عبد الرحيم بودلال☆
في المقال السابق حول “الوعظ الديني الذي رافق زلزال الأطلس الكبير” تم البحث في الخطاب الوعظي الكثيف الذي حاول تفسير ظاهرة الزلزال، والذي ينهل من النصوص الدينية بشكل مباشر دون الرجوع للقواعد الفقيهة أو رأي المدارس الكلامية الأولى، كما نجده يوظف بعض التفاسير القديمة كالطبري وابن كثير، إلا أن كل قراءاته نصوصية. مما يجعله كلاماً متناقضاً يجمع بين كون الزلزال عذاباً ورحمة وشهادة، وكونه إنذاراً وامتحاناً، أو حدثاً من أحداث قيام الساعة. نبحث في هذا المقال في ظاهرة الزلزال بين معضلة الشر الإلهي والشر الطبيعي وموقع الله من ذلك، وذلك بتوظيف كل من الفلسفة المعاصرة وعلم الكلام.
عندما نبحث في علاقة الله بظاهرة الزلزال، بين الزلزال بوصفه شراً يصيب الانسان وبين دور الله تعالى في منع هذا الشر. يترتب عن هذه العلاقة الجدلية عدة أسئلة: هل الله موجود في العالم وهو فاعل فيه، فهو من يحدث الزلزال بشكل مباشر، أو رغم أنه موجود إلا أنه محايد اتجاه قوانين الطبيعة ولا يتدخل، أو كونه أول من وضع القوانين وجعلها تعمل بتلقائية دون تدخل، لكن علمه سابق كل ما يقع وله كل القدرة على التدخل لمنع المعضلات. أو أن الله غير موجود ابتداءً وأن الكون يسير بتلقائية انطلاقاً من قوانينه الخاصة الموجودة فيه. ضمن الأسئلة الأولى فإن الله يتحمل مسؤولية الكاملة فيما يقع، سواء كان هو الفاعل المباشر في احداث الزلازل، أو كونه على علم مسبق بوقوعها وله القدرة على منعها لكنه لم يفعل.
يرافق معضلة الزلزال موت الضحايا وتيتم الأطفال وسقوط البنايات وتشرد الأسر، كل هذا يطرح علاقة الله بالعالم ودوره في رفع الزلزال بكونه ظاهرة طبيعية ورفع العذاب عن الناس الذي هو رحيم بهم، أو بكونه مسبب الزلزال وله في ذلك غايات تتعلق بفرض الامتحان والعقاب ومقاصد أخرى لا يعلمها إلا هو. لكن الأغلبية المسلمة تعتقد أن الله موجود وله تدخل في العالم، لهذا يتطلب حادث الزلزال تفسيراً معيناً لوجود الله وماهيته.
كما سنجد أنفسنا في مأزق أكبر عندما يتعلق الموضوع بعقاب يصيب الأطفال والحيوانات. إن كان مسوغ العقاب أو الامتحان مرتبط بالإنسان كونه عاقل ومكلف بالأمانة، وأنه مجازاً يوم القيامة على أفعاله، فكيف يمكن تفسير العقاب الذي يصيب الحيوانات والأطفال. قد نجد حيوانات ميزها الإسلام عن غيرها ستدخل الجنة مثلها مثل البشر، وهي دواب عشرة: حوت يونس، وبراق محمد ونمل سليمان وناقة صالح وكلب أصحاب الكهف… رغم أننا لا نعلم شيئا عن وضعيتها في الجنة وعن نوع النعيم الذي ينتظرها. لكن باقي الحيوانات تصير يوم القيامة ترابا بعد أن يتم الاقتصاص لها ومنها، حيث تقتص الشاة الجماء من القرناء ثم تصير تراباً. كما أن الأطفال وإن ماتت في جماعة معينة فإنها ستبعث على براءتها وتكون ولدانا في الجنة. فهي لا تحاسب لكن يسري عليها حديث “يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم”. لهذا كيف نفسر العقاب الذي أصابهم بسبب الزلزال في الدنيا؟
يجمع الله بين صفات كثيرة مختلفة ومتناقضة، كأن يجمع بين صفة الرحمة وصفة الغضب، وبين صفة العفو وصفة الانتقام، وبين صفة الكرم وصفة العزة. لهذا من المنظور الفلسفي كل تأويل للواقع الاجتماعي سيتخذ بعداً وجودياً يوافق الذات الإلهية، بهذا الشكل يعبر الله عن كل نقص إنساني وعن كل طلب لملء الظمأ الأنطولوجي الموجود فينا، بهذا الشكل يصعب الوصول إلى الحقيقة العلمية من منطلق الطبيعة البشرية التي لا تستطيع الجمع بين المتناقضات. بهذا الشكل يصعب أن ندرك المشيئة الإلهية وطبيعة تدخلها في العالم.
كما أن الله هو من يتحدث إلينا وليس نحن من نحاوره، يتحدث إلينا بلغة أزلية غير اعتيادية تتجاوز قدرات البشر التفسيرية، كأن يحدثنا عن قوم عاد وثمود وما أصابهم من زلازل، ويحدثنا عن صالح ومن معهم كيف نجاهم الله من العذاب المحقق. فالتواصل بين الله والانسان هو تواصل بين شخصية غير محدودة في الزمان والمكان وبين شخصية منتهية في الزمان والمكان، بين اللامنتهي والمنتهي، وبين المتحول والثابت.
رغم كل ذلك وإن كان الله فوق كل وصف وتقدير فإن البشر ضلوا يصفونه على الدوام، وإن كان الله فوق كل محدود فإن البشر حاولوا الاقتراب منه ما أمكن ووصفه بأدق العبارات. تتمركز اللغة البشرية حول التجربة اليومية المتراكمة وحول التفاعلات الاجتماعية المتواصلة، وهي تتعلق بتمثلات آنية وأخرى إن كان قديماً إلا أنه لا يتعدى عمر الجماعة البشرية. بذلك فإن التواصل بين الكائن البشري والله هو تواصل غير متكافؤ، هو تواصل بين شخصية قاصرة محدودة وبين شخصية أزلية عظيمة ومطلقة تحيط بكل شيء علماً.
ضمن كل هذا إما أن نعتبر أن الانسان ضعيف وجاهل وحدوده العقلية قاصرة وبالتالي المطلوب منه هو الإيمان وأن “نلتمس من الله أن يهدينا رشدنا”. كما جسد ذلك الخطاب الوعظي، وأن نبقى مبهورين ومصدومين أمام عظمة الخالق ومنها الزلازل. أو أن نحاول الفهم وطلب العلم فنجد أنفسنا أمام لغة دينية متعالية. من المنطلق اللاهوتي فالوقائع ومنها الزلزال لا تملك حقيقتها انطلاقا من ذاتها، بل من الصفة التي يضفيها عليها الوحي، ولم يكن للبشر من قدرة وإمكانية للتحقق من هذه الظواهر. فحقيقتها كونها صادرة عن الله، لهذا وجب الإيمان بها بالطريقة التي أخبر بها الله تعالى وكفى.
تنطلق كل الفرق الكلامية من إيمان مسبق بوجود الله وتحاول أن تستدل على وجوده بالأدلة العقلية، وتحاول أن تحاجج النظرية الفلسفية بنفس الأدوات المنطقية، وأحياناً تتحايل على العقل فتقدم النقل بحجة أن الحكمة توافق الشريعة، بينما الفلسفة تنطلق من مناهج عقلية محايدة وتحاول الوصول إلى الحقيقة دون افتراض ذلك ودون معتقدات مسبقة.
ضمن المدارس الكلامية نجد الاتجاه التنزيهي الذي ينفي جميع الصفات عن الله تعالى، بمعنى اثبات الله بطريقة النفي لا بطريقة الإيجاب، يعتمد الآية الكريمة “ليس كمثله شيء”، وهو مذهب يراعي الطبيعية الإنسانية المحدودة وأن اللغة البشرية المعبرة عن الله لا تخرج عن سياقات وضعية اجتماعية. فالعقل البشري حسب جان بياجي ليقوم بإضافة معلومات جديدة فإنه ينطلق من معلومات سابقة من أجل إعادة التوازن، ثم يميل إلى التركيب واتمام الصورة الخلفية ليكتمل لديه المشهد. ومنه لا يمكن فهم الله انطلاقاً من عقولنا المنغمسة في مجريات الحياة اليومية، والله متعالٍ وأزلي وفوق كل إدراك حسي، ولا يوجد فكرة أو تصور أو مفهوم يمكن أن يستوفي الله حقه.
ونجد التيار الثاني في المدرسة الكلامية وهي المجسمة؛ ترى أن الصفات التي تطلق على الله تعالى هي صفات حقيقية وليست مجازية وأنها وإن حملت دلالات ومواصفات بشرية وحددتها لغة وضعية إلا أنها في جانب منها مختلفة. فعندما يقال إن الله خيِر فهو ليست بمواصفات خيرة الانسان، لكنها مرجعية ضرورية لفهم خيرية الله. كما أن خيرية الله مختلفة عن خيرية البشر.
لقد كانت الحياة الاجتماعية في العصور الوسطى تكتسب معناها من اللغة الدينية، فالأشياء كانت تكتسب صفتها من المعنى الذي يعطيه لها الله تعالى، لكن مع التنوير وظهور الحداثة تم الانتقال من التفسير اللاهوتي للعالم إلى التفسير الوضعي، فأصبح الانسان هو من يضفي على الأشياء المعنى وهو صاحب الشرعية في تدبير العالم، لهذا انتقل السؤال مع الفلسفة وعلم الكلام الجديد من محاولة اثبات أو نفي الوحي عن الله، إلى البحث في طبيعة الدين في علاقته بالعلم. في موضوع الزلزال فإن البحث يجب أن ينتقل من كون الآية القرآنية محكمة او متشابهة أو أن الحديث النبوي والرواية صحيحة، إلى البحث في الذي ينفع البشرية من تفسير لمعضلة الزلزال؛ هل التفسير اللاهوتي الذي ينبني على الإيمان ويؤسس للخضوع والامتثال ويرى أن السبب في وقوعها غيبي، وهو تفسير يمنع كل تفكير في الظاهرة؟ أم التفسير العلمي الذي يربط الأسباب بمسبباتها المباشرة ويحاول إيجاد حلول عملية لمعضلة الزلزال؟
يمكن للنظرية الفلسفية الخروج من هذه الاشكالية؛ رغم أن دافيد هيوم يرى أن اللغة الدينية لا تحتوي على معان واضحة وأنه يصعب التأكد منها، بل هي لغة سفسطائية تقبل الصواب والخطأ، لهذا لا داعي للبقاء داخلها أو محاولة فهم معانيها. إلا أن الفيلسوف الألماني إمانويل كانط يقدم حلاً عملياً موضوعياً، يطلب منا أن نفكر في الله في المجال العام وفي الشؤون الجماعية في حدود مجرد العقل، بمعنى أن نعمل العقل والعلوم الاجتماعية والإنسانية في فهم الواقع المعيش، ونعمل العلوم الطبيعية في فهم ظاهرة الزلزال. لا يعني ذلك أن نتجاوز فكرة الله أو أن نبعده عن تفكيرنا، بل الله موجود في المجال الخاص وشؤوننا الذاتية، وهو فكرة أزلية مستمرة فينا. فكانط لا ينفي الميتافيزيقا، فهي عالم لا يمكن التحقق منه لهذا يعتبره خارج إرادة الادراك الإنساني، فالتفكير في اللاهوت هو تخطي لحدود العقل وبحث في قضايا لا يمكن تجريبها أو قياسها.
بمعنى حسب كانط أن دراسة الطبيعة ممكنة من غير الإحالة على الله، وأن الكون قابل للاكتشاف العلمي كما ولو أن الله غير موجود رغم أنه موجود. فالمعرفة هنا بالظواهر الطبيعية والاجتماعية ليس بتلك المعرفة التي تقدمها لنا الكتب المقدسة أو الاساطير التي تحيل على تصورات ما ورائية، بل المعرفة هي ما ندركه بأذهاننا من خلال الملاحظة المباشرة والتجربة العلمية.
يقترب من هذا التصور الكانطي الطرح الكلامي القائل بأن احتجاب الله عن العالم وعدم تدخله لا يعني عدم وجوده، بل هو فقط يعطي استقلالية ومساحة أكثر للإنسان من أجل التصرف بحرية وإيجاد حلول لمعضلات من فعل الطبيعة، فالله ترك الحرية للطبيعة أن تعمل وفق قوانين أودعها فيها، ثم أعطى العقل للإنسان من أجل أن يجد حلولاً للمشاكل التي تعتريه.
☆عبد الرحيم بودلال؛ باحث في علم الاجتماع