يونس مسكين يكتب عن صاحب الحرب الحضارية الأولى.

 

 

يونس مسكين:


“إن الإهانة لا يمكن أن يقبلها شعب لفترة طويلة، والدفاع عن الكرامة لا يمكن إلا أن يثير ردود فعل قد تكون عنيفة في طبيعتها، وستندلع انتفاضات جديدة في الوطن العربي والإسلامي، مخلفة ثمنا اجتماعيا وإنسانيا كبيرا..”.
الحديث هنا لواحد من أشهر المفكّرين المغاربة المعاصرين، وأكثرهم انتشارا وتأثيرا من خلال كتبه وأفكاره.
مفكّر الكرامة ومقاوم الإهانة عالِم المستقبليات الراحل “المهدي المنجرة”. توفيّ عام 2014، لكنه يعود إلى الواجهة كلّما تطابقت الأحداث والوقائع بما كان يعلنه في دراساته الاستشرافية، أهمها على الإطلاق، توقّعه حدوث انتفاضات عارمة في العالم العربي، وهو ما تجسّد في ثورات الربيع العربي.
رغم إنتاجه الفكري والعلمي الغزير، ومبيعات كتبه التي جاوزت الملايين، فإن أهم وثيقة تحفظ ذكراه وتخلّد لمساهماته الفكرية على الإطلاق، الفيلم الوثائقي الذي أنتجته “الجزيرة الوثائقية” وبثّته أول مرة في يناير/ كانون الثاني 2017، بعد عامين كاملين من العمل والتنقل بين الدول والقارات بحثا عن أصدقاء المهدي المنجرة وآثاره الباقية.
يمثّل العمل الوثائقي -الذي حمل توقيع المخرج السينمائي عز العرب العلوي المحارزي- في نظر الحريصين على الإرث الفكري والثقافي للمهدي المنجرة إنصافا تأخر سداده تجاه شخصية اختارت طيلة حياتها أن تدفع ضريبة الموقف، فضحى بمواقع السلطة والجاه في بلاده المغرب، وتمرّد على “منفاه” الأول في الولايات المتحدة الأمريكية حين بات مطالبا بالخدمة العسكرية ضد فيتنام، وصفَق أبواب الأمم المتحدة خلف ظهره حين أيقن أن الهيئة التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية فقدت بوصلتها الأخلاقية.
قاده التمرّد ضد الاستعمار الفرنسي إلى إتمام دراسته بين أمريكا وبريطانيا، لكنه في نهايات عمره انكبّ على البحث والدراسة إلى جانب اليابانيين والصينيين، فأسس جمعية العلوم المستقبلية في الصين وتبادل مع اليابان إعجابا بإعجاب، فقلّده إمبراطورها أعلى الأوسمة.
سليل “الأشراف” المتمرّد:
ولد المهدي المنجرة بمدينة الرباط في مارس/آذار 1933، ونشأ في حي كانت تقطن به العائلات التي توصف بأنها علية القوم في تلك الحقبة. ينحدر من عائلة الأشراف السعديين الذين كانوا آخر من حكم المغرب قبل تأسيس الدولة العلوية القائمة حتى الآن، وكان والده أحد مؤسسي نادي الطيران عام 1924 لكنه لم يتمكن من حضور عملية إطلاق أول رحلة جوية مباشرة بين المغرب والجزائر عام 1933، لأن ذلك صادف ميلاد ابنه المهدي.
أجاد المهدي المنجرة الحديث بلغات عديدة في سن مبكرة، وبدءا من العام 1944 التحق بثانوية “ليوطي” التابعة للبعثة الفرنسية بمدينة الدار البيضاء. ومنذ الوهلة الأولى لاحظ المهدي أن المعاملة داخل الثانوية الفرنسية ليست طبيعية، بل استشعر ضغوطا كبيرة تحاول إدخاله في قالب فكري نمطي، ويعبّر عن رضاه بالوجود الاستعماري الفرنسي بالمغرب إن هو شاء الحصول على علامات مرتفعة. وبالنظر إلى العناد الذي تتسم به شخصية المهدي المنجرة، فإن ذلك جرّ عليه مصاعب جمة.
حساسيته المفرطة تجاه تسلّط الفرنسيين فجّرها حادث وقع معه حين كان في رحلة للاستجمام بمدينة أفران الجبلية وسط المغرب، وصادف وجوده في مسبح عمومي مشاركة كلب أحد الفرنسيين الموجودين نشاط السباحة، مما أثار اعتراض سيدة طلبت إخراج الكلب من المسبح، فما كان من فرنسي موجود في المكان إلا أن ردّ عليها قائلا إن العرب أيضا يسبحون هنا، وبالتالي لم لا يسبح الكلب أيضا؟! إهانة انتفض بسببها المهدي المنجرة، ولم يكن يعرف أن من تفوّه بها هو المسؤول الفرنسي الأول عن الشرطة في تلك المنطقة، فكانت النتيجة قضاؤه عشرة أيام في السجن.
وبعدما كان الابن الأكبر للعائلة قدا اتجه نحو سويسرا، قرر الوالد إرسال المهدي إلى أمريكا تنويعا لمصادر المعرفة لدى العائلة، وإنقاذا للابن من مستنقع التسلّط الفرنسي.
تعيين المهدي المنجرة مديرا للإذاعة الوطنية المغربية في 1955م.
من سطوة الفرنكوفونية إلى رحابة الأنغلوساكسونية:
قرّر والد المهدي إخراجه من دوامة المشاكل التي واجهها داخل الثانوية الفرنسية بالدار البيضاء، وذلك بإرساله إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمواصلة دراسته الثانوية. وصادف ذلك اندلاع الحرب بين فرنسا والحلف الثوري لاستقلال فيتنام، واشتعال شرارة ثورة السود الأمريكيين ضد العنصرية والتمييز، وهو ما جعل المهدي المنجرة يبني وعيه وشخصيته في قلب الأحداث الكبرى التي طبعت القرن الـ20.
واصل المهدي المنجرة دراسته الجامعية في شعبة البيولوجيا واحدا من أوائل الطلبة المغاربة الذين درسوا في الولايات المتحدة الأمريكية. وإلى جانب دراسته، التحق المهدي المنجرة بالنشاط السياسي لأحد قادة الحركة الوطنية المغربية؛ المهدي بنعبود، والذي كان يعمل على الدفاع عن قضايا التحرر في كواليس منظمة الأمم المتحدة، وصادف ذلك اندلاع الحرب الكورية، وتم استدعاء المهدي المنجرة للخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي، لكنه رفض بشدة لحساسيته المفرطة تجاه كل مظاهر العنف.
توجه بعد ذلك إلى العاصمة البريطانية لندن، حيث أعد دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة “مدرسة الاقتصاد والعلوم السياسية”، فبات يجمع بين تكوينه العلمي الأول، وتخصصه في الاقتصاد في دراساته العليا، إلى جانب وعيه السياسي الذي اكتسبه من الممارسة الميدانية واحتكاكه بالنشطاء في الحركة الوطنية المغربية، ونخبة عربية واسعة كانت تستقر حينها في العاصمة البريطانية.
صديق المهدي المنجرة المفكر القومي العراقي خير الدين حسيب المدير العام لمركز دراسات الوحدة العربية
من رحابة المهجر إلى ضيق الوطن:
في أكتوبر/تشرين الأول 1954، التقى المهدي المنجرة لأول مرة بصديقه المفكر القومي العراقي خير الدين حسيب المدير العام لمركز دراسات الوحدة العربية، حيث كان المنجرة بصدد تحضير أطروحته للدكتوراه، بينما يحضّر حسيب لشهادة الماجستير في الجامعة البريطانية نفسها. كان المهدي المنجرة وقتها رئيس الجمعية العربية داخل مدرسة الاقتصاد والعلوم السياسية، وهو ما مكّنه من بناء علاقة وثيقة مع طلاب مثل خير الدين حسيب.
خصص المفكّر المغربي الراحل أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه لموضوع جامعة الدول العربية، من سنة تأسيسها 1945 إلى غاية العام 1955. وصادفت تلك الفترة حصول المغرب على استقلاله وعودة الملك المنفي محمد الخامس، ليبادر هذا الأخير في أولى قراراته السيادية بتعيين المهدي المنجرة مديرا للإذاعة الوطنية المغربية، وطلب منه أن يقوم ببناء مؤسسة إذاعية مغربية على شاكلة “بي بي سي” البريطانية.
وكان المناخ السياسي لتلك المرحلة يسمح بمستوى كبير من الحرية، حيث استلهم المهدي المنجرة من التجربة البريطانية أعلى معايير المهنية والاستقلالية، لدرجةٍ رفض معها بث أحد خطب الملك بشكل مباشر لكونه لم يكن مبرمجا في شبكة برامج الإذاعة، ثم استقال مباشرة بعد ذلك.
بعد وفاة الملك محمد الخامس، كانت وجهة المهدي المنجرة الموالية هي العاصمة الفرنسية باريس، حيث اكتسب في تجاربه المتعددة في العواصم الغربية معرفة كبيرة بالثقافة الغربية، وقدرة خاصة على نقدها وكشف تناقضاتها أيضا، مستندا في ذلك إلى معرفته أيضا بما يحدث في العالم العربي، وما ترتكبه الدول الاستعمارية فيه من انتهاكات وتجاوزات. وهناك في باريس، لامس المنجرة وجهي فرنسا المتناقضيْن: وجه التنوير والتحديث، ووجه الممارسة الاستعمارية الفرنسية التي تنفرد بطابعه المهيمن الذي يسعى إلى قولبة العقول وتنميطها.
“المهدي المنجرة يغادر الأمم المتحدة بعد أن وجد نفسه في تناقض كبير مع فلسفة وطريقة اشتغال الأمم المتحدة”
اليونسكو.. خاتمة الوصال مع الأمم المتحدة:
عُيّن المهدي المنجرة مديرا لقسم إفريقيا بمنظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، ثم تولى مهمة إدارة ديوان رئيس المنظمة، وهناك بدأت رحلة المهدي المنجرة مع التفكير في القضايا الحضارية الكبرى للإنسانية من زاوية نظر دول العالم الثالث، وبات المهدي المنجرة يقوم بمهمة سفير دائم لهذا العالم، خاصة منه إفريقيا، مناوشا المنظومة الفكرية المهيمنة التي ينتجها الغرب المتفوّق دوليا.
غادر المهدي المنجرة منظمة الأمم المتحدة، مثلما غادر منصبه الرفيع في المغرب، بعدما وجد نفسه في تناقض كبير مع فلسفة وطريقة اشتغال منظمة الأمم المتحدة. فقد ألف عام 1973 كتابا عن المنظمة الأممية وجّه فيه انتقادات حادة لما اعتبره انحرافا من جانب الأمم المتحدة عن فلسفتها الأصلية.

وبناء على قناعته تلك غادر المهدي المنجرة المنظومة الأممية، وأصبح مناضلا كونيا ضد الهيمنة التي تفرضها القوى الدولية الكبرى على دول وشعوب العالم الثالث. بل اتهم المنجرة هذه المنظومة الأممية بالانتصار للقيم الحضارية اليهودية المسيحية على حساب باقي المرجعيات الثقافية والفكرية للعالم. يقول المنجرة في إحدى محاضراته: “حاولت المقاومة من الداخل لكنني وجدت نفسي وحيدا، والذي كان يضع لي العراقيل ليس الغرب، بل حكومات العالم الثالث نفسها، لأنها تعتقد أن الغرب يحميها، وأنه إن تخلى عنها ستسقط، وهو ما سيحدث بالفعل مستقبلا”.
عاد المهدي المنجرة في نهاية السبعينيات إلى المغرب ليدرّس بجامعة محمد الخامس بالرباط، في سياق كانت تطبعه تحولات دولية وإقليمية كبرى، منها الثورة الإيرانية التي أسقطت نظام الشاه، واندلاع حرب الصحراء بين المغرب وجبهة البوليساريو الانفصالية. وظل المهدي المنجرة حريصا على استقلاليته تجاه السلطة، حيث كانت شروطه الصارمة تؤدي إلى منع تعيينه في المناصب التي كانت تعرض عليه، سواء في المجال الأكاديمي المغربي أو في السلك الدبلوماسي. وهو وضعٌ سمح للراحل بتبني نبرة نقدية حادة تعتبر أن المغرب فاقد للسيطرة على زمام شؤونه السياسية والاقتصادية، وأن القوى الدولية الكبرى هي التي ترسم له مساره، وهو ما لم يكن يُنظر إليه بعين الرضا من جانب الحكام.
“الحرب الحضارية الأولى” تسمية أطلقها المهدي المنجرة على الغزو الأمريكي للعراق.
العراق.. الحرب الحضارية الأولى:
يسجّل النقاد انعطافا خاصا في فكر وخطاب المهدي المنجرة بداية التسعينيات، وخاصة بعد الهجوم الأمريكي على العراق إثر اجتياح الرئيس العراقي صدام حسين للكويت. فقد اعتبر أن التعبئة والحجم الكبير للهجوم الذي استهدف العراق، كان مجرد تبرير لمحاولة فرض هيمنة شاملة على العالم من جانب “الإمبريالية” الغربية.
يقول المهدي المنجرة في محاضرته الشهيرة عام 1993: “في العام 1991، طلب مني مراسل لصحيفة دير شبيغل الألمانية إجراء حوار معه حول حرب العراق، فقلت له إنها أول حرب حضارية عالمية في التاريخ، فوضعت الصحيفة الألمانية هذه العبارة عنوانا ببنط عريض، ومن هنا نضجت الأطروحة”.
حوّل المهدي المنجرة فكرته تلك إلى عنوان كامل عن “الحرب الحضارية الأولى”، وظل منذ ذلك الحين يحذّر من تبعات ما كان يسميه بالاستعمار الجديد، مؤكدا أنه أكثر خطورة من الاستعمار السابق. وأصبحت الفكرة المحورية في محاضرات وكتب المنجرة هي التنبيه إلى خطورة التقليد الأعمى لنموذج حضاري واحد هو النموذج الغربي الذي يهدد باقي الحضارات بالزوال.
وانطلاقا من عائدات بيع كتبه، أنشأ المهدي المنجرة جائزة الحرب الحضارية الأولى التي خصصها للمبدعين في هذا المجال، حيث منحها مرة لأطفال العراق، وأخرى لمصوّر لقطة القتل الوحشي للطفل محمد الدرّة على يد الجيش الإسرائيلي، وجمعية الشفافية المغربية المختصة في محارب الفساد.
الفرق بين المهدي المنجرة وبين الأمريكي “صامويل هنتنغتون” هو أن هذا الأخير “بشّر” بالحرب الحضارية وسكت، بينما المهدي المنجرة قال إن هناك حربا حضارية وحلُّها يكمن في الحوار الثقافي بين الشمال والجنوب. وحتى عندما كانت كتبه تحقق أرقاما قياسية في المبيعات، جمع عائداتها ووضعها في صندوق خصصه لتمويل جائزة تشجع على هذا الحوار.
أنشأ المهدي المنجرة جائزة الحرب الحضارية الأولى ومنحها لمصوّر لقطة القتل الوحشي للطفل محمد الدرّة
العنيد مع سلطة العمر:
أغرب ما لاحظه النقاد في الإنتاجات الفكرية والنظرية للمهدي المنجرة، هو ارتفاع حدة نقده كلما تقدم به العمر. باتت مؤلفاته تحمل عناوين ومضامين أكثر صراحة في مهاجمة الليبرالية المتوحشة ومخططات البنك الدولي تجاه دول العالم الثالث، وكان مع كل كتاب أو محاضرة يواجه عداء متصاعدا من جانب النخب الفرنكوفونية المهيمنة على الأوضاع داخل المغرب، حيث كانت تواصل إقصاءه وتهميشه من المشهد السياسي والفكري.
يقول المهدي المنجرة في إحدى محاضراته عام 1993: “هذه نخبة باعت نفسها رخيصة.. بعضهم مروا بالسجون، فأين هو نضالهم؟ كيف تبدّلوا بين الصباح والمساء؟ فقط لأنك أصبحت تملك سيارة مرسيدس وسائقا تبدلت الأمور وصرت إنسانا آخر؟”[12].
وهو يصارع النخب المهيمنة محليا، لم يكن المهدي المنجرة يُغفل معركته الأساسية الكبرى، حيث تحوّل إلى واحد من أشرس المناهضين للعولمة وما يميّزها برأيه من ليبرالية متوحشة. وكانت نبرته في الحديث عن هذه الإشكالات تتسم بصراحة غير معتادة، وكانت فكرته الأساسية أن الأمم المستضعفة تستطيع النهوض إذا استعادت استقلاليتها واعتمدت على إمكاناتها الذاتية وتسلحت بمنطق العصر وأدواته، وابتعدت عن أدوات الهيمنة الدولية بما فيها منظمة الأمم المتحدة.
أحزاب ومفكرون يودعون المفكر الكبير المهدي المنجرة في يونيو/حزيران 2014م.
الانزياح شرقا.. نحو الرحابة اليابانية:
جسد المهدي المنجرة في المراحل الأخيرة من حياته في تنقلاته الدائمة بين أقطار العالم ومدن المغرب قدرة خاصة على الجمع بين المواضيع الكبرى والقضايا الإنسانية، خاصة منها المدن الصغرى والمهمشة. محاضرة هنا وتوقيع كتاب هناك، وسط احتشاد واحتفاء كبيرين من طرف الجمهور. وكانت جلسات المهدي المنجرة أشبه بالملاذ الذي تحج إليه الجموع هربا من تجمعات الأحزاب والنخب السائدة، بما فيها النخب المعارضة التي كان أغلبها من اليساريين الذين دخلوا مرحلة التيه بعد انهيار المعسكر الشرقي. ثم أصبحت ندوات ومحاضرات المهدي المنجرة تتعرّض لمنع السلطات المغربية، حيث بات في العقد الأخير من عمره يعيش تحت حصار شبه شامل لما تنطوي عليه خطبه من نقد حاد وتأثير على الجماهير.
ارتبط المهدي المنجرة بعد رحلته الطويلة في عواصم الغرب بعلاقة خاصة مع الجامعات اليابانية، حيث كان محاضرا مترددا على المراكز الجامعية اليابانية، وأشرف إلى جانب عدد من الباحثين في جامعة يابانية على مشروع “أكادي” خاص بالتنوع الثقافي في العالم. ثم سرعان ما تحوّل المهدي المنجرة، بدعوة من اليابانيين، إلى أستاذ زائر في إحدى جامعات الاقتصاد.
وفي مقابل تدريسه في أقصى شرق العالم، كان المهدي المنجرة يسوّق في محاضراته العابرة للقارات للنموذج الياباني في التنمية، باعتباره يعتمد على لغته وثقافته المحلية.
لم يكن المهدي المنجرة يخفي إعجابه الكبير باليابان بكونها دولة ديمقراطية ليبرالية رأسمالية متقدمة، لكنها في الوقت نفسه محافظة على خصوصياتها الثقافية ومقومات حضارتها العريقة. فقد كانت هذه الدولة حجة بالنسبة للمنجرة على إمكانية تحقيق التنمية والتقدم دون التخلي عن القيم الأخلاقية والدينية والحضارية للأمم. كما كانت اليابان بالنسبة له أنموذجا لدولة ناجحة تنتمي واقعيا إلى المنظومة الغربية، لكنها في العمق امتداد لهذا “الجنوب” المستضعف.
خرج المهدي المنجرة بخلاصة أساسية من علاقته باليابان، مفادها أن أركان التنمية ثلاثة:
أولها المعرفة ومحاربة الأمية، وهو ما فعلته اليابان خلال جيل واحد في القرن الـ19.
والثاني الدفاع عن اللغة، واليابان رصدت ميزانية خاصة لترجمة كل شيء إلى اللغة اليابانية.
والثالث البحث العلمي.
وحين تجمع هذه العناصر الثلاثة مع بعضها، تجد أن ما يوحدها هو الدفاع عن القيم الفكرية والثقافية المحلية.
يقول أصدقاؤه الأقربون إنه توقف عمليا عن الكتابة في أبريل/نيسان 2010، حيث أصبح طريح الفراش لا يقوى على الإنتاج الفكري. لكنه لم يكفّ عن القراءة، حيث كانت غرفة نومه تستقبل بعض الدوريات والصحف باستمرار، إلى جانب المصحف الذي لم يكن يفارقه.
قبيل وفاته في 13 يونيو/حزيران 2014، ترك وصية تقضي بمنح مكتبته الشخصية كهبة إلى المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، وهي مكتبة تضم 6 آلاف كتاب في مختلف التخصصات المعرفية والفكرية، و88 مجلة علمية و770 مقتطفات من الصحف الدولية والوطنية.
تنبأ المهدي المنجرة بقدوم الانتفاضات العربية لأن “الخابية عمرت” في العالم العربي والإسلامي
الربيع العربي.. تنبؤات مبكرة:
يعتبر كثير من النقاد والمراقبين أن المهدي المنجرة توقّع ثورات الربيع العربي قبل عقد من وقوعها، من خلال كتابه “عولمة العولمة” الذي وضع فيهه ثلاث سيناريوهات لمستقبل المنطقة العربية:
أولها سيناريو الاستقرار الذي لا يمكن أن يتم دون دعم كبير من البنك الدولي والجيوش الأجنبية.
والثاني سيناريو الإصلاح الذي يتطلّب وجود قوى سياسية قادرة على إنجازه، وهو ما جزم بعدم توفره.
والثالث وهو السيناريو الذي كان يبدو راجحا بالنسبة إليه، فهو التغيير الجذري على غرار الثورة الشاملة التي قام بها الشعب المغربي عام 1953 وانتهت بخروج المستعمر الفرنسي.
ظل المهدي المنجرة في كل ذلك يصرّ على أنه لا يقوم بتنبؤات بل بتطبيق لقواعد علم المستقبليات، معتبرا أن منطلقه الأول هو يقينه من سعي الغرب إلى تحويل كل الخلافات الاقتصادية والسياسية بين الشمال والجنوب إلى صراع ديني وحضاري، وخلق التوتر أساسا بين الإسلام والغرب، وهو ما تم الاعتراف به فعليا من خلال أطروحة صامويل هنتنغتون عن “صدام الحضارات”.
يقول الراحل في إحدى محاضراته: “يا عباد الله، إنها علوم تدرّس وليست تنبؤات.. أستغفر الله العظيم.. إنها علوم يسافر من أجلها الناس بين أنحاء العالم ويضعون أيديهم على وثائق لا تعثر عليها في الجامعات إلا بعد عشر سنوات حين يدرك الناس قيمتها”.
استفاد هذا المفكّر المغربي من تكوينه العلمي المتنوّع، حيث كان ينطلق من تخصصه الأول في الجامعة الأمريكية -أي علم البيولوجيا- ليعتبر أن التغيير حتمي وأن الاستقرار هو الموت.
ومن خلال معرفته العميقة بالاقتصاد والدبلوماسية الدولييْن، خلص المهدي المنجرة إلى أن “الخابية عمرت” (أي الجرة امتلأت) في العالم العربي والإسلامي. وصرخ مرارا في أواخر عمره قائلا: إن الانتفاضات آتية، “ليس ضروريا أن تكون على شاكلة الانتفاضة الفلسطينية، ولا ضروريا أن تعرف العنف والفوضى، لكنها ستعرف تغييرا حقيقيا، وما بدأ في مصر (ظهور حركة كفاية) سيصل إلى بقية الدول طال الزمن أو قصر، فالشعوب لها حقوق، وهي لا تقبل الإهانة، وأنا على يقين أن هذا التغيير آت في السنوات الخمس أو العشر المقبلة لأنني لا أعرف نظاما عربيا قادرا على البقاء بدون مساندة القوى الكبرى”.
تحقّقت هذه النبوءة متم العام 2010 حين انطلقت ثورات الربيع العربية عارمة قوية، لكنها سلمية. ولم يُكتب للمهدي المنجرة أن يحضر مظاهراتها ولا أن يعلّق عليها، فالمرض ألزمه الفراش وقتها إلى حين وفاته.
ومما خلّفه في واحدة من آخر محاضراته قوله: إن المستقبلي الجيد هو الذي يشتغل على فترة تمتد إلى وقت هو على يقين من أنه لن يكون فيه على قيد الحياة، “هكذا يتحرر المرء من القيود والمصالح الذاتية ويفكر لزمن سيكون فيه داخل القبر”.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *