فيلم عايدة سمفونية الغربة وسفر البحث عن الهوية والذات
عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير
شكل الفيلم الروائي “عايدة .. العائدة ” للمخرج إدريس المريني ( سنة 2015) نقلة نوعية في السينما المغربية، باقتحامه لتيمة الهوية اليهودية المغربية عن طريق قصة تشد المشاهد لها من خلال سرد سيرة ذاتية للدكتورة عايدة كوهين اليهودية ذات الأصول المغربية التي قدمت إلى المغرب لقضاء ما تبقى من سنوات عمرها بعد داء السرطان الميئوس منه، وإقامتها الطويلة بفرنسا ( أكثر من 35 سنة). وقد لعب دور البطولة كل من نفيسة بنشهيدة، لطيفة أحرار، ماجدولين الإدريسي، إدريس الروخ.
بدايات مشوقة :
تنتقل بطلة الفيلم، التي كانت تعمل أستاذة للموسيقى في جامعة باريسية، إلى بلدها الأصلي، المغرب، وإلى مدينتها الصويرة التي ولدت وقضت طفولتها فيها، وعبر ذلك، إلى كل تلك الذكريات والصور والألحان التي كانت تؤسِّس طفولتها، وخصوصاً إلى الموسيقى الأندلسية، التي كان والدها أحد رموزها، والتي ستختارها مجالاً للبحث والتدريس في منفاها الباريسي. ستقودها هذه العودة إلى لقاء صديق طفولتها المسلم، يوسف، والذي عاشت برفقته في طفولتها. يوسف الذي كان يعاني من روتين العمل في مكتب الهندسة، سيتمكّن عبر لقائه بعايدة من العودة إلى الموسيقى من جديد، حتى أنه يمكننا القول في هذا السياق، بأننا أمام عائدين وليس أمام “عايدة” لوحدها. وعندما يعدّان معاً حفلاً خيرياً رفقة فرقة للموسيقى الأندلسية، سيكتشفان معاً نفسيهما من جديد. وبفضل هذه الصداقة وهذه الموسيقى وهذه المصالحة مع الماضي والذاكرة، ستتمكن عايدة من تجاوز مرضها، إذ إنَّ القدر كان يخبئ لها نهاية أخرى، كما لو أنه لم يكن ينتظر سوى عودتها.
نجح الفيلم في تجسيد نفسية “عايدة” (العائدة)، التي تعاني من مرض السرطان، ولم يخل من صور سحرية تعكس نفسية البطلة، وتعبر في قوة عن هوية ممزقة بين عالمين، وعن ذاكرة لم يستطع اللجوء أن يفقدها شيئاً من قوتها وسحرها. كما لو أننا لا نهاجر في النهاية إلا لنعود. إن الفيلم تعبير عن رحلة البحث عن الذات، تلك الرحلة المضنية والمؤلمة والمبهجة في آن، وعبر ذلك يمثل الفيلم احتفاءً بالحياة والأمل والصداقة، وبذلك التسامح الذي طبع ولا يزال يطبع المجتمع المغربي بمكوناته المختلفة، والذي يتسلل إلينا عبر مشاهد من عروض موسيقية أندلسية.
الهوية .. التسامح .. البحث عن الذات:
لقد شكلت هذه القضايا محورية نص الفيلم مهما اختلف حوله النقاد، بنسج قصة محبوكة للدكتورة عايدة كوهن التي أصيبت بداء السرطان وقررت الرجوع إلى بلدها الأصلي موطن الميلاد، بالرجوع بالذاكرة إلى طفولتها وعشقها للمغرب، لاسيما موكادو أو الصويرة حاليا، حيث جذورها وذكرياتها وأنينها وشغفها بالموسيقى، وبمجرد دخولها إلى المدينة تنبعث موسيقى ” كناوة” بما لها من تحولات تراثية ممتدة في العمق الإفريقي، تجوب أحياء المدين لتطرق بيت الولادة، وعن طريق فلاش باك يرسم المخرج طفولة بريئة وتأثيرات متعددة على نفس الصبية وعلاقتها برفيقها في الصبا، وتذكرها لمجالس والدها الشغوف بموسيقى أندلسية ويهودية مغربية. الشيء الذي يطرح سؤال الفرار من القادم المرض الخبيث نحو استحضار ماض جميل.لم يسقط الفيلم في الصراع الصهيوني وما افتعلته آلة التهجير المقيتة، في مغاربة تركوا ديارهم ونزحوا إلى المجهول تلبية لنداء أرض الخلاص، وتجسيدا لعقدة أبناء الله، الذين سيعيدون بناء هيكل سليمان.تجاوز كل ذلك ليستدعي الموسيقية باعتبارها لغة يفهمها الجميع باختلاف توجهاتهم وتصوراتهم ومبادئهم، لغة تحرك الوجدان وتخاطب الفطرة الإنسانية السليمة التواقة للحب والعيش المشترك، والبعيدة عن الصراع والقتل واحقد والكراهية.
لقد جسدت الموسيقى الأندلسية بالمغرب تلاقح الحضارات. وسبق أن هاجرت الموسيقى الأندلسية إلى شمال إفريقيا مع هجرة الموريسكيين إليها في القرن السادس عشر، واستقرت مع استقرارهم في المغرب الإسلامي، مما يفسر عدم امتدادها إلى المشرق. وتُؤدّى الموسيقى الأندلسية من طرف المجموعة باستثناء المواويل، ويلتزم كل أفراد الفرقة بارتداء الزي التقليدي الأصيل، كما يضعون الطرابيش الحمراء، وهو الشكل الذي كان يعرف به رجال العلم وعلية القوم في المغرب، مما يحفظ لهذا اللون الموسيقي طابعه الراقي.
وتستعمل في العزف الآلات الوترية والنفخية والإيقاعية الكلاسيكية، ويحاول عشاق هذه الموسيقى الابتعاد عن الآلات الحديثة خصوصاً الكهربائية، فيما يسعى رواد الموسيقى الشبابية إلى تقديم طرب الآلة في حلة جديدة.وهو ما نجح فيه الفيلم واستخدمه منذ البدايات الأولى أثناء زيارة عايدة لموكادور. انطلق الفيلم بموسيقى بحيرة البجع للموسيقار الروسي تشايكوفسكي، وبصرخة عايدة بطلة الفيلم على طريقة مونش (لوحة الصرخة) وبملامح وجهها وشعرها الطويل. يستشفّ المشاهد بهذه البداية ما توحي به خفايا الفيلم أو أزمته أو دراماه النفسية أو الاجتماعية. واختتم بحفل موسيقى نظم لفائدة مرضى السرطان، وموت غير متوقع لبطلة الفيلم “حادثة سير “
إن اليهود، وهم من أقدم مكونات التركيبة السكانية للمغرب، يحفظون عبر موسيقاهم آثار الحضارات المختلفة التي نشأت في هذا البلد وهي البربرية والشرق أوسطية القديمة والأندلسية. وكان اليهود يتأثرون من جهة، كونهم من سكان المناطق الداخلية من أراضي المغرب خاصة بجنوب البلاد وجبال الأطلس، بالثقافة الموسيقية البربرية؛ إلا أنهم تأثروا أيضًا، من جهة ثانية، بالموسيقى الأندلسية الكلاسيكية العائدة جذورها إلى عصور الحكم العربي الإسلامي لبعض الأراضي الإسبانية.
وعليه تتميز التقاليد الموسيقية اليهودية في المغرب بشدة تنوّعها لتشمل فيما تشمله ألحان الصلوات والأناشيد والموشحات باللهجة العربية- اليهودية .
وكان الكثير من الموسيقيين اليهود يساهمون في تنمية التقاليد الموسيقية الأندلسية العريقة، بل كانت هناك حالة من المؤاخاة الفنية الخالصة بين رجال الموسيقى اليهود والمسلمين، حيث تدل على ذلك الفِرق الموسيقية المختلطة التي كانت تقدم أعمالها في بعض الأحيان باللغتيْن العبرية والعربية على السواء، علمًا بأن هذا الأسلوب الغنائي المتميز أطلِق عليه اسم “مطروز” وأصبح له حضور بارز خاصة ابتداءً من القرن الـ16 للميلاد. وكانت هناك فِرق يهودية تعزف أمام جمهور المسلمين فيما كانت هناك فرق مسلمة تقدم عروضها أمام اليهود. ومن الآلات التي كانت الفرق اليهودية تعتاد العزف عليها كل من الربابة والكمان والعود والدربكة.وهو ما تم توظيف جزء منه في الفيلم.
الفيلم تحت مجهر النقد:
لقد حاول الفيلم تجاوز مرحلة التعامل الفولكلوري مع التراث والهوية المغربيتين. فإنه أكد، من جهة أخرى، تعدد هذه الهوية، التي طواها النسيان أو يكاد يطويها. وهو يبتعد، عن كلّ أشكال التبشير السياسي والاحتفالية الرخيصة. فالفيلم يقدّم لنا كل تلك الأسئلة والتواريخ في قالب قصة إنسانيّة مؤثّرة، إذ لا يخلو الفيلم من لحظات تدفع المشاهد إلى التعاطف المطلق مع بطلته المغربية ـ اليهودية، التي دفعها المرض إلى التساؤل عن هويِّتها، والبحث عن جذورها في بلد، كانت تعتقدُ أنَّها غادرته، وأنَّه أضحى جزءاً من الذاكرة المنسيّة. إلا أن هناك انتقادات لنقاد حول الفيلم من أهمها ما قدمه غسان الكوشري في مقال عنونه ” فيلم “عايدة”.. عندما يعجز الفيلم أمام المرض” ويرى أن في الفيلم إهمالا للجانب التقني والفني بأدق تفاصيله في بعض المشاهد واللقطات: كحاسوب عايدة الذي تفتحه وتكتب فيه مباشرة.. أو حاسوب يوسف الذي لا يعمل أثناء تواجده في عمله. إضافة إلى حديث عايدة في الهاتف في لحظة سكون في منزلها دون أن نسمع أي أثر لصوت مخاطبها.. وكذلك ارتداء غيثة زوجة يوسف (هدى الريحاني في الفيلم) سروال “الجينز” في منزلها في الليل وهي تنتظر زوجها.. وأيضا إعدادها الشاي بسرعة خاطفة عند ضيافة عايدة عندهم.. وزجاج السيارة المفتوح عن آخره أثناء هطول الأمطار.. كما أن “الميزانسين” الخاص بعمل زوجة يوسف أو مقرها.. وتواجدها الدائم مع زميلتها في العمل (أدت الدور لطيفة أحرار).. لا يوضح جيدا اشتغالها في مجال الصحافة الورقية الذي أشار إليه الفيلم من خلال تقريبه، بمشاهد تصاميم أغلفة المجلة أو بجائزة الصحافة… وإلى غير ذلك في ما يؤثر على قيمة الفيلم الإخراجية والجمالية.
كما يضاف إلى ذلك إهمال الجهد التجسيدي والتعبيري للحالات في الفيلم. فتم تصوير الطب وعلم النفس بطريقة سطحية من ناحية الأسئلة ومن ناحية الحديث عن المرض، فتقابل الطبيب النفسي ليوسف (يوسف الذي لا تظهر عليه أية علامة لأزمة نفسية !) بأسئلة رتيبة ومبتذلة، مع طبيب عايدة البيولوجي الذي يتحدث عن علاقة تاريخ الإنسان النفسي بمرضه (والذي لم يظهره الفيلم كأية أزمة نفسية وتوثر عصبي على عايدة !). وهو ما يطرح سؤال: هل أزمة الفيلم نفسية أو فسيولوجية/ بيولوجية؟
لم يصور المخرج مشاهد عايدة مع أختها (مجيدة بنكيران) في فرنسا، بعد سماع الأمل في شفائها، كممثلتين داخل فيلم، بل كسائحتين خطف مخرج ما بآلة تصويره لقطات من بعيد للحظاتهما. ورغم أن القصد من وراء ذلك إيعاز دلالة الفرح عليهما، إلا أنها لم تخدم بناء الفيلم؛ فعمق التحول لم يكن بالقدر الذي يوازي اللحظات التي كانت تعيشها قبل سماع خبر علاجها وتمحورت حولها قصة الفيلم. كما لم تناقش عايدة أختها في أحد حواراتها لا عن الموت ولا عن الحياة.
لكن المثير في الفيلم أنه مغلف بغلاف ديني، ويشاع أنه عن التسامح بين الأديان وما إلى ذلك. لكن ما دور اليهودية في الفيلم ؟ ما الإضافة التي قدمتها اليهودية كدين وكطقوس في سياق الفيلم؟ وما مدى توظيفها في حوارات الفيلم (وفي شكل السيناريو والمادة الكتابية عموما)؟ ولنفرض أن شخصية عايدة مسيحية واستبدلنا لمحة الطقوسية في الفيلم بطقوس مسيحية أو بأي دين أو بدونها ! كيف يخدم هذا التغليف والحضور الديني عقدة الفيلم أو توازي الأحداث فيه ؟ ما الداعي إلى اختيار اليهودية بالتحديد في الفيلم ؟
حاول المخرج أن يفاجئ المشاهد وأن يجتهد في إبهاره على طريقة “الصدمة” في أوج عقدة الفيلم، على اعتبار أن يتجه مسار الفيلم إلى اتجاه آخر.. ولشدة مشهد المرض و”صدمة” صلع عايدة ونزيف أنفها، لم تشكل أبعاد ذلك المشهد ومدى تجاوب الممثل الرئيسي يوسف أو زوجته غيثة في ما بعد، إلا محاولة للخروج من أزمة السرد الفيلمي. فالأمر المتوقع أن يستجيب المشاهد لحظتها لرؤية عايدة، على شفا خطوات من الموت، تعيش أيامها الأخيرة قرب منشأها. لكن المخرج حاول في آخر الفيلم أن يعتمد سمة اللامتوقع ليبني عليها مساره الفيلمي إلى نهايته التراجيدية، فتداخلت شخصية الفيلم بين وتر الحياة (الاستمرارية في الحب، ونجاح حبيبها باستعادة عشقه للموسيقى)، وبين وتر الموت التراجيدي (المألوف في المسرح) للبطل خارج خشبة المسرح (الأحداث). وبالتالي قد ينتصر المرض في كل حالاته (كما هو متوقع في حالاته الواقعية) في الفيلم، لكن يبقى كل ذلك محاولة للعيش والتعايش، ومحاولة لتجسيد الفيلم الذي لا مَخرج (ولا مُخرج) يسلكه ساكن جسده.
خلاصة :
إن فيلم عايدة إبداع مغربي جسد انخراط الفن في تسليط الضوء على قضايا المجتمع، بأسلوب فني معبر وعميق.قصص الحب الدفين في طفولة تعشق الجمال والأمل وتعكس الحمولة الإنسانية والاجتماعية و والثقافية العميقة لحاضر وماضي المغرب المتعلق بقيمه الحضارية وروافده الثقافية المتنوعة وقيم التعايش والانفتاح واحترام الأديان. يشار إلى أن هذا الفيلم الطويل الذي يعد الثالث في مسيرة المخرج المغربي إدريس المريني للأفلام الروائية الطويلة. تم اختياره لتمثيل المغرب في فئة أحسن فيلم أجنبي بجوائز الأوسكار سنة 2016م كما تم يوم 20 مارس 2018 م تقديمه بالمعهد الفرنسي بإسطنبول في إطار أسبوع الفرنكفونية، وذلك بمبادرة من القنصلية العامة للمغرب بإسطنول.وبالرغم ما يشوبه فنيا وتقنيا فإنه جدير بالمشاهدة والتتبع.