدد وتختلف زوايا النظر والرأي، وسيحاول كل طرف الانتصار إلى قطره الجغرافي أو تصوره الثقافي، أو نظامه السياسي، أو تاريخه الذي درسه في كتبه المدرسية والوطنية.. وقليل أولائك الذين سيناقشون بتجرد العالم والمفكر، وبالمنطق الوحدوي وليس القطري، وبالتاريخ الحقيقي غير المكتوب، وليس بالتاريخ الرسمي.. لكن كل هذا لا يهم.. المهم أن ينطلق النقاش خارج الحدود، ويتجاوز السقف الذي وضعه كل نظام على شعبه، ويحطم القيود المفروضة على الفكر والرأي.. هذه هي المعركة الحقيقية، ومن هنا يبدأ التغيير.. النقاش الحر والفوضوي أولا، ثم النقاش المسؤول والواعي ثانيا، ثم النقاش المنتج والمؤثر ثالثا ..

لذلك أعتبر أنه رغم قساوة ورعونة وسماجة بعض التدخلات والخرجات التي استهدفت الدكتور أحمد الريسوني، بقصد أو بغير قصد، بسوء نية أو بحسن نية، بعلم أو بجهل، فإن كل ذلك خير ولن يضر الدكتور في شيء، ولن يحرك شعرة من رأسه، (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ)، والدكتور لن يخرج عن قاعدة الابتلاء وسنة الفتنة التي أصابت من قبله من العلماء والدعاة والصالحين مثل الإمام مالك والإمام أحمد وابن تيمية وغيرهم.. فالأنبياء أشد بلاء ثم العلماء .. والمهم أن الدكتور فتح باب كبيرا للنقاش، وطريق واسعا ووعرا للحوار، ومسارا سالكا للتغيير .. بإمامة الأئمة والعلماء وقيادة المصلحين وإرادة الشعوب.. وذلك خارج حسابات الأنظمة السياسية ومصالحها وارتباطاتها الخارجية..

ثانيا : خطيئة الرئيس قيس السعيد باستقبال زعيم الانفصاليين

كغيري من المغاربة، وكمغربي وطني ساءني استقبال الانقلابي الرئيس قيس السعيد لزعيم جبهة البوليساريو الانفصالية، وتصرفه هذا رعونة سياسية وخطيئة ديبلوماسية مستنكرة وشنيعة، ليس لأنه استقبل أحد أعداء المغرب فحسب، بل لأن جبهة البوليساريو أحد أبرز مخلفات الحقبة الاستعمارية للمنطقة المغاربية عامة وللمغرب خاصة، وآخر وأخطر مشروع تفكيكي يستهدفها ويعمل على إضعاف دولها وزرع الفتنة بين شعب المنطقة المغاربية.. وللأسف الشديد الرئيس التونسي قيس السيد نفذ بغباء شديد مشروع التجزئة وكرس واقع التفرقة.. وهو الأستاذ الخبير في العلاقات الدولية ومطلع على المخططات الاستعمارية..

إن منطلق امتعاضي واستنكاري على الجريمة الديبلوماسية التي اقترفها قيس السعيد والمتمثلة في الاستقبال الأخرق لزعيم حركة انفصالية معادية للوحدة الترابية والمكملة للمشروع الاستعماري ليس من منطلق حس وطني فحسب، بل من منطلق رؤية وحدوية، تعتبر سكان المغرب العربي شعبا واحدا مزقه الاستعمار، وجعل منه دويلات صغيرة بدون سيادة، وذات أنظمة تابعة لدول الاستعمار، خاصة فرنسا، وموضوع استغلال اقتصادي وتبعية ثقافية وسياسية.. وهو المنهج نفسه والمنطق الوحدوي ذاته الذي تكلم به الدكتور أحمد الريسوني..

لا يخامرني شك أن ما قام به قيس السعيد ناجم عن إملاءات خارجية، قد تتورط فيها فرنسا والنظام العسكري الجزائري، وعندي قناعة قوية أن ذلك يندرج في إطار حسابات سياسية مدفوعة الأجر (مادي وسياسي)، شق منها يضمن للرئيس الانقلابي الاستمرار في الحكم (الأبدي) الذي سيصبح حكما ديكتاتوريا شموليا فيما بعد على غرار النظام العسكري الجزائري، وشق منه يتعلق بالإبقاء على مصالح فرنسا الاقتصادية وعلى التبعية الثقافية والسياسية، وعندي قناعة أيضا أن ما اقترفه الرئيس الانقلابي هو ضد إرادة مجموع الشعب التونسي الشقيق وضد قواه الوطنية الحية السياسية والمدنية.. وهذا ما سيزيد من حدة التوتر ويفاقم الأزمة الداخلية بعد انقلاب السعيد على الدستور والديمقراطية وثورة الياسمين..

تباعد الهوة بين أنظمة دول المنطقة المغاربية وبين شعوبها تزداد اتساعا وعمقا، فالأنظمة في واد والشعوب في واد، حسابات الأنظمة السياسية تركز على ذاتها ومصلحتها وتبعيتها في إطار الدولة القطرية مهما كانت ضعيفة وهامشية وهشة، وشعب المنطقة المغاربية ينشد الوحدة المغاربية والاندماج الكلي، وتحقيق العزة والاستقلالية.. وهنا يكمن دور العلماء الكبار الذين يتجاوزون واقع التجزئة والتشرذم الذي صنعه الاستعمار، ويدعون إلى وحدة الأمة التي هي إحدى مقاصد الدين الإسلامي.. والتي يمكن أن تبدأ بالتدريج بين شعب منطقة المغرب العربي، وشعب منطقة الخليج العربي، وشعب منطقة الشام وهكذا..

فإذا لم يكن هذا هو دور العالم الموضوعي الذي يتفاعل مع واقع الشعوب وآلامها وآمالها في الحرية والكرامة والانعتاق، إذا لم يكن دور العالم في رفع وعي الشعوب والارتقاء بها إلى الفكر الوحدوي ونبذ التفرقة وواقع التجزئة وكل مخلفات الحقبة الاستعمارية، إذا لم يكن دور العالم في الدفاع عن حرية الرأي والفكر وحقوق الإنسان التي أكد عليها الإسلام في القرآن والسنة، وإذا لم يكن للعالم دور في إنكار ظلم الأنظمة السياسية على شعوبها.. فأين يكمن دوره؟ وما هي رسالته الإسلامية وشهادته الإنسانية؟ والحقيقة لا يمكن لعالم تابع لنظام سياسي وخاضع لسياسته، ويعيش تحت ظله ويحتمي بسقفه أن تكون له استقلالية أو يدافع عن الحرية أو تكون له تطلعات وحدوية.. وفي الأحداث الأخيرة يمكنني أن أقول إن الدكتور أحمد الريسوني حقق الاستثناء بعقلية العالم الوحدوي وبفكر الأمة الواحدة الذي لا يعترف بالحدود الاستعمارية، وأن الرئيس قيس السعيد أكد الواقع الاستعماري بكل مخلفاته وسيئاته ومفاسده، فالعالم يقترب من الشعب ويعيش همومه، ويعطيه الحقيقة مهما كانت أليمة وقاسية، والحاكم يقترب من الغرب ويحمي مصالحه، ويسوق للشعب الوهم بطرق احتيالية وماكرة، فأين إرادة الشعب؟

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *