ثقافة الغش في الوسط الجامعي المغربي

عبد الهادي أعراب

بالرغم من أنه من الصعب أن تخلو الامتحانات في العديد من دول العالم اليوم من ظاهرة الغش، فالملاحظ عبر مجموعة من الشواهد، أن المنظومة التعليمية المغربية بدءا من تعليمها الابتدائي ومرورا بالإعدادي والثانوي- التأهيلي وصولا إلى التعليم العالي، صارت مهددة بهذه الممارسة الممتدة أفقيا وعموديا، عبر مختلف أساليبها وأشكالها واستراتيجياتها وكذا قيمها الموازية التي صارت من القوة والصلابة، بما يسمح بترسيخ سلوكات التدليس والسرقة والتحايل في التحصيل والإعداد والنجاح …

في هذا السياق الذي لا نفصل فيه ممارسة الغش عن بناء ثقافي عميق يحكمه منطق الريع والنجاح فيه غنيمة2 يجب الوصول إليها بدون عمل3، تروم ورقتنا،بناء على ملاحظات من الداخل4، الكشف عن عناصر ومبررات ثقافة الغش لدى الطالب الجامعي، بوصفها مجموعة من القيم والمعايير، تعبر عن ذهنية ثقافية ورؤية للعالم، طالما أن الجامعة في النهاية مجتمع صغير (Micro Société) لا يتجزأ عما يعتمل داخل المجتمع الكبير(Macro Société). فقد استطاع الغش بهذه المؤسسة، أن يهيكل نفسه على امتداد مجموعة من المراحل والتجارب التعليمية،5 وتقوّت ممارساته وأساليبه وأمست بمثابة معارف ومهارات عملية، تكتسب وتتناقل فيما بين الطلبة عبر الأجيال وأفواج المتخرجين المحرزين للنجاح السهل والسريع. وعلى هذا النحو صار ثقافة مكتملة الملامح، لها أعرافها وقيمها وشعاراتها وشبكات توسع دائرة انتشارها؛ وهي في مستوى آخر مشدودة إلى محطات دراسية سابقة وتدعمها سلوكيات مجتمعية يلمسها الطالب في واقعه اليومي المباشر؛ من هنا فهي من الصلابة والرسوخ ما يجعل مواجهتها أو القضاء عليها، ليس بالشيء السهل متى تم إغفال تجذرها وعمقها المجتمعي والثقافي لحد صارت فيه بمثابة مطلب مشروع أو حق مكتسب.

وفقا لهذه الرؤية إذن، نرى أن هناك واقعا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا قويا ينتج ثقافة الغش ويغذيها، وهو واقع تتحمل مسؤوليته أطراف مختلفة، ليس فقط من يمارسونه في مدرجات الجامعة، بل من يقبلون به لأبنائهم وذويهم ومن يغضون الطرف عن ممارسته أو يشجعون عليه وكذا من يتساهلون في تنفيذ العقوبات القانونية الخاصة به . من هنا كا نسؤالنا المنطلق تؤسسه مجموعة من التساؤلات المركزية:

كيف استحال الغش ثقافة مكتملة الملامح؟ كيف انتقل إلى مؤسسات المعرفة وإنتاج العلم وتكوين الطلاّب؟

كيف يفسر امتداده في المنظومة التعليمية المغربية بسائر مستوياتها؟ ثم كيف يبرّر لدى فئات ناضجة وواعدة مثل الطلبة!؟

كيف يقدم الطالب الجامعي على الغش في تخصص علمي هو من اختاره وقرر الانتماء إليه؟

هل من تفسير للتطبيع المتنامي مع سلوكيات الغش في الأوساط الجامعية من قبل الطلبة وحتى الأساتذة أيضا؟

لماذا صار الوسط الجامعي غير محصّن قيميا وثقافيا من مجموع الانحرافات السلوكية، الغش من جملتها؟

ما موقف التنظيمات الطلابية من قيم وسلوكيات الغش؟

وأخيرا، ما مصداقية تعليم يتجه بالتدريج نحو استسهال الغش بمباركة من الأسرة والمدرسة والمجتمع؟

أولا_ الغش من حيث هو ثقافة

نؤكد بدءا من عنوان الورقة :”ثقافة الغش في الوسط الجامعي المغربي”، على انتقال الغش من المجتمع الكبير إلى فضاء الجامعة بوصفها مجتمعا صغيرا. ف”في”هنا تجسد هذا الدخول والنفاذ لثقافة الغش وترسخها بين الطلاّب في الوسط الجامعي، كوسط كان من المفروض لمعياريته أن يبقى سليما ومعافى، حتى يمكنه أن يلعب أدواره التنموية والتوعوية والتثقيفية والتنويرية؛ والحال أنه هو بدوره طاله الغش واخترقه بأشكال متنوعة. يتعلق الأمر بثقافة مهيمنة ومحددة لكثير من السلوكيات، دون أي تعميم مطلق. ولئن كان الغش الذي نحن بصدده هنا يؤطر عادة ضمن “الغش الدراسي” أو”التعليمي” أو”التربوي”، فإننا قصدنا أن نتحدث عنه بمعنى أعم، استحضارا منا لامتداده وانتشاره وارتباطه بمجموع أصنافه ومكوناته السائدة في المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى، لأننا نرى أن آثاره العميقة تتجاوز مراحل الدراسة والتعليم، لتبلغ أسس بناء المجتمع ككل، كما أن الغش الدراسي أو التعليمي هو جزء فقط أو تجل من تجليات الغش المختلفة. 

وفقا لهذا المنظور، نحن أمام ظاهرة مركبة في مستواها الخارجي ومركبة أيضا وبشكل مضاعف في بعدها القيمي العميق، لأنها لا تنفصل عن منظومة القيم والممارسات التي تتحرك داخل المجتمع، كالسرقة والتدليس وأخذ حق الغير والاعتداء على ممتلكاته والوصولية والنجاحات السريعة بأي ثمن . فالغش6 في المبتدء والمنتهى غنيمة يستولي من خلالها الطلبة على نجاحات غير مستحقة وهو أيضا سرقة لملكية ولجهد وعمل الغير، وعلى مستوى أخلاقي معياري، هو تزييف وخيانة للذات ولذوات أخرى أيضا، مادام النجاح المحرز يتم على حسابها ومن خلال كدّها واجتهادها .

نصر في هذه الورقة على تناول الغش بالوسط الجامعي من حيث هو ثقافة، لأننا نلمس عبر مجموعة من الشواهد أنه استطاع أن يبلور ثقافة قائمة الذات، فعبر مجموعة من المراحل الدراسية، تمكن من أن يصنع لنفسه أطرا مرجعية للتفكير والفعل، توجه أشكال واستراتيجيات تدبير التعلم والدراسة، تحصيلا وتكوينا وإعدادا واختبارا أيضا، وهو ثقافة لأنه يشمل مجموعة من السلوكات موجهة بادراكات ونماذج مبنينة للعالم، تؤطرها اصطلاحات رمزية (termes symboliques) وصيغ لغوية ومعتقدات وقيم خاصة. تجد تجسيدها أيضا، في المشترك الحاصل بين الفرد وآخرين غيره (الجماعة)، لأن الجامعة بوصفها مجتمعا، هي تنظيم لمجموعة من الأفراد ضمن فئات يقتسمون نفس القواعد الخاصة بإنتاج وتأويل السلوك الثقافي7. وهي تحديدا مجتمع مصغر8يضم فاعلين أساسسين، أساتذة وطلبة وإداريين وأعوان، بينهم تفاعلات وروابط بناء على “هويات مهنية” وحدود موضوعية ترسمها القوانين والأعراف الجامعية .

وللإمساك منهجيا بعناصر هذه الثقافة المرتبطة بالغش، انطلقنا من التعابير اللغوية9 التي تؤطر ممارسة الغش لدى الطلبة وتمنحه التبريرات الكافية لترسيخه ودعم انتشاره وتداوله، كما أولينا أهمية للخطاب المتجذر في الثقافة والسياق الاجتماعيين10، لأننا نعتبر أن الاستعمالات اللغويةles usages langagiers لا تنفصل عن اللعبة اللغوية وفن الحديث مثلما أكد كل من “وورف” و”سابير”، فاللغة تكوّن وسائل يفكر من خلالها الأفراد، وهي أيضا تشرط الفكر الثقافي والإدراكات وتحدد رؤية العالم 11أو ما يعبر عنه في اللغة الألمانية ب(weltaschaung) وفي الفرنسية ب (conception du monde) كما بلوره Guillaume de Humboldt، من حيث هو مفهوم تركيبي يحيل على تصور خاص للعالم يتم من داخل الثقافة، يمكّن صاحبه من تكوين صورة للعالم ولذاته كذلك . يشهد على ذلك أن الغش صار ثقافة قائمة بالوسط التعليمي، بوجود منظومة قيمية جاهزة تبرره وتشرعن ممارسته والتعامل به، فالكل يغش وفقا للتصور السائد أما الاستثناء إن وجد فهو جد ناذر، فثمة غش في البيع والتجارة والبناء والعمارة والبنوك، كما أنه ممارسة يستوي فيها الفقراء والأثرياء، فالفقير يغش ليعوض حرمانه والثري يغش ليضاعف ثراءه الفاحش؛ أمام هذا الصنف من التبريرات يبدو الطالب الحلقة الضعيفة في منظومة الغش المجتمعية؛ غير أن قوة هذه التبريرات تكمن في إنتاج المزيد من الغش والتطبيع معه .

وأمام غلبة ثقافة الريع والغنيمة وانتصارها على ثقافة القيم الديموقراطية ومنطق الاستحقاق، وتراجع قيم العمل والمثابرة والجهد، بعدما تغلغلت ثقافة اليأس وعدم الثقة في المعرفة والتعليم جراء مراحل وتجارب متفاوتة من الإخفاق السياسي في تدبير القطاع التعليمي وتضخم بطالة الخريجين، ازدادت ثقافة الغش صلابة ورسوخا مع صنف جديد من القيم الانتهازية، تصبح القيمة فيها هي “اللاقيمة” أو الاستعداد المسبق للقيام بأي شيء مقابل إحراز نجاح شخصي أو تحقيق مصلحة ذاتية بأي وسيلة متاحة .

ولئن حق لنا مجازا أن نشبه الغش بمرض سرطاني يمتد داخل أوصال الجسم التعليمي، فالشاهد لدينا أن مساحة أورامه الخبيثة تزداد اتساعا وعدوى انتقاله تسري بسرعة، لتمس سائر خلاياه الحية وأنسجته المختلفة وتشل أهم وظائفه الحيوية، كما أنها لا تقتصر على فترة الامتحانات أو التقويم فحسب، بل تمتد إلى مجمل المراحل التكوينية، بدءا من الإعداد والتحضير مرورا الى انجاز العروض والتقارير وتحرير البحوث، وصولا إلى عملية التقويم النهائي أو الامتحانات . فرغم اللوائح التنبيهية والتحذيرية والمذكرة بالعقوبات الزاجرة لمحاولة الغش، والتي توضع بقاعات الامتحان وأمام أعين الطلبة، فالواضح أنها لا تكفي لإيقاف محاولاتهم الدائبة في الغش، بما يشي أن الأمر يتعلق بإصرار كبير على هذه الممارسة، وهو مؤشر على قوة الظاهرة ورسوخها كثقافة، لأنه يحوّل في حالات كثيرة قاعات الامتحان إلى ساحة للتوتر والاحتقان، تنتهي بمواجهات لفظية بين الطلبة والمراقبين وفي حالات أخرى،بفصول من التهديد والاشتباك والعنف.

وجذير بالذكر، أن مجموعة من الملاحظات المتكررة، تبين أن الجهود الكبرى التي يبدلها الطلبة، لا تذهب في اتجاه الإعداد والتحضير للامتحانات بقدر ما تتركز على صنع “النقول” والتنظير لطرائق استعمالها وتصور سيناريوهات إنجازها، مما يقتطع جزءا مهما من الوقت والطاقة، كان من الممكن صرفه في الدراسة والتهيئ الايجابي والمثمر. انه الاصرار على الغش الذي لا يستقيم فهمه في العمق، إلا اذا استحضرنا تمثلات الطلبة للامتحان كمعركة أو حرب، يتوسلون فيها كل ما يمكنهم من الأساليب لاصطياد الغنائم، ممثلة في احراز نقط ايجابية تخول لهم النجاح وتجنبهم الانهزام الذي هو الرسوب والتكرار. أفليست الحرب خدعة؟ أليس ما ندعوه هاهنا “غشا” هو مجرد تحايل عابر تباركه الثقافة السائدة وتصادق عليه؟ ثم أليس الأستاذ المراقب عدوا يجب التغلب عليه وهزم خططه في الحراسة؟ ألا يعقب هذه المعركة زهو بالنصر المحرز؟ ألا تتحول فتوحات “الغش” إلى ملاحم وبطولات يتحاكاها الطلبة فيما بينهم بانتشاء الظافر المنتصر؟ ثم ألا تنتهي الامتحانات بركام من الأسلحة وبقايا العتاد المستعمل والمتناثر في جنبات القاعات والمدرجات؟ ثانيا، الغش ثقافة مركبة ومسؤولية مشتركة

نؤكد، مثلما أسلفنا، أن استفحال الغش وامتداد ثقافته، تتحمل مسؤوليته أو جزءا منها على الأقل، أطراف عديدة : مؤسسة الأسرة من خلال التربية ونمط التنشئة المجتمعية السائدة، والتي هي نتاج لمجتمع متخلف يعاني أعطابا ثقافية وفكرية واجتماعية كثيرة، ثم المؤسسة التعليمية عبر المناهج والمقررات وأنماط التقويم والسلوكيات الصادرة عن بعض الأساتذة والمراقبين،وصولا للطلبة كممارسين ومنفذين مباشرين للغش. دون أن ننسى أطرافا أخرى مثل المكتبات ومحلات الاستنساخ وخصوصا “مقاهي النيت”(cybercafés) التي تتاجر في المستنسخات المصغرة وتبيعها للطلبة، أمام مرأى ومسمع من الجميع. من هنا يمكن أن نتحدث في مستوى آخر من توصيف الظاهرة، عن سوق الغش التعليمي أو الدراسي،حيث نجد من يبيع هذه البضاعة (تجّار) ومن يشتريها (زبناء) ومن يتوسط لعقد صفقاتها (مسهلين وسماسرة) من الطلبة المتخصصين في عرض خدماتهم.

1_ الغش بين التنشئة الاجتماعية ومخلفات مراحل الدراسة الماقبل- جامعية

من الثابت أن امتدادات الغش في الوسط الجامعي توجد أولا بالمجتمع الكبير، كما تحتضنها المستويات التعليمية السابقة أو الماقبل جامعية، وعليه فهو جزء من ثقافة مجتمعية مبنينة (بفتح الياء) ومبنينة (بكسر الياء) للسلوكات والأفعال اليومية للطلبة، تحت مسميات تبريرية يلخصها مفهوم “ذكاء الحيلة” الذي تشير إليه عبارات خاصة من قبيل :”القفوزية”(القفز على القانون واختراق المساطر والقواعد) و”الحيالة” (التحايل) و”الوعورية” (تجاوزالخوف) و”التطويرة”(التذاكي)، وهي قيم تطفو على السطح لتفرض نفسها ضد قيم العمل والمثابرة التي توصف بالغباء و”التكونيبة” و”تبوجاديت” …الخ، كما تتجه إلى تبرير الكسل والاتكالية والاستهتار واللامسؤولية.

وراء الغش تنشئة اجتماعية تمارس أدوارها العميقة على شرائح واسعة من الأفراد، ينقلونها معهم ويتداولونها في الأوساط الطلاّبية أيضا، كمهارات جديدة تضمن لهم النجاح السهل والسريع بأقل جهد فكري، كنوع من الماكيافيلية الطلابية التي تعمل بمنطق تبريري شعاره الثاوي “الغاية تبررالوسيلة”. وهكذا، فإن أساليب الغش في تطور سريع ومستمر، بينما المهارات والقدرات المعرفية في تراجع أسرع؛ لأنه بالقدر الذي نستطيع فيه الحديث عن مهارات الغش وقدرات التحايل والتدليس..،يتعسر في المقابل العثور على الملكات الفكرية والعقلية الضرورية كالنقد والتحليل والتركيب والتصنيف والمقارنة … الخ .

وتحت الضغط الذي تمارسه الظاهرة بامتدادها الأفقي والعمودي، دون تمييز بين الجنس أو المستوى أو التخصصات والشعب الدراسية، يسهل انخراط واستسلام فئات جديدة من الطلبة، بتوسل فنون الغش سبيلا للتحصيل والنجاح. من هنا نتحدث عن عدوى الغش؛ ففي غياب قدوة قوية تفرض نفسها كنموذج للنجاح القائم على الكفاءة والاستحقاق، يسهل على فئات عديدة السقوط في ممارسته، كما أن هناك فئات أخرى مرشحة لذلك في القادم من الأيام. وبانتشار هذه العدوى، يتم التشكيك في كل المهارات المتبقية والنجاحات المحرزة، لأن الفكرة السائدة بمثابة البداهة، أن أي نجاح هو محصلة شكل من أشكال التحايل والتلاعب .

هاهنا نصبح أمام مستوى عميق، أمسى فيه الغش ذهنية ثقافية محددة للفهم والتفكير، بل رؤية شمولية للأشياء وللعالم ككل. تترسخ هذه البنية الثقافية والذهنية، بوجود تنشئة طلابية تعزز ممارسة الغش واللجوء إليه كاستراتيجية قائمة الذات، وهي تنشئة تنتشر بين صفوف الطلاب عبر الأجيال، يتناقلون فيها الأخبار عن الأساتذة الذين يتشددون في الحراسة والذين يتساهلون فيها، مثلما يتناقلون استطلاعاتهم عن طبيعة أسئلة التقويم لدى هؤلاء وأولئك .

وباستحضار تطور التقانة الحديثة والمعاصرة ووسائل التواصل الجديدة12، صار الغش مجموعة من الأساليب التقنية الدقيقة التي تستلزم عدة وعتادا متطورين، كما تستلزم من المراقبين والحراس الإلمام بها والانتباه لإمكانياتها الهائلة في تيسير الغش وتسهيل حصوله وتداوله على نطاق أوسع وأسرع . على أن مهمة النجاح في ممارسة الغش ليست متاحة للجميع، فثمة مفاضلة فيما بين الطلبة وبعضهم يتفوق على الآخر في هذا الباب، يتعلق الأمر إذن بمعرفة للفعل والتصرف(savoir faire) يتم تحديثها وربطها بالتقنية المتطورة باستمرار .

2_ الأساتذة وبنية المؤسسة

لفهم حدود دور الأساتذة في انتشار ثقافة الغش، ينبغي استحضار موقعهم داخل الجامعة اليوم ومدى ارتباطهم بمؤسستهم وهيئتهم وطبيعة مسلكياتهم وحدود مسؤولياتهم وكذا مساءلة “بيداغوجيتهم” إن توافرت، ومن ثمة، فهم طبيعة التفاعلات التي تنتج بينهم داخل هذا الفضاء وآثارها على الحصيلة التعليمية تدريسا وتكوينا وبحثا وتقويما أيضا. في هذا السياق، نجد بداية أنهم لا يمثلون فئة متجانسة، بل فئات مختلفة ومتباينة التكوين والمشارب والمصالح وكذا حجم العلاقة بالجامعة، انتماء وانخراطا والتزاما13، يساهم هذا المعطى في إضعاف “الجسم المهني”، ويزيده وهَنًا، واقع التنقل بين العمل ومدن الإقامة، مع ما يطرحه من مشكلات التأخر والتغيب والانسحاب 14. كما تتمثل مسؤوليتهم أيضا في مجموعة من المستويات، لا ينفصل بعضها عن مناهج الدراسة والتدريس الجامعيين وتحديدا عن البيداغوجيا الجامعية وطبيعة التقويم كذلك، أما بعضها الآخر فيتصل بضعف تحمّل المسؤولية واللامبالاة وتعطيل المساطر والإجراءات القانونية المنظمة للغش. هكذا يمكن أن نتوقف عند العناصر التالية:

_ طبيعة التقويم : ونقصد تحديدا صنف الأسئلة السطحية والمباشرة، التي تستدعي عمل الذاكرة والحفظ ولا تستفز ملكات التحليل والتركيب ونوعا من المسافة النقدية مع المضامين المعرفية الملقنة .

_ غلبة الكم على الكيف : وهو ما يشجع الطالب على مواجهة ثقل الكم بحلول / حيل أخرى أقربها وأكثرها اغراء هو الغش بكل الأساليب المتاحة والممكنة .

_ عدم إعطاء الأهمية التنظيمية للامتحان: وهكذا يجد الأساتذة المراقبون أنفسهم مورطين في كل مراحل التقويم، إعدادا وإشرافا وتوزيعا للأوراق وحراسة…، مما يبعث لديهم على القلق والنفور والتعاطي السلبي مع هذه العملية ككل .

_ ضعف البنية التحتية لبعض المؤسسات الجامعية : وهو ما يطرح مشكل الاكتظاظ في قاعات الامتحانات ويصعّب مهام الحراسة والمراقبة؛ كما أن عدم توزيع الطلبة قبل الامتحان وعدم استدعائهم بشكل فردي ومسبق،يخلق مناخا تربويا سلبيا وغير سليم، يدفع في اتجاه تشجيع الغش وممارسته .

_ التساهل في إجراءات الحراسة ومراقبة الامتحانات : ومن ذلك عدم التأكد من البطائق الخاصة بالطلبة والتحقق من هوياتهم والتغاضي عن محاولات الغش والتساهل مع بعض ممارساته، أو بالتنازل عن كتابة تقارير بالطلبة المتورطين، وعدم كتابتها أحيانا أخرى في تعطيل سافر للقوانين المنظمة.

_ أحيانا أخرى، نجد أن بعض الأساتذة يتعالون على دور المراقب تحت مسميات عديدة : “أنا أستاذ” أو أنه “لا بد من وجود أطراف متخصصة في المراقبة” أو أن “مهمتي هي التدريس والبحث”… الخ . او يعمد بعضهم الآخر إلى شرح الأسئلة المطروحة شفويا أو الإيحاء بالجواب، وهي في العمق سلوكيات متواطئة طالما أنها نوع من التغشيش أو الطيبة التي في غير محلها، تسمح في النهاية ب بالسطو على مجهودات الغير من المجتهدين أو تفسد المناخ السليم للامتحانات الشفّافة.

وينبغي القول أنه بهذه السلوكيات المتفاوتة في التواطؤ، تضرب في الصميم مصداقية التعليم الجامعي ومصداقية النظام التعليمي ككل، من خلال تدمير احدى مرتكزاته الأساسية وهي التقويم، ليصبح نظاما تعليميا مسؤولا عن تعميق ظاهرة الغش وترسيخ ثقافته بين الطلاّب بل احتضانه وإعادة إنتاجه وتأبيده؛ فالسخاء في التنقيط أحيانا والتغاضي عن المراقبة وتبسيط أسئلة التقويم والنزول بها حدودا دنيا، وغيرها من الممارسات التي يتورط بعض الأساتذة عن وعي أو عن غير وعي، أو فقط من باب تحسين الصورة أمام الطلبة،برسم نموذج الأستاذ الكريم والسخي “ولد الناس” أو لتغطية تهاونهم وتقاعسهم، لا يمكنها إلا أن تغذّي لدى الطالب هذه الثقافة الاتكالية والريعية ، محولة عملية التقويم في النهاية، الى ممارسة عبثية فاقدة للمعنى.

3_ الطلبة واستراتيجيات الريع والغنيمة

تقفز إلى عين الملاحظ المتتبع لمسلكيات الطلبة سواء داخل فصول الدراسة أو خارجها، جملة من الملاحظات العامة، تنير لنا الطريق لفهم الكثير عن الغش من حيث هو ذهنية ثقافية، نورد أهمها كالتالي 15:

_ضعف الاهتمام بالتكوين والبحث واختزال التعليم الجامعي في تحصيل الشهادة.

_ الرغبة في الحصول على نقط ايجابية دون جهد فعلي عملا بمبدأ احتيالي:”النقطة بأقل قدر من الجهد”، وهو ما يفسر أشكال التعامل الانتهازي مع الأساتذة، باستجداء النقط والتسول المحرج في الامتحانات الشفوية أحيانا أو بالابتزاز والتهديد أحيانا أخرى.

_اختزال الطالب لعلاقته بالأستاذ في النقطة والتقويم ممثلا في طابعه الجزائي وليس بمعناه التكويني.

_تراجع قيم الاعتراف واحترام الأساتذة والفضاء العام للجامعة، مع تراجع دور الحلقيات الطلابية في التكوين الموازي والتوعية والإنتاج الفكري.

_طغيان ثقافة الكسل والحرتقة (التّسلاك) في إنجاز العروض والبحوث وكافة الأعمال الموازية.

_الاحتفاظ بسلوكيات التلمذة، كالحفظ والمطالبة بالإملاء أو بدروس جاهزة أو بملخصات مرقونة، إلى جانب الشكوى من ثقل المقررات، مما يشي بمشاكل منهجية في التعامل مع التكوين الجامعي وضعف ملموس في الاعتماد على الذات وإنشاء دروس أو محاضرات موازية لمحاضرات الأستاذ.

_هيمنة ثقافة الشكوى مرفقة بخطاب التعلّل، الذي يستند لصنف القيم الذرائعية والتهرب من تحمل المسؤولية وإلقائها على أطراف أخرى : (الأستاذ لا يشرح – المقرر طويل – المواد المدرسة كثيرة -غياب المراجع- أسئلة الامتحانات صعبة- ظروف العيش- المواد المبرمجة كثيفة…).

_غياب مشروع البحث الجامعي لدى الطالب، فهو لا يفكر في مشروع بحث منذ الفصل الأول، مما يضاعف صعوبة اختياره وإنجازه لبحث الإجازة وعجزه أحيانا عن بلورة مشكلة بحث وتورطه في أشكال من التلفيق والترميق؛ قد تستمر هذه الصعوبة إلى مراحل ما بعد الإجازة.

_ضعف اعتزاز الطالب بهويته بإنتاجه خطابا تحقيريا للذات؛ ويصل هذا الأمر حدا دراميا في إخفاء ملامح هذه الهوية خارج أسوار الجامعة وتبني خطاب يبخس فيه ذاته : (أنا غير طالب – غير ادفع معنا الكرّوسة- أنا مشروع عاطل …).

_السلبية والاستسلام لثقافة الشارع ونقلها إلى الجامعة نفسها(امتداد لغة الشارع وثقافته إلى أسوار الجامعة).

_سيادة ثقافة الاحتجاج الفارغ وارتفاع سقفه بشكل غير مبرر؛ وبالمقابل تراجع ثقافة تحمّل المسؤولية (احتجاج الطلبة على النقط وعلى التكوين والمقرر ومواعيد إجراء الفروض…) ناسين أو متناسين أنهم الحلقة الثانية في التكوين ذاته.

_ضعف الوعي الطلابي وعدم الالتزام بمسلكيات الطالب في العمل والتحصيل والتكوين والبحث، والميل بالمقابل للعنف(إذ لا ننسى أن بعض الجامعات عرفت أحداثا خطيرة ودموية).

_الاستسلام لثقافة الاستهتار بتصور الجامعة فضاء للحرية اللامشروطة دون ضوابط، وبالتالي مقاطعة الدروس والمحاضرات دون مبررات موضوعية وإهدار للزمن الدراسي وتفويت فرص ثمينة للتعلم في جامعات ذات استقبال مفتوح ومجاني.

كل هذه العناصر توفر مجتمعة، المناخ المناسب لتنامي الغش بمختلف أساليبه العديدة والمبتكرة؛ كما تمثل إطارا مثاليا لامتداده كثقافة واستمرائها والتعاطي معها بنوع من التطبيع دون أي تحرج، عبر قيم الانتهازية والوصولية وتحت مسميات الفهلوة والذكاءالتي سبقت الإشارة إليها وهكذا ينتج الطلاب شعارات وصيغا لغوية متداولة على نطاق واسع،تجسد هذه الذهنية الثقافية المؤطرة لممارسة الغش، بعضها أمثال أو أقوال مشهورة محرفة ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

+ “من نقل انتقل” و “من اعتمد على نفسه بقي في قسمه”

+ “أطلبوا الغش ولو كان في الصين”

+ “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء” (وهي من الجمل التي تكتب في أوراق التحرير وتوجه أساسا للمصحح كعبارة : مكرر أو مكررة _ هذه آخر فرصة لاستفاء الوحدة الدراسية ..الخ)

+ “من نفّس على مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب الآخرة”

+ “استعن بيمينك”

+ “وأعدوا لهم ما استطعتم” و”حاربوهم”

+ “مائة ضربة بالمقص ولا تخميمة واحدة”( جهد فكري)

+”حرّ ساعة يدوز”

من الواضح إذن، أن الغش لم يعد فقط سلوكا مرتبطا بالتقويم، بل صار قدرات واستراتيجيات للتعامل داخل الوسط الجامعي. فالنجاح نفسه،عملية مفبركة والتحصيل الدراسي الذي يسبقه، يقوم على مهارات التحايل في الاعداد والتحضير وتهيئ الملخصات. يتعلق الأمر في مستوى من المستويات، بامتدادات وبقايا الطرائق والمناهج المتداولة في المراحل السابقة، سيما تلك التي تتصل بظاهرة الساعات الخصوصية في التعليمين الإعدادي والثانوي، والتي رسخت لدى الأجيال الجديدة، فنون النجاح عبر تقنيات محددة بعيدا عن التكوين الرصين والإعداد الجدّي والجاد.

ولهذا فحتى الطلبة النجباء والمجتهدون، لا يتجاوزون في حالات كثيرة حفظ كراريسهم الجامعية وملخصات أساتذتهم، بعيدا عن استثمار قراءاتهم الخاصة لبلورة تفكير نقدي وأسلوب علمي تحليلي لا يقوم على التكرار والاجترار. انه نوع آخر من الغنيمة، يحصل عليها الطالب المجدّ مكتفيا بالحفظ والاستظهار، بعدما روضته الامتحانات عبر مراحل دراسية مختلفة، على استدعاء محفوظ جاهز دونما تعب في التفكير والتحليل والتركيب، خصوصا مع تنامي قيم الاستسهال والاستبساط، التي تعد ركنا من أركان منظومة الغش وثقافته .

هكذا نسجل أن هناك توجها عاما نحو اللجوء إلى أساليب الحيلة والتحايل والخداع المختلفة، نذكر منها: (الانتقائية في الإعداد للامتحانات أو ما يعرف ب”التقمار” – طبع أوراق الامتحانات وملؤها بإجابات لأسئلة مفترضة – انجاز عروض وتقارير مستنسخة أو منقولة عن أعمال أخرى دون الإحالة عليها – تبرير الغيابات المتكررة بقصص ملفقة وممسوخة – تزوير لوائح الحضور – انتحال صفة طالب من قبل آخر- …). مثلما يسهل علينا أن نسجل أيضا، وجود تضامن قوي بين الطلبة الممارسين للغش، ولعل ما يثير الانتباه هو صمت غير المتورطين في الغش عن زملاء لهم يمارسونه أمام أعينهم، بالرغم من أنهم المتضررون الأوّل من غش زملائهم، إلا أن يكون صمتهم تواطؤا سافرا وليس ضمنيا عما يقوم به هؤلاء .

وأمام ما تعرفه الساحة الطلابية من تراجع ثقافي ملموس وغياب تأطير حقيقي وبنّاء، يبقى السائد هو ارتفاع منسوب ثقافة الاحتجاج والمطالبة على حساب ثقافة الواجب والمسؤولية، كما نرصد صمتا مريبا داخل الحلقيات عن انتشار الغش وتغلغله بين صفوف الطلبة مسجلين ضعف التأطير والتوعية داخل الخلايا والتنظيمات الطلاّبية بمختلف توجهاتها . يشهد على ذلك تورط الطلبة في ممارسة الغش، بمختلف مشاربهم الفكرية وتوجهاتهم الإيديولوجية وبمختلف مظاهرهم الخارجية: (ملتحون- محجبات- تقدميون- …الخ).

يعمل الطلبة أيضا، على إنتاج تصنيفات خاصة حول الأساتذة، يحكمها أساسا معيار السخاء في التنقيط والتغاضي في الحراسة وعدم التشدّد، بعيدا عن المعايير الأخرى،كالتي تتصل بالجدية في العمل أو بالإخلاص في أداء المهام المنوطة بهم. فالصنف الأول مثلا يشار اليه ب: (الظريّف – كيدير المزيان- بّات زوين- الله يعمّرها دار…) أما الصنف الثاني وبناء على معيار الشح في التنقيط، فيتم وسمه بالتوصيفات التالية: (المزيّر- الواعر- المعقّد- الخايب – القرزاز- مسموم – كسّال- قاسح – قمّاع – جزّار- مجرح – قتّال-…). مما يبين مرة أخرى، الاستسلام التام لمنطق الغنيمة والريع الدراسي .

وتشي عموما مجموع السلوكيات الطلابية المتصلة بالغش، بضعف ملموس في الالتزام الأخلاقي والقيمي، وهو ما يعزز موقع الانتهازية وغياب الأمانة والصدق والجدية ..؛ فالملاحظ باستمرار، أن الطالب المتورط في الغش لا يتورع عن الاحتجاج ويدافع عن موقفه المخالف للقانون وعن حقه المشروع/ المزعوم في الغش، كما يقابل بمنتهى الاستغراب سلوك المراقبة الجاد من قبل الأستاذ أو يتهمه بالوقوف حجر عثرة في طريق نجاحه وتأمين مستقبله وبالتالي يلقي عليه أسباب فشله وحرمانه من الفوز أو الظفر بالشهادة أو الترقية في حالة الممتحن الموظف .

في هذا الإطار تمنحنا السيكولوجيا إجابة ثمينة، باعتبار أن الغش اضطراب نفسي، لأن الغاش أو الغشّاش لا يشعر بتأنيب الضمير، بقدر ما يحس بالانتصار والانتشاء والقدرة على اختراق مراقبة الأساتذة المشرفين على الحراسة . وحتى في الحالة التي قد يواجه فيها بنوع من الإحراج، فإنه سرعان ما يجد من الحجج المظللة ما يكفي ليتشبت بحقه في الغش طالما أنه ممارسة لا تستثني زملاءه وأقرانه ومجتمعه ككل .

ثالثا، الغش وإنتاج مجتمع الزيف

لعله من النتائج الخطيرة والمدمرة للغش، بالوسط الجامعي ما يلي:

_ عدوى الغش: وسرعة انتشاره وامتداده بين الطلبة، بين أجيال مختلفة وبين شعب علمية متعددة ،كما بين طالبات وطلبة بمستوياتهم المتباينة، فحتى المتوسطون والمتفوقون أحيانا يغشون، بل إن بعض الذين يحرزون نقطا عالية باستمرار لا يأنفون بدورهم من الاستفادة من غنائم الغش ولا يمنعون أنفسهم من غش جزئي أو في بعض المواد دون غيرها .

_انتاج “الأمية المتعلّمة”: بإنتاج متعلمين أميين ذوي تكوين لغوي ومعرفي هزيل،ومتمدرسين وطلبة لا يعكسون مستوياتهم الدراسية والجامعية، قولا وفعلا، سواء داخل فضاء الجامعة أو خارج أسوارها.

_ إنتاج الرداءة: ويتم ذلك عبر ترويج بضاعة مغشوشة، سرعان ما تنتهي بتدمير المجتمع من الداخل . وعلى هذا النحو سنجد أنفسنا أمام أجيال رديئة من الخريجين والكوادر، بإنتاج أطباء ومعلمين ومهندسين وتقنيين غير أكفاء، أي ببساطة أجيالا من المزيفين أيضا. ولهذا تصدق المقولة:” خطأ الطبيب يدفن تحت الأرض وخطأ المهندس يسقط على الأرض وخطأ المدرس يمشي على الأرض (وفي تعبير آخر: يفسد الأرض)”.

_ إخصاء الكفاءة: على أن التهديد الأعمق والمدمر للمجتمع، يكمن في أن ما يمكن أن نعثر عليه من الكفاءات والقدرات الإيجابية يتم تلويثه وإضعافه وإقباره أيضا. لأن العملة السيئة تطرد العملة الجيدة وفقا لقانون توماس جريشام16 وتدفعها إلى التراجع والضمور والاختفاء.

_ تدمير المجتمع من الداخل: فمن خلال الافراغ المتزايد للنظام التعليمي من قيم الاستحقاق ودمقرطة الفرص في النجاح، يتم تعطيل قيمة العمل الجاد والاجتهاد وبالضد من ذلك، يتم ترسيم منطق الغنيمة وقيم الوصولية وسرقة النجاح والمؤهلات المعرفية والعلمية والتقنية، كما يتم سحب الثقة والمصداقية من الشهادات والدبلومات الجامعية وضرب قيمتها الاعتبارية والرمزية داخل المجتمع وخارجه .

_صناعة الزيف: ان الغش المتزايد لا يمكنه إلا أن يسهم في تجذير ثقافة الفساد والتطبيع مع مختلف أشكال التزوير، بدءا بالنجاح الزائف والشهادة الزائفة وصولا إلى إنتاج مجتمع زائف أيضا، أي مجتمع هش ومفرغ من القدرات الذاتية القائمة على الاستحقاق، وبالتالي لا يحوز من المناعة ما يمكنه من أن يحقق استقلاليته الاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية خصوصا .

خلاصة

تعاني الجامعة المغربية من مجموعة من الأعطاب الكبرى، لعل ظاهرة الغش جزء منها فقط، فعلى امتداد مراحل تاريخية غير قصيرة، ما زالت جامعاتنا تشكو من ضعف صلتها بالمجتمع، كما ظلت عاجزة عن التأثير في محيطها الداخلي فكيف بالمحيط الخارجي، بدليل أنها مخترقة بثقافة الشارع ونماذجه القيمية والسلوكية، وهي المراهن عليها لحمل مشعل التنوير والقيادة. وفي مستوى آخر، نجد أن الثقافة المجتمعية إلى اليوم، مازالت تحصر دورها في التوظيف بعيدا عن أي مهمة أخرى، كتحصيل المعرفة والتكوين العلمي أو إنتاج نخب من المثقفين .

من هنا نؤكد أن رهان الإصلاح الجامعي والقضاء على أعطاب التعليم الجامعي وظواهره السلبية، لا يمكن أن يتم فقط من خلال اصلاحات تقنوية أو قانونية _ بالرغم من أهميتها_ وإنما من خلال بناء وترسيخ ثقافة جديدة؛ يتعلق الأمر إذن برهان ثقافي يروم محاربة ثقافة واستنبات أخرى جديدة، لهذا فالمحولات الثقافية أساسية في هذا الباب . لأننا نتصور في النهاية، أن المواجهة الجذرية لممارسة الغش، تتمثل في خلق وعي جديد وعبر ثقافة بديلة أو مضادة، ينبغي أن تتجه مجموعة من المساعي المتضافرة لبنائها وتتبيثها، كرهان مستعجل لأجل تعليم ناجح وجامعة بنّاءة ومجتمع قوي بطاقاته المؤسسة على قيم الكفاءة والاستحقاق .

بهذا فقط يمكننا مواجهة التحولات العلمية والتكنولوجية الكبرى، والرقي بالإصلاحات القائمة إلى مستوى اللحظة التاريخية وتحدياتها المعرفية الراهنة، للعولمة الثقافية والفكرية وللتنافس الجاري بين كبرى الجامعات الدولية على مستوى الجودة والفعالية في عصر السرعة والوصول للمعرفة والمعلومة .

هوامش:

*نشير إلى أن نص هذه المداخلة، قد شاركنا به في اليوم الدراسي المعنون” ظاهرة الغش في الوسط الجامعي : تصورات واستراتيجيات” والذي نظمته شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب،جامعة الحسن الثاني، المحمدية، يومه الثلاثاء: 19 مايو 2015.

للتوقف عند منطق الريع وامتداداته الثقافية والاجتماعية، أنظر مقال: زياد حافظ : الاقتصاد العربي الى أين؟ من الريع الى الإنتاج : المستقبل العربي، العدد ،135.

2 من تعاريف الغنيمة أنها اقتناص الثروة من الغير_ كما في لسان العرب_ وعلى مستوى أعمق، هي مفهوم أساسي متجذر في الثقافة العربية لتحديد الثروة . أنظر بهذا الصدد:

_ابن منظور، لسان العرب، ج8، حرف الغين دار بيروت ، بيروت ،1968، ص، 138-140

_ابن خلدون، المقدمة، دار الجبل، بيروت،2005،ص،319-320-321.

3 تتجه مجموعة من الدراسات الى تأكيد ان “ثقافة انتاج الثروة عبر الجهود مغيبة الى حد كبير في الثرات العربي وان كانت هناك تكاليف قرآنية واضحة تحث على العمل من أجل الكسب. أما مصادر الثروة فهي ناتجة أما عن الريع وإما من مجهود الآخر الذي يغنم : زياد حافظ، م، س،ذ،ص 137،عن:

Ahmed Henni ,Le Syndrome Islamiste etb les Mutations du Capitalisme,Paris,éd;non-lieu ;2008;p;42.

4 منهجيا اعتمدنا على مجموعة من الحيل المنهجية للوصول الى معطيات كيفية حول ثقافة الغش، فبالإضافة الى الملاحظات التي نسجلها بين الحين والآخر من خلال ممارستنا الميدانية بالجامعة وخصوصا من خلال التدريس والإشراف على الاعمال والبحوث والتقارير أو في مرحلة مراقبة الامتحانات، اتصلنا بعينات مختلفة من الطلبة وعقدنا مقابلات جماعية مع فئات مختلفة منهم، بقصد الوصول الى فهم محايث لممارسة الغش في الوسط الجامعي.

5 نشير إلى أن المغرب عرف منذ مراحل تاريخية سابقة، مجموعة من الفضائح التي تهم تسريبات كبرى للامتحانات مثلما حدث في سنة 1979 وبعدها في 2006 ، بكل من الناظور ومكناس .

6 الغِشُّ في اللغة العربية من الغَشَش، بمعنى المشرب الكدِر، و: غشَّه يغشَّه غِشًّا : أي لم يمحضه ؛ والغشُّ أيضاً هو ما يخلط من الرَّديء بالجيِّد .أنظر: ابن منظور ، لسان العرب، ج ( 11 ) بيروت ،دار صادر ، 2008 ،ص ، 52 .

7 Joel sherzer :” langage et culture : une approche centrée sur le discours” : Langage et société, n : 139, 2012;p;22.

8 رحمة بورقية “نحو سوسيولوجيا الجامعة”: مواقف، قضايا المجتمع المغربي في محك التحول ، جامعة الحسن الثاني ، المحمدية ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط 1، 2004، ص 128.

9 من بين الاصطلاحات اللغوية الخاصة بالغش وأكثرها تداولا نذكر: ( النقلة الحروزة التحريزة _ الحجابات _ التكوفيشة _ التكنيشة_ السبوب – التحناش – لوريقات _ الدعم_ العدّة… )

10اعتمدنا المقاربة نفسها، لدراسة الذهنية الثقافية الهجروية بواحد من الأقاليم المغربية المصدرة لأعداد كبيرة من المهاجرين نحو الخارج وتحديدا نحو إيطاليا في مقال موسوم ب: “الذهنية الثقافية الهجروية بإقليم خريبكة : مقاربة اثنوغرافية” ، شاركنا به في أعمال في الندوة الوطنية “الهجرات جنوب _شمال _جنوب” يومي 25و26 مارس 2015، تنظيم “مختبرالأبحاث في التسيير، الاقتصاد والعلوم الاجتماعية”، بالكلية متعددة التخصصات- الجديدة. وهي قيد النشر ضمن مؤلف جماعي .

11 Joel sherzer :op,cit;p;22.

12 من بينها استعمال الهواتف الذكية عبر تقنيات “البلوتوت” و”الاسميس” و”الواتساب” و”الكيت”، لتمرير “النقول” ما بين الطلبة الممتحنين او بينهم وبين زملاء لهم خارج قاعات الامتحان.

13وهو ما يطرح سؤال مجتمع المعرفة بالمغرب ومدى انسجام الثقافة القائمة مع مؤسسة الجامعة .

14 صنفت الباحثة رحمة بورقية ،في سياق دراستها للمؤسسة الجامعية و تحدبيدا من خلال سوسيولوجيا الجامعة، الأساتذة الجامعيين إلى أربع فئات على الأقل وهي: أ-فئة منتمية للجامعة ومنخرطة في مشروعها العلمي وملتزمة بأخلاقيات العمل المهني والعلمي، ومشروعيتها مستمدة من هذا الانتماء المتين. ب-فئة تتبنى خطاب الشكوى والنقد السلبي للجامعة، وتحمّل المسؤولية لأطراف أخرى مضخمة من خطاب الأزمة . ج- فئة تختصر مهمتها في التدريس، ولا انتماء لها داخل الجامعة. د- فئة المنسحبين من الجامعة والمقتصرة على انجاز أقل ما يمكن من ساعات العمل والانسحاب إلى مدن الإقامة أو لممارسة أنشطتها التجارية والاقتصادية الخاصة : رحمة بورقية “نحو سوسيولوجيا الجامعة”: مواقف، قضايا المجتمع المغربي في محك التحول ، جامعة الحسن الثاني – المحمدية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط 1، 2004، ص 128.

15 وهي نتاج لمجموعة من الملاحظات البحثية ضمنّا بعضها في مقال لنا حول الجامعة، أنظر مقالنا: ملاحظات أولية حول الجامعة بالمغرب”: واقع البحث العلمي في الجامعة المغربية، جامعة شعيب الدكالي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 16، ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2013.

16 قانون (Greshams)، هو قانون علمي اقتصادي مشهور، كان له دوره في النظم النقدية عرف باسم صاحبه “السير توماس جريشام” مستشار ملكة إنكلترا. وتفيد العبارة المشهورة “النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق”، أن الرديء يطرد الجيد من التداول بين الناس، فقد لاحظ جريشام هذه الظاهرة في إنكلترا لأنه كلما ضربت نقود جديدة لتحل محل نقود قديمة تختفي الجديدة من التداول.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *