قصة قصيرة :عام الوحش

سعيد رضواني
(المغرب)
أغلب الظن لن يكون بمقدور أحد، ممن يعيشون الآن، أن ينجو من الموت بعد مرور قرن كامل، ومع ذلك يوجد من يعتقد أن بعد قراءة كتاب اسم الله المائة، أو بفك طلسم الخلود، سيكون بمقدوره قراءة صفحات من هذا الكتاب أو ذاك الطلسم على أجيال متلاحقة من أسلاف المستقبل على امتداد قرون وقرون.
هذا ما اعتقد بالداسار، شخصية أمين معلوف، وهو ينطلق تحت أشعة الشمس المتسللة من بين فروع أشجار الأرز، مخلفا وراءه نخيل ساحل جبيل، كي يعثر على كتاب اسم الله المائة للمازندراني ليطلع عليه، فيتجنب الفناء في عام الوحش. كما يعتقده رجل آخر على بعد آلاف الأميال، رجل سليل أعراق كثيرة مرت على سواحل المحيط الأطلسي، حيث عثر في قارورة على ورقة طلسم يعد مفكك رموزه الملغزة بالنجاة من فناء آخر.
لم يكن السفر عبر الطائرة، التي بإمكانها تجنيبه النظر إلى السهوب الجرداء والجبال الجدباء، متاحا في ذلك اليوم. ولم يهون من قسوة سفره عبر السيارة سوى الموسيقى المنبعثة من مكبرات الصوت فيها، ودخان الكيف الذي يشفطه من سبسيه، والذي استطاع أن يفرش البقاع الموحشة بزراب من الزهور، ويكسو الجبال الغبراء بقبعات من الشجر وأخرى من الثلج. ومع آخر مجة أدرك سر تحمل سكان تلك البقاع قساوة العيش بين أحراجها، إنه تدخين الكيف الذي يوهمهم بجمال تفرشه المخيلة تحت أقدامهم المشققة.
شيء ما أوحى له أن نبتة الكيف لا تخدع المرء إلا بقدر ما تخدعه حواسه؛ فالحواس أيضا نسبية تخدع الإنسان وتوهمه، ولا تنقل الحقيقة مطلقا.
ميلا بعد آخر كانت تتملكه الحيطة وتحذره الحواس من التماهي مع السرعة التي من الممكن أن تفتك بجسده على مهاد هذا الطريق، فقدره بصفته ناجيا من الحوادث لم يحن بعد، ولن يحين إلا بعد فك رموز طلسمه. ومع ذلك بخرت حذره لهفة العثور على مفكك ألغاز، فانطلقت السيارة مسرعة باتجاه مراكش كأنها تحلق على بساط الريح، ولم يطل به الوقت قبل أن يجد نفسه رفقة صديقه عبد الوهام، متحلقين حول راو فرش على الأرض بساطا كان يمثل به وهو يختم حكاية بساط الريح.
عبد الوهام، ليس في هذا الاسم ذرة شك لظل خطأ مطبعي أو خداع بصري، إنه، كما حكى له صديقه، الانزياح اللاإرادي الذي يشاء قصور حواس مسجل عقود الولادات الجديدة أن ينحت منه اسما آخر ينضاف خطأ إلى الأسماء التسعة والتسعين.
إن قصور أُذني محرر عقود الازدياد أو ربما ارتعاشات أنامله دفعت به إلى كتابة الوهام بدل الوهاب. في التسعة والتسعين من أسماء الله الحسنى لا نعثر حتما على كلمة الوهام، ولكننا نعثر على اسم قريب منه: الوهاب. وخلال حديث سابق دار بينهما، هنأ صاحبه بهذا الاسم وأخبره أننا اعتدنا أن نربط كلمة عبد بأسماء الله التسعة والتسعين، لكننا في الحقيقة نحن عباد لله وعبيد للوهم، ثم أضاف بلغة تعكس رقي ذوقه الأدبي، تستعرض الأسماء التسعة والتسعين القدرات اللامتناهية للإله…
بيد أن هذه القدرات الخارقة لا تدفع بالإنسان إلا إلى شعور متنام بالنقص… ولعل الوهم هو أحد الفضائل التي أفلحت في إزاحة هذا الشعور المقلق، وساهمت في بقاء واستمرار نسل الإنسان.
تشاء الصدفة أن تكون مراكش المدينة التي زارها اليوم، والتي يقطنها صديقه عبد الوهام المطلع مثله على أمهات كتب الأدب، قد زارها يوما خورخي لويس بورخيس كي يستنشق عبق ألف ليلة وليلة، وكان لا بد أن يتسلل إلى حديثهما أمر هذه الزيارة. وبعد أن أطلع صديقه على ورقة الطلسم في مقهى يطل على ساحة جامع الفنا، سنحت الفرصة لعبد الوهام كي ينتقل من الحديث عن بورخيس إلى الحديث عن أعماله الأدبية، وبالأخص قصته “الموت والبوصلة”، لتشابه حبكتها مع لغز طلسم صديقه.
أخذت حواسه تركز مجساتها، تحت سماء صافية لا يشتت لمعان ضوئها إلا ضوء المصابيح المشع من الأعمدة الفولاذية، على كل كلمة تتلفظ بها شفتا عبد الوهام اللتان أسهبتا في الحديث عن بطل الموت والبوصلة، المحقق “لونرونت” مصمم المعين الهلامي، الذي سيقوده إلى الموت في عقار “تريست لوروا” على يد “سكارلاش”.
لم تفلت أذناه، اللتان تصيخان السمع إلى ما يتحدث عنه عبد الوهام، شيئا، إذ وجد نفسه مشدودا إلى تسلسل الحديث عن حكي يتتبع باهتمام بالغ كل مراحل الإخبار العلني عن الاسم السري، سواء منها الحرف الأول الذي خطته أنامل القتيل، أو الأحرف الأخرى التي خطتها أنامل القاتل. لكن متاهة البحث التي أراد منها الكشف عن سلسلة الاغتيالات، من خلال الكشف عن الاسم السري لله، لن تقوده في النهاية إلا إلى مكان حتفه، حيث مهدت له بوصلة القاتل باحترافية بالغة الدقة الطريق المفضي إلى موت محقق. بوصلة هذا الموت المفاجئ ليست إلا سلسلة من الاعتقادات والمزاعم التي تدعي أن للإله اسما مطلقا، وهو الاسم المائة، أو التيتراغراماتون، أي الاسم الذي لا يُنطَق، وهو الاسم الذي ظن البطل أن كشفه سيمكنه من وضع حد لسلسلة الاغتيالات المتناسلة، ليفاجأ في الأخير أنه كان يركض خلف نهايته وحتفه.
هل كان عبد الوهام يتحدث عن قصة كتبها قصاص أرجنتيني، أم عن حقيقة يتعلق بها كل البشر الذين يسعون إلى الخلود؟
دارت هذه الفكرة في ذهنه وهو يقدر أن الركض اللامجدي وراء هذا الوهم قد يقوده هو أيضا إلى حتف مماثل.
وقبل أن يفكر في مصير لغز الطلسم الذي أفرده على طاولة المقهى، كان قرد أحد الحواة المتجولين قد حدد مصيره بعد أن التقط الورقة بخفة وأدخلها في فمه.
انعقد لسانه واصفر وجهه، وقبل أن ينقض على القرد، بحركة غريزية، ليسترجع الورقة، كان اللعين قد اختبأ خلف صاحبه، معتمدا حيلة بشرية، وأخذ يمضغ الورقة بسرعة قبل أن يبتلعها ويبتلع معها آخر أمل له في عمر يطول على امتداد قرون، ولم يتبق غير الوهم.
في تلك اللحظة انتبه إلى أنه يفكر في أن عام الوحش قد حل، وألا وجود لوحش مرتبط بعام ما غير هذا القرد الذي التهم طلسم الخلود.
ظل يرنو طويلا إلى القرد تارة، وإلى صديقه تارة أخرى، فخطر له: “يا له من اسم جميل هذا العبد الوهام. لم أتعلم شيئا من حديثنا السابق الذي دار حول اسمه، ولا مما حكاه لي عن قصة بورخيس، إلا بعد أن قدم لي هذا القرد درسا ثالثا”.
انتبه عبد الوهام إلى أن عيني صديقه قد شردتا قليلا ثم ركزتا على القرد وصاحبه وهما يبتعدان عن المقهى، وظل هو يشيعهما. ولما تواريا خلف منعطف السمارين، سمع صديقه يهمهم: “ما الخلود إلا ورقة طلسم سحقتها معدة حيوان في عام القرد “.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *