وادي زم …ضريح سيدي عبد العزيز : القبة الجريحة
وادي زم :محمد صمري أبو ريحانة
(شيلاه ) ا سيدي عبد العزيز (مول الراكوبة)…. القبة الجريحة.
( نعشقك عشق المخابيل أيها الرجل ،تمدد فينا حبك في محارب يقين مصلى أمهاتنا وعلى كتف ظهورهم ونحن صغار، وكلما ابتعدنا عنك تفيض الأشواق في الأعراق،وقلوبنا في مأتمها تعانق الأحلام القديمة،أنت من يخرس أبواب ، مدينة (زمايم)،ويفتحها حتى لا تتمزق البسمات على الشفاه ،و يتطاول الهم في أحشائنا الغرثى بعد أن خبطونا كسلسلة على صفوان…)
أسميناك بكل الأسماء أيتها القبة الراقدة في حضن الكدية، تختضر على عتباتك فيافي اليأس ،ويورق الصمت المتشضي على جنباتك نغما غائصا في منخفضاتك البديعة، في جسد بلدة ملفوفة بقماش (الخيش )،البعد عنك دوما مر وقاس،إحساس بالفقد ينتابنا ونحن نطوي المسافات خلف ظهورنا،تترقرق الدموع في المقل وتبلل العيون بالدمع الساخن ونسمع نبض رجفة القلب بين الضلوع،هي لوثة مدفونةتأبى أن تندثر فينا وتنفطم،قبة مسترخية تحت شمس قائضة،تغط في صمت عميق يرفرف فيها لفيف من الملائكة الوسيمة والنور والطيور والحوريات وأرواح الشهداء…رائحة المسك والند والكافور تغازل الفضاء … صمت حزين يبلل سحنة قبتها المتيبس تحكي عن جرح مدينة صغيرةعلى هامش الخيانة،تحكي على سقوطنا وتكتب حلما انكسر على عتبات المنازل….هي قبة يلجها الجميع دون تطهر ولبس رداء الحلاج
أو ربيعة العدوية تتلقى القرابين وترضى بأرخصها….
أنت الشاهد الذي يتفرج من كوة قبته
على كل الميليشيات التي اغتالت وتغتال المدينة بسكاكين مثلمة وبصماتهم مطبوعة على غمد النصل، نحروا شهوتها وأسروا عمرها ومهجتها وبشارتها على شفة التاريخ وتبدد وراح حلمها طيفا شبحيا في سدول الشفق الجريحة…أنت من يبرقش جنائز الفجر الراقدة في دماء
الخيانة تحت غيوم غجرية لاتفقد رطوبتها تنهدت في أرحامها بروق الغضب،يغطيها ريش الخلود ويتسلل
من مسامها ريح السفر من بوابات الغيب ليلعن كل (الكمامير والفاتشات)
التي أكملت سقطة المدينة…أنت سيدي الديمة السكوب القادمة من جعيدان حين ظمأت أدغال الأرواح والنفوس فهواؤك الفاتر يعمر الرئتين….افتح لنا دراعك أيها التقي الورع فصدرك المأوى لقد ضاقت بنا دروب وساحات المدينة ولم نعد نفرح للربيع ورقصات فراشاته على جنباتك ونغني له.
أنت من يضج في أغوارنا الفرح القديم
دارا بدار، أنت من يدفئ أضلعنا الباردة من لهاث الأسى لقوادين محترفين،بغاة وسفاحين وغزاة جدد تواثبوا عليها و هم رضاع أثداء الحرام
والخيانة ومرغواتاريخ المدينة بالأوضار، أنت من يجيد قراءة سطور وجوهنا الذابلة…نقبل الأرض عند بابك ونغوص في عطر بهارها من المسك والكافور، نغرس أظافرنا في وحلك الرطب،وأنت الشاهد الوحيد على دم شهدائنا المهراق على إسفلت الشوارع، على
نار اللهيب والشمس المحرقة والحرمان والضيق والجهل والضياع، والصفد والأصفاد والغضب الذي يتقافز
في صدورنا كطفل مشاغب…..ملخ الجلادون ظهورنا ومصوا عظامنا وماتبقى في عروقنا من الدماء،فقط هواؤك القادم من رحم الأرض من يعمر
الرئتين ويفتح لنا بساطه لنسافرعبر
الأنهار والبحار والصحاري والجبال حتى لاتلامس أعناقنا ألياف المشانق المنصوبة في الساحات فالصبر أمسى موتا زؤاما يمزق الرئات ويخنق الحلاقيم.
١ :على شفير الأماني ….
على عتبتك تتراخى الأجساد نساء يخفين رأسهن في راحتهن ويذمذمن ، يشلون على تابوتك أوراق الحناء والقرنفل وعود لقماري ، نساء تضخم الحزن الأخرس في أعماقهن
عيونهن مهمومة بالعياء يسردن تحت توبك الأخضر حرائق النفس وقد علا شخيرهن وتجشؤهن ونحيبهن ،بخار أزرق يتراقص على مجمير نحاسي في زاوية الضريخ،أخريات يتوسدن قدم ضريحك وعلى عتباتك يعلو الجنون
ويتجدر، وجوه راجية محزونة صفراء ملهوفة شديدة الشحوب،أجساد ضامرة دفنت بدانتها …مكان مفعم بالغموض والسرية والانتظار يروى فيه كل شئ بهمس شديد….يدقون بابك ويقبلون جدرانك،يغيبون عن الوعي و يترنحون حدالإنهاك،يتضرعون،يملكهم شهيق مجنون،يصرخون صراخا تهتز له الرئتان ،تغيم أمامهم كل الأشياء والأشكال، ترنيمات البوابة
(الرجوع لله الرجوع لله) تغدي الهوج في الدماء،بعضهن يملخن بأظافرهن وجوههن وجنوبهن ونهودهن….
يتطمين كشياطين ،كائنات سيزيفية تشربت بنقيع من الحزن والألم تتراكض حيارى ملوعين نحو البئر يعبون من دلائه حد الإشباع كأنه حفل جنائزي يتردد صداه عبر ربوع المقبرة الشاسعة بإيقاع موحش….وعند مدخل المقبرة كلب مسن رابض لانباح ولا جئير له يراقب الزوار ويصبص لدم الذبائح ودخان الشواء ،يتصيد بخطمه مؤخرة الزائرات محاولا شق فجوة بين أرجلهن.
٢ :هسهسة الفقهاء:
فقهاء بعيون مترمدة وأنوف فطس، مبللون بوسخ تموج على ظهور جلابيبهم ذات الأكمام الطويلة ،وبجفون ثقيلة يتربعون تحت شجرة مات نبضها ولم تعد تملك سوى لحاء مشقق وظل شبحي مكسور،حبيبات العرق اعتلت صلعة أحدهم وهو أقبحهم وأنكرهم صوتا عينه مغطاة بماء أبيض في محجر عميق، يراقبون الزوار من بعيد وكلما لاح زائر نفضوا مؤخراتهم
وركضوا نحوه فتسمع شتيت الحجر وهو يتفتت تحت أقدامهم وتطير العصافير من دفيئة الصبار ،يطرزون فضاء المقبرة بأصوات رخية نذية وأخرى متحشرجة تحلق باتزان نحو المدى لتطير الطيور من زوايا القبور إلى رحاب السماء ترش المقبرة الحزينة
خزامى وتكنس غيوم الهجر والصد لمن كانوا أحياء محبوبين ذات يوم بيننا قبل أن تعتل أعضاؤهم وأوصالهم وكان بيننا وبينهم ملح وخبز …الآيات يتناثر صداها وأشعتها بين اللحود لتصفع صمت القبور وتمسح غربة الشواهد وبهاء أرواحها وتسقي عطش أساميها….أدعية بكلمات مرجفة طوقها جلال الفراق والألفة….أدعية في قمة العتاقة بصوت
منساب جارف والنساء يستلذن الدعاء وهن جالسات في وقار وسمت عند الشواهد ينتابهم خدر لذيذ من شدة الإعياء يطمرن ركام ذرق الطيور وكويرات بعر الشياه الصغيرة المشبعة بوحل الشتاء المتناثر على ظهر القبور.
٣ :تجاعيد متدلية من أعناق القبور:
مقبرة لها صباحات ذات نسائم شيقة تحت ديدب شمس فاترة تداعب الدفلى وقامات الصفصاف والقوق البري ونباتات أنبوبية الشكل انبثقت في الممرات ونبات الصبار السامق التي وطأت حوافر ظلها القبور
تجرفك أسماء الشواهد لوجوه لم يكن لها مكان في رأسك ،يغلفك غذق الصمت الرائع مقبرة منذورة لبهاء الصمت رافضة لمتاهات الكلام ،الموت يتراقص بزعانفه في كل الأرجاء ويتوسد خاصرة الشواهد برسم دوائر الحنين لأسراب طيور تتقافز فوق قمم شواهد اللحود لا ينخس جمهرتها أحد.
٤ : غروب مرايا القبور:
عند المساء تخبو صراخات تزاوج العصافير وزقزفتها ويملأ المكان المتغضن صمت ثقيل؛ يحمل ع الرحيم مضخته البلاستيكية ،يجمع قطع أرغفة خبز يابسة تركها فقراء المقبرة عند الباب ،ويبدأ في غسل جراح بعض القبور الجديدة ويرقمها بالسواد يجمع
رفوشه ومعاوله وركاويه على ظهر (البرويطة) الذي يسمع أزيز عجلتها المتآكلة من بعيد، هي البرويطة الضامئة دوما للتراب البارد والجماجم والعظام،يغطي رأسه (بترازة) من الدوم امتقع ،لونها يتحرك حركات رتيبة متواترة،يترشف أنفاسه وينفض عن يديه وثيابه رائحة الموت ويلتفت إلى نعم الحياة إلى طعام من طمرهم تحت الترى وبلط عليهم بالوحل كل منافد النور .
٥ : سكارى المقبرة أصوات ونغم في مهب الرزايا:
الغسق يمشط جدائل الشمس ويستحيل إلى ظلام يسدل خمائله راكضا على شرفات القبور فتبرق الشواهد من بعيد يهدأ هدير الجرافات والحفارات ويخرس سجع اليمام والدوري ،ونعيق الغربان اللحوح ، ويغادر العشاق ملتويات وشعوب ومخاراق المقبرة ترتعش القبور لنسيمات الليل ويتحول زليجها إلى سبحات تبرق من بعيد لتفتح مناجم القول ولتسرج خيول الدهشة فالقة في الأعماق خوفا يحفر الرئتين…يشرم هذا الصمت السميك والخوف الرهيب هذا الهدوء الصوفي ،كتيبة من سكارى المدينة يتقدهم (قدور )انزلقت الأيام والأعوام من تحت أقدامهم يدخلون المقبرة عبرخرم قديم في الحائط غير مبالين برشقات التأثيم والتحريم ، يعلو لغطهم وهم يغننون موشحاتهم المعتادة (الخادم،حاجتي في گريني، العلوة )مبللين بمياه (الماحيا) الذي لا يتكدر أبدا، على وجوههم بعض الرضوض والكدمات التي تنذبت واسودت مع مرور الوقت
وقد حولوا القبور إلى ميضات وآرائك وأسرة وتيرة عليها متقابلين تطوف عليهم نعلة الله إلى يوم الدين.
٤: أنت قلادة على صدورنا:
أيتها الروح السابحة في رحم غيم السماء التي تغرف نورها من وجه هذه الأرض المكلومة، ستبقى أنت الشاهد الوحيد على مآسينا وشقواتنا ، كسورنا وانهياراتنا جراحنا الفاغرة وحروقنا المصقولة بكل تلاوين الألم والخيبة،وذكرى المذبحة (الغشتية) وما تلاها التي تتربع قرحة على صدورونا ….أنت الوحيد من يسمع أنين شهدائنا في أرحام قبورهم ،
أنت (مول الراگوبة) حارس المدينة ولا أحد سواك….وسنبقى نشاهد غروب الشمس كل يوم على قبتك في انتظار صبح لا يشبه باقي الأصاببح…..