fbpx

صورة الجامعي بالمغرب: بين التمثلات الاثنوغرافية السائدة واالحاجة للدراسة الأكاديمية الرصينة

عبد العزيز الماحي :

يتواتر الحديث عن بعض المظاهر التي تعرفها الجامعة المغربية وفي غالب الأحيان لا يسجل الرأي العام منها سوى تلك السلبية وذات الدلالات القدحية والمعيبة. من الناحية الأنثروبولوجية والثقافية من العسير إيجاد مقابل correspondant لتصنيف الأستاذ “الجامعي والباحث …” في البنيات التعليمية التقليدية، وأية محاولة لذلك ستسقط حتما في التعميم، الإسقاطات و الخلاصات المتسرعة Projection et extrapolation. فإذا كان الفقيه يقابله المعلم في المدرسة الحديثة من الصعب إيجاد مرادف مقنع بل فقط ترجمة تقريبية بالتكافؤ لمفهوم الجامعي في النسق المجتمعي التقليدي مثل: علامة، عالم، متفقه في العلوم !!! هكذا كانت مهمة التصنيف بالرجوع إلى البنيات والتصورات المتعارف عليها في الأوساط التقليدية صعبة لتمثله في النسق الجديد للمجتمع المغربي لما بعد الاستقلال والذي عرف إحداث عدة جامعات وطنية.
مجموعة من التمثلات والصور النمطية تروج بالمجتمع حول الجامعي والحقل الجامعي عموما: فأحيانا نجد مسألة عدد ساعات تدريس الجامعي واعتبار جدوله الزمني كجدول زمني هزيل، بالمقارنة مع بعض المهن التدريسية الأخرى، مما يظهر بجلاء مدى استشراء تصور يجهل طبيعة اشتغال الجامعي ومختلف المهام الأخرى الملقاة عل كاهله كالبحث العلمي والتأطير وتكوين الأطر وتكوين المكونين… فأصبحنا نلاحظ من بين المظاهر الرائجة مجتمعيا والتي يتم التركيز عليها في مثل هذه التصورات السائدة نوع من ” التجارة” وفرض بيع/شراء بعض المقررات والكتب التي هي عبارة عن مؤلفات لبعض الأساتذة الجامعيين وبالطبع لها علاقة بالمقرر وبمجال اختصاص الأستاذ في أغلب الأحيان. كما تطغى حالات الابتزاز الجنسي وما يسميه البعض عن طريق استعمال عناوين مثيرة “النقط مقابل الجنس”. هذا إذا اعتبرنا ذلك قد شكل الجيل الأول من المشاكل والصور النمطية الذي رافقت الجامعة منذ نشأتها وتوسعها وولوج أفواج من الأساتذة الشباب كأساتذة باحثين مع تمثلات لصيقة بهم بل وترسخت بفعل عدة أحداث ووقائع. نضيف إلى ذلك صورة الأستاذ المقاول الذي يتفرغ لمشاريعه على حساب التدريس والبحث والتأطير وكأنه يوظف منصبه ومعارفه في تحقيق أرباح ومراكمة المشاريع. هنالك جيل آخر من الصور السائدة يتمثل في بعض الظواهر الأخرى التي تتعلق بالفساد وتغيير النقط بل “المتاجرة” بالديبلومات وغيرها من الشواهد التي تسلمها الجامعة وتحمل عناوين مثل المال مقابل الماستر والتوظيف. هذا النوع الأخير يطرح الظواهر التي هي امتداد للمجتمع بكل سلبياته داخل فضاء الجامعة وبالتالي هي غير حكر على الحقل الجامعي مثل كل مظاهر الفساد العام ومفاهيم المتاجرة في كل شيء وتحطيم كل القيم الأكاديمية النبيلة التي صمدت واعتبارها أصناما لا قيمة لها. هذا الجيل الثاني يمكن أن نعتبره نفيا تاما للديونتولوجيا déontologieالجامعية كتغليب وطغيان، بكل بساطة، لقيم السوق إن جاز هذا التعبير المستعمل في مقام آخر. أكيد أن هذه الظواهر الأخيرة تحمل الكثير من المبالغة والتضخيم أحيانا لكن في نفس الوقت من الصعب نفيها بدليل وصول العديد من القضايا إلى المحاكم وسنتحفظ هنا عن ذكر الجامعات والمؤسسات والأشخاص. وازعنا هنا هو التفكير الهادئ، المتزن البعيد عن التشهير والتشنيع بأي كان. وبطبيعة الحال هذا التصنيف سيشمل كذلك النخب الجامعية التي تستدعى للانضمام للجان الوطنية المتعلقة بالقضايا الكبرى كالتشغيل والتنمية والاقتصاد والعمل الحقوقي والعدالة الانتقالية… والتي يكـفي وجودها لإعـطاء الكثير من المصداقية لـعمل تلك اللجان. يمكن أن نسمي هـذه الفـئة بنـخبة النخبة «l’élite de l’élite ou la crème de la crème » لدرجة يسود الاعتقاد أن وجودها يكفي في حذ ذاته لإضفاء بعض الشرعية على اللجان والمؤسسات الوطنية المحدثة وكنتيجة لذلك سلطتها العلمية تآكلت في بعض الأحيان بفعل هذا الاستخدام الديماغوجي والسياسي الفض. كما أن وجوها أخرى للجامعيين، تنتمي “لمراكز ولمختبرات…” بحث وغيرها من الهيئات المحدثة، ولجت إلى ميدان الإعلام هي للاستهلاك وملأ الساحة لدرجة سقوطها في المألوف إن لم نقل التبسيط المفرط vulgarisation الذي قد يناقض مرتبتها العلمية ويضر بها. ومما لا شك فيه أن بعض “المحللين السياسيين” و المعلقينcommentateurs على الأحداث الساخنة نزلوا بالبحث العلمي والفكر الأكاديمي من أعلى مراتبه إلى أسفل وحضيض البرامج التلفزية لوقت الذروة (prime time) و ملأوا أركان للحوادث العامة Faits divers بالجرائد المكتوبة والإلكترونية. دون أن ننسى الجامعي الذي وجد ضالته vocation في التسيير الإداري وكأنه اكتشف ذاته في مهام أبعدته نسبيا عن التدريس والبحث العلمي والتأطير. هكذا سيكتمل بشكل عام هذا التصنيف أو التيبولوجيا كنموذج افتراضي-استنتاجي hypothético-déductive لبعض المظاهر والتصورات عن الجامعي المغربي والطاغية ولمختلف الصور النمطية السائدة التي تروج حوله مجتمعيا. خلفيات هذا التصنيف، وإن كان دائما تستند إلى وقائع وأحداث وممارسات تحدث فعليا داخل أسوار الجامعة ولصيقة بالجسم الجامعي عموما، فإنها تقع في المبالغة والتعميم والتنميط والوصم stigmatisation مثلما يقع في الكثير من الظواهر الاجتماعية والقضايا الناشئة بالمجتمعات عندما لا تخضع للتأطير والبحث المنهجي.
نعيد طرح السؤال المحوري: هل بالإمكان أن تصبح مهنة الجامعي وصورته وكل المظاهر النمطية المحيطة به موضوع دراسة بحثية أكاديمية؟ إذا طرحنا هذا السؤال سنستحضر بالتأكيد السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو الذي كان ضمن أوائل من جعلوا من الجامعيين والمثقفين موضوع دراسة في كتابه هومو أكاديميكس “Homo Academicus” . وبعبارة أخرى كما قال في إحدى الحوارات كان أول من رمى حجرة في البركة الآسنة “Le premier à jeter une pierre dans la marre “. كان بورديو يعرف أن هذا المحيط يستعصي عن الدراسة ليس بحكم صعوبته بل خصوصا لنوع المقاومة résistance التي سيجدها. هي بالخصوص عبارة عن قناعة مترسخة لدى “الجامعي” بأنه هو الذي يدرس ويشرح فكيف له أن يتحول إلى موضوع دراسة وبحث. الجامعي بطبعه يعتقد أنه يستعصي عن البحث والتشريح نظرا لخصوصياته ولتفرده في المجتمع وغير ذلك من المعتقدات أو الدوكسا doxa اللصيقة ببعض النخب. وإن لم نعتبر ذلك مقاومة ذاتية فهي على أي حال عائق إيبيستيمولوجي Obstacle épistémologique حسب مفهوم ڴاستون باشلار.
أكيد كذلك أن أولى الصعوبات المنهجية التي ستواجه الباحث هي الانتماء إلى الجسم موضوع البحث والدراسة أي أنه ينتمي عضويا إلى نفس الحقل. هل من الممكن موضعة objectivation موضوع البحث هذا بالرغم من هذا الانتماء والارتباط. وهو ما سماه البعض الحقل الجامعي champ universitaireوالذي يشمل عددا من التسميات والصفات مثل” جامعي، أكاديمي،أستاذ باحث…” التي وإن افتقدت الدقة أحيانا إلا أن ما سيضمها ويجمعها هو العلاقة بالجامعة. فالحقل الجامعي يضم كل من يرتبط بالجامعة مثلما الحقل الاقتصادي يجمع كل من يرتبط بالاقتصاد…كل هذه الأسئلة طرحها بيير بوديو وقد حسمها تارة بدقته ورصانته الفكرية المعهودة و تجاوزها وطورا بنوع من السخرية من الذات. فالسخرية من الذات Auto dérision هي كذلك من الأدوات التي يمكن أن يحقق بها الإنسان مسافة بينه وبين موضوع دراسته، بينه وبين ذاته.
أما بالنسبة لموضعة دراسة الجسم الجامعي من طرف من ينتمي إليه فسنترك بورديو يجيب عنها في مقام آخر. في أحد مقالاته الشهيرة التي تعرض فيها لبعض الصعوبات التي تعترض الموضعة السوسيولوجية وهو تحت عنوان Participation Objectivante أو الموضعة المشاركة مما يعني أن انغماس immersion الدارس أو الباحث في حقل معين لا يحول دون دراسته بالرغم من الانتماءات والارتباطات التي قد تجمعه به، بمعنى آخر أن يكون بإمكان االفرد أن يكون ذاتا باحثة وموضوعا للبحث في الوقت ذاته.
يجب توخي الحيطة والحذر بشأن الاستمرار في هدم النماذج البناءة والهادفة المتعلقة بأسرة التعليم عموما والجامعة على الخصوص، عبر التبخيس والمغالاة في الانتقاد وتحميلها مشاكل المنظومة والمسؤولية عن كل ما يقع من اختلالات. فالجامعي هو من يدرس الجميع قضاة، أطباء وخبراء وهو بذلك يكون المكونين ويكون الأطر وبالتالي التحامل المجاني وغير المدعوم والاستهداف الأخرق والغير المبرر من شأنه أن يفقد المصداقية للجامعة وكذلك للشواهد والديبلومات التي تسلمها. فبعض المفاهيم المجتمعية الجديدة تبخس المقاربات النقدية والاجتهاد الأكاديمي مروجة لمقولات الانتهازية والغاية تبرر الوسيلة عن طريق المتاجرة بكل القيم وهي في نهاية المطاف تستهدف الإطاحة بجميع الصروح المقاومة ومن ضمنها الجامعة كفضاء للفكر الحر.
الأكيد يجب أن يأخذ الجامعيون مصير الجامعة بأيديهم بحثا ودراسة في كل المواضيع لكن كذلك دراسة للذات ومجمل التصورات التي تحوم حولها. لن يتسنى للجامعة أن تتطور إلا بنظرة مرآتية/انعكاسية spéculaire تعكس الذات كموضوع للدرس في مجتمع متحول باستمرار. فاغلب الدراسات هي إحصائية ديمغرافية كعدد المقالات للأستاذ، الديبلومات المحصل عليها، متوسط سن التقاعد…بينما نفتقد لتلك الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية الحقة التي ستنيرنا عن نظرة المجتمع للجامعيين وللجامعة عموما ودورهما والانتظارات والأدوار الموكولة إليهما مستقبلا.

عبد العزيز الماحي
الجديدة في 08 مارس 2023.

سبق أن نشر المقال بمجلة” هسبريس” الإلكترونية بتاريخ 16 فبراير 2023. صيغة معدلة ومحينة.

اترك رد