ثورة البسطاء أم أدوار الإسلاميين المرتقبة؟

عن موقع القدس العربي.
بقلم: بلال التليدي*
قبل سنوات كتب عالم الاجتماع الإيراني الأصل (الأمريكي الجنسية) عاصف بيات كتبا يرصد فيها تحولات الإسلاميين، وعَمقَ فكرة «ما بعد الإسلاميين» بملاحظاته لسياق الربيع العربي، والتشكيلات الاجتماعية التي أسهمت في صنع الثورة وقيادتها، فتحدث عن «ثورة بلا ثوار» وحاول أن يرصد ما أسماه بظاهرة «اللاثورات» أو «ثورة البسطاء».
كان منطلق ملاحظة بيات، أن الفقراء والمساكين، ممن لا إيديولوجية لهم، وممن لا ينتسبون لأي حزب سياسي، هم الذين ملأوا الشوارع، وأن الإسلاميين، لم يعودوا طليعة تقود الجماهير، بدليل أن الشعارات التي رفعت في الثورات، لم تكن دينية، وإنما كانت «علمانية» تنصب أساسا على قضايا الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية.
المآلات التي انتهت إليها الثورات العربية كشفت محدودية أطروحة عاصف بيات، وأن الطابع الوصفي فيها ترك بصماته الثقيلة على البعد التحليلي والاستشرافي، فقد فرضت لحظة ترتيب وضع ما بعد الثورة، أن يدخل الفاعلون الرئيسيون إلى الدينامية السياسية، وشكل الإسلاميون الفاعل الأساسي في صناعة وترتيب أوضاع ما بعد الثورة.
لا يهمنا التوقف كثيرا عند أطروحة عاصف بيات، فالناظر إلى كتاباته المتأخرة، يمكن أن يلمس الارتباك الكبير الذي أصاب مخرجاتها وخلاصاتها، والارتهان الكبير للمعطيات الوصفية الظاهرة، لكن يهمنا أن ننطلق من خلاصاته لطرح سؤالين اثنين، يتعلق الأول، بمساءلة تمثلات المزاج العربي لمقولة الاستقرار، ويرتبط الثاني، بموقع الإسلاميين، ودورهم المستقبلي في الحراكات القادمة.
قبل الربيع العربي وأثناءه، حصرت معظم الاستمزاجات واستطلاعات الرأي التي أجريت في العالم العربي، الأوليات الشاغلة للمزاج العربي في الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، وسجلت بهذا الخصوص، تراجع قضايا التحرير والمقاومة (قضية الصراع العربي الإسرائيلي).
التفسير الذي كان مهيمنا لحظتها، أن المزاج العربي أصبح يربط ربطا تلازميا بين التغيير السياسي وبين الاستقرار، وأن مدخل الاستقرار هو إحداث تغيير سياسي، يقيم مؤسسات ديمقراطية، ويبني شرعية سياسية تعاقدية جديدة، تبنى على أساس الوفاء لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، وتراهن أساسا على ضمان العيش الكريم للمواطن العربي.
يضاف إلى هذا التفسير، أن تراجع قضية الصراع العربي الإسرائيلي في المزاج العربي، لم يكن يعني بالمطلق تغيرا في الموقف من المقاومة، ولا إعادة ترتيب للعقل العربي، بالنحو الذي تصبح فيه القضية الفلسطينية ثانوية. وإنما كان التفسير، أن حل القضية الفلسطينية، لا يمكن أن يتم ضمن أنساق سياسية استبدادية، تقيد الخيارات المتاحة لتحقيق تقدم في موازين القوى لفائدة قوى المقاومة ودحر العدو الصهيوني.
بعد الربيع العربي، وتحديدا، بعيد الانقلاب على الشرعية الانتخابية والدستورية في مصر، تغيرت خلاصات هذه الاستمزاجات، وتربعت قضية الاستقرار على رأس الأولويات، وتراجعت بشكل كبير قضية الحرية والديمقراطية، لفائدة مجرد لقمة العيش.
المواطنون في عدد من الدول العربية، لاسيما في مصر، عانوا من طول فترة ترتيب الوضع الديمقراطي، وكان ذلك على حساب قوتهم ومعاشهم، وأحيانا على حساب رواتب موظفيها ومواقعهم في العمل.
الصراع بين الثورة والثورة المضادة، أو بين قوى المجتمع، وقوى السلطة المحافظة، أتعب الجماهير غير المؤطرة، فأصبح الفقراء والبسطاء، الذين قال عنهم عاصف بيات أنهم سيكونون بديلا عن الإسلاميين، الورقة التي استغلتها القوى السلطوية المحافظة لتغلب فكرة الاستقرار في المزاج العام على فكرة التغيير.

الأوضاع في بعض الدول العربية، لاسيما في تونس ومصر، مهد الثورات العربية، تقترب من حالة سيريلانكا، فالمؤشرات الاقتصادية جد متهالكة، والدولة مقبلة على الإفلاس الاقتصادي.
التحولات التي جرت اليوم، قلبت المعادلة رأسا على عقب، فهؤلاء البسطاء الذين انتصروا لفكرة الاستقرار، ووثقوا في إمكانية أن تقوم قوى الاستبداد بتوفير لقمة العيش، صاروا مهددين اليوم، وأكثر من أي وقت مضى في قوتهم ومعاشهم، ليس فقط بسبب سياسات هذه النخب السلطوية، ولكن أيضا بسبب التحولات الجارية في العالم، وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية المتعاظمة.
مع جائحة كورونا، تسلحت القوى السلطوية بجوابين اثنين، الأول، أن الأزمة ليست خاصة، وإنما أصابت العالم بأجمعه، وأن العالم كله يعيش فترة الضيق، وأن خيارات الدولة محدودة. والثاني، أن احترام التدابير الصحية الاحترازية، يقتضي حضورا كثيفا للسلطة وتقييد الحريات، ولذلك، تراجع الطلب على المعاش، وحل محله الصبر والتضامن المجتمعي.
مع الحرب الروسية الأوكرانية، تعرت الاستراتيجيات الوطنية الخاصة بالأمن الغذائي والطاقي، وتعرت معها العبقريات أو الشرعيات السياسية التي تؤسس على فكرة العبقرية السياسية للزعيم والقائد الملهم، وأضحت حجة تعويم الخاص في العام (نحن نعاني كما يعاني كل العالم) فاقدة لقوتها في الإقناع، ولم يعد العالم قطعة واحدة، مصبوغة بلون واحد، بل وقع التمايز، بين دول مهددة بالمجاعة والعجز عن تأمين القوت للمواطنين، ودول لا تستطيع تأمين كل احتياجاتها الغذائية والطاقية، وأخرى اشتغلت لسنوات طويلة على هذا الموضوع، ووجدت جوابها في التعاطي مع الأزمة.
في العالم العربي، وربما على مستوى شرق أوسطي وإفريقي، ثمة خارطة واحدة، مهددة كليا أو جزئيا في أمنها الغذائي والطاقي، لكن، ثمة تمايزا على مستوى الموارد المالية، وأيضا على مستوى الخيارات الدبلوماسية لتأمين الغذاء، فثمة دول تملك وفرة مالية ولها خيارات دبلوماسية واسعة. هذه الدول لن تجد أي صعوبة في تأمين غذائها، وربما بوفرة. في المقابل، وثمة دول أخرى، تعيش أوضاعا اقتصادية لن تساعدها على تأمين كل احتياجاتها، وربما لا تملك الخيارات الدبلوماسية الكافية للخروج من أزمة الغذاء والطاقة، أو لا تسعفها الجغرافية السياسية، حتى تضمن قوتها في خضم أزمة الإمدادات لسلاسل الغذاء بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا.
ما حدث في سيريلانكا يقدم مشهد دولة تحطم اقتصادها بشكل كامل وعجزت آلتها عن تأمين احتياجات المواطنين. والنتيجة، أن المواطنين، تظاهروا، وكان قصر الرئيس هو المكان الطبيعي لتنفيس الغضب، ووجدت المعارضة السياسية، نفسها أمام امتحان المساهمة في بناء شرعية سياسية جديدة.
الأوضاع في بعض الدول العربية، لاسيما في تونس ومصر، مهد الثورات العربية، تقترب من حالة سيريلانكا، فالمؤشرات الاقتصادية جد متهالكة، والدولة مقبلة على الإفلاس الاقتصادي، والبسطاء الذين تحدث عنهم عاصف بيات، أصبحوا يشعرون أن الاستقرار الذي من أجله ضحوا بالحرية والكرامة والديمقراطية، جلب لهم ضيق العيش وربما المجاعة، والمعارضات السياسية في العالم العربي، توجد في أسوأ أحوالها، بمن في ذلك الإسلاميون، الذين يعيشون لحظة التشظي (صراع الشرعية داخل كتل الإخوان، الصراع الداخلي لحركة النهضة، صراع الأجنحة داخل العدالة والتنمية المغربي…)..
واقع الإسلاميين قبل الثورة كان مشجعا لهم، ليس فقط في القيام بدور مهم في ترتيب السلطة، ولكن أيضا في توحيد صفوفهم وتجديد قدراتهم، فالذين عاشوا لحظة الحصار والتضييق السياسي (الإخوان في مصر) وجدوا اللحظة مواتية للخروج وتقوية الموقع التفاوضي، والذين عاشوا تجربة المنفى والشتات بسبب سياسة الاستئصال (النهضة في تونس) وجدوا اللحظة مناسبة لإعادة بناء الذات، والخروج للسياسة، والظهور بمظهر الحزب السياسي الأقوى تنظيما وتماسكا والتفافا حول القيادة، والذين تدرجوا في العمل السياسي بشكل انسيابي في المؤسسات (حزب العدالة والتنمية) وجدوا الظرفية مناسبة للتفاوض مع السلطة لبناء شراكة تمنع المغرب من السقوط في المجهول.
اليوم، تغيرت هذه المعطيات تماما، بالنسبة للإسلاميين، كما أن أوضاع المعارضات السياسية الأخرى، لا تقل قتامة عن الوضع الذي يعيشه الإسلاميون أنفسهم.
المؤشرات لحد الآن مقلقة، لكنها ليست حاسمة، لكن إذا تعمقت أزمة الغذاء وتزايدت نسب التضخم واستمرت أسعار المواد الغذائية في الارتفاع، وسارت أسعار المحروقات في نسق تزايد مطرد، فإن انتفاضة البسطاء ستكون قدرا اقتصاديا واجتماعيا، لكن خيارات تجديد التعاقدات السياسية لتجاوز الأزمة، ستكون محفوفة بالعديد من المخاطر، وسيكون على الإسلاميين وبقية المعارضات، أن ترفع تحدي تجاوز الأدواء الذاتية، للقيام بدور ما في المرحلة المقبلة.
* كاتب وباحث مغربي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *