الفتح الإسلامي للمغرب الأقصى: حقائق التاريخ.

* امحمد جبرون.
على هامش النقاش الدائر حول المسلسل التلفزيوني “فتح الأندلس”، ننشر هنا هذا النص المقتبس من كتاب “تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال” (الصادر عن منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، ط. 1/ 2019، ص. 39-45) الذي يضع بين أيدي القراء أهم الحقائق التاريخية المتعلقة بهذا الحدث، بما في ذلك شخصية طارق بن زياد.
*
 استعاد الأمازيغ والروم بالمغرب الأدنى (تونس والجزائر) المبادرة العسكرية بعد نجاح كسيلة في قتل قائد الفتح عقبة بن نافع سنة 63هـ، واستطاعوا في هذا السياق انتزاع القيروان من أيدي المسلمين، وتراجع من بقي بها من العرب بقيادة زهير بن قيس أمير إفريقية من قبل عقبة نحو الشرق. وقد تزامن هذا الانكسار مع وفاة الخليفة يزيد بن معاوية، وانشقاق الدولة الإسلامية في المشرق وانقسامها بين خليفتين عبد الله ابن الزبير (ت. 73هـ) بمكة ومروان بن الحكم (ت.65هـ) بالشام، ولم يعرف المغرب في زمان هذين الرجلين حدثًا ذا قيمة.
وبعد وفاة مروان بن الحكم وتولي ابنه عبد الملك بن مروان أمرَ الخلافة سنة 65هـ، تحركت من جديد إرادة الفتح، وأمر الخليفة زهير بن قيس البلوي بالتحرك من ملجئه ببرقة نحو إفريقية، والعمل على استرجاعها من يد الروم والأمازيغ، وأمده بالخيل والرجال والأموال. وقد نجح زهير بعد جهد جهيد في الانتصار على كسيلة وقتله، ولاحق ما تبقى من جيشه في أنحاء المغرب الأوسط إلى أن وصل بحسب بعض الروايات إلى مشارف ملوية، وذلك على الأرجح في أواخر العقد السابع للهجرة.
لكن زهير بالرغم من نجاحه في قتل كسيلة وتشتيته لجيشه، فإنه لم ينجح في تأمين الوجود الإسلامي بإفريقية، فقد انتهز الروم فرصة غياب زهير عن القيروان وابتعاده طلبًا لما تبقى من جيش كسيلة، وهاجموا حامية القيروان، وألحقوا بها هزيمة قاسية، وأغاروا على إفريقية في رواية، وفي رواية أخرى أغاروا على برقة، فأصابوا سبيًا كثيرًا، وقتلوا ونهبوا. وبالرغم من اختلاف الروايتين فإن المؤكد أن المسلمين بالمغرب تلقوا ضربة قاسية أخرى بعد ضربة عقبة، واضطروا إلى التراجع إلى برقة مجددًا.
غير أن هذه الانتكاسات المتكررة للمسلمين في الجبهة الغربية لم تنل من عزيمة الخليفة، ولم تغير من استراتيجيته العسكرية، فبعد مدة قليلة من هزيمة زهير عُيِّن حسّان بن النُّعمان واليًا على المغرب، وذلك مع بداية العقد الثامن في تاريخ غير محقق. وقد خاض حسّان في هذه الجولة من الفتح حروبًا قاسية ضد الأمازيغ والروم، استطاع خلالها فتح قرطاجَنَّة، وقَتَل الكاهنة أميرة الأمازيغ التي أخذت زمام المبادرة بعد مقتل كسيلة، وشتت جمعها بمساعدة المجموعات العسكرية التي أرسلها الخليفة عونًا له. وكانت الكاهنة قد انتصرت على حسّان في لقائها الأول به، وسَبَت بعضًا من قادة جيشه.
لقد نجح حسّان بن النّعمان بالرغم من الصعوبات التي واجهته في تأمين الوجود الإسلامي في إفريقية وما جاورها غربًا إلى حدود المغرب الأقصى، وكسر شوكة الأمازيغ والروم بصورة نهائية، وذلك ليس بسبب قوته العسكرية وتفوقه على الكاهنة وفتحه قرطاجنة.. إلخ، بل بسبب الاستراتيجية العسكرية الجديدة التي اعتمدها، التي تختلف في كثير من الجوانب عن استراتيجيات سابقيه؛ فقد عمل حسّان من جهة على استيعاب الأمازيغ في جيشه واستخدام سياسة اللين معهم، حيث ولى بعضهم قيادة الجيش كما هو الحال مع ولدي الكاهنة، وعمل من جهة ثانية على أخذ الرهائن من قبائل الأمازيغ والمستأمنين منهم، وشكل من هؤلاء جيشًا قويًّا ستكون له آثار جليلة في الفتح.
ومن ناحية أخرى، وبالتزامن مع هذه الإجراءات الاستيعابية للأمازيغ عمل حسَّان على تدوين دواوين إفريقية، وفرض الخراج على من لم يسلم.. إلخ. وقد كانت هذه الخطوات مقدمة أساسية لتثبيت الإسلام في المغرب الأقصى وفتحه فتحًا تامًّا ونهائيًّا.
عُزل حسّان بن النّعمان عن ولاية إفريقية والمغرب في بداية العقد العاشر من المئة الأولى، وتولى بدلًا منه موسى بن نصير (ت. 97هـ). ولا نعلم على وجه اليقين من كان وراء هذا القرار، فبعض الروايات ترد القرار إلى والي مصر عبد العزيز بن مروان أخ الخليفة، وفي حياته دون أمر الخليفة أو مشورته، بمعنى أن عزل حسّان كان في عهد عبد الملك، بينما روايات أخرى ترجع القرار إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك (86هـ – 96هـ)، وأنه هو من كان وراء عزل حسّان من ولاية إفريقية وتعيين موسى بدلًا منه. ومهما يكن حجم التعارض والتضارب بين هذه الروايات فإن الراجح أن ولاية موسى بن نصير على المغرب بدأت في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، وبتكليف من عبد العزيز بن مروان صاحب ولاية مصر، وذلك في حدود 79هـ، ثم جددت في عهد خلفه الوليد بن عبد الملك، وستستمر ولاية موسى بن نصير على إفريقية والمغرب في عهد الوليد بن عبد الملك، وهو ما مكنه من استكمال ما بدأه حسّان بن النّعمان وتوطين الإسلام نهائيًّا بالمغرب الأقصى.
ينسب أبو عبد الرحمن موسى بن نصير إلى قبيلة لخم العربية بالولاء، وهو من التابعين، وله رواية عن الصحابي تميم الداري، مشهود له بالشجاعة والورع. وكان والده نُصير على ما يذكر بعض المترجمين على حرس معاوية بن أبي سفيان، وذكر آخرون أن جده زيد كان من صحابة رسول الله.
وصل موسى بن نصير إلى مقر ولايته بإفريقية واستأنف الفتح في نواحيها، ولما كان سلفه قد قضى على كل نزعات التمرد والردّة في المغرب الأدنى (تونس) وما جاورها غربًا، فقد قرر التوغل في الغرب ودخول المغرب الأقصى، وكانت أولى فتوحه بهذه البلاد قلعة سقوما أو سجومة، بعد مواجهة قاسية مع أهلها الأمازيغ، حيث كان لهم النصر على جيش موسى في الجولة الأولى، ولم ينجح المسلمون في التخلص من الهزيمة إلا بعد ما تسوَّر عليهم عياض بن عقبة قلعتهم من خلفهم، فانهزموا وقُتل ملكهم.
وتقع سجومة بحسب البكري على مقربة من مدينة فاس، بينما يجعلها آخرون على مقربة من ملوية. ومهما يكن الاختلاف في تحديد موقعها، فإن الثابت أنها من أمصار شمال المغرب الأقصى، ولعلها حصن قبيلة أوربة الأمازيغية، التي ينسب إليها كسيلة، وهو ما يفسر العنف والصرامة التي عوملت به، فقد أطلق موسى بن نصير أيادي أبناء عقبة بن نافع الذين كانوا معه في جيشه في أهل هذه القبيلة، وقتلوا منهم نحو ستمئة رجل من كبارهم، قبل أن يأمرهم بالكف عنهم، وسبوا نساء هذه القبيلة وفي مقدمتهم بنات كسيلة وبنات ملوكهم.
ثم بعد سجومة فتح موسى قبائل هوارة وزناتة وكتامة..، فقتل من قتل، وسبى من سبى، وسالم من سالم، ودخل الجميع في طاعته. وفي هذه الظروف قدِم إليه أعيان كتامة مستأمنين، فأمَّنهم وولّى عليهم رجلًا منهم، وأخذ منهم رهائن من خيارهم جرًيا على سنة حسّان بن النّعمان قبله. ويُروى أن الذي تولى هذه المهمة هو أحد قادته وهو زُرعة بن أبي مدرك، الذي قصد قبائل كتامة وزناتة وهوارة – وهي للإشارة قبائل ممتدة خارج المغرب الأقصى – فصالحها وأخذ رهائنها. ثم أرسل موسى بعد ذلك ابنه مروان إلى سوس الأقصى، وجدد فتح هذه البلاد الذي سبق إليها عقبة بن نافع.
وقد شكل موسى بن نصير من رهائن الأمازيغ القدامى (في عهد حسّان) والجدد – الذين كانوا يُعَدُّون بالآلاف – جيشًا قويًّا، وأسند قيادته إلى مولاه طارق بن زياد، إضافة أيضًا إلى ولاية طنجة. ومما تميز به موسى عن غيره حرصه على تعليم الأمازيغ القرآن ودعوتهم إلى الإسلام. وقد ذكر ابن خلدون أن موسى أَمَر الجند العرب الذين كانوا تحت قيادة مولاه طارق وقوامهم سبعة وعشرون ألفًا بتعليم الأمازيغ القرآن والفقه، بينما قلل إخباريون آخرون من هذا العدد، وذكروا أن موسى أسند مهمة دعوة الأمازيغ وتعليمهم إلى سبعة عشر رجلًا من العرب، وهو عدد في نظرنا قليل ودون الحاجة، ولا يستطيع أداء الرسالة كما ينبغي. ولعل ما جاء عند ابن خلدون أصح. لقد كان لهذا الجيش المختلط (عربي – أمازيغي) بقيادة طارق بن زياد آثار عظيمة في عدد من الوقائع العسكرية، خاصة في فتح الأندلس، وكان اجتماعه في عمالة طنجة في القسم الشمالي الغربي من المغرب الأقصى حاليًا.
وعمومًا، فقد نجح موسى بن نصير في ترسيخ قَدَم الإسلام في المغرب الأقصى، وأتم المهمة التي بدأها قبله عقبة بن نافع، فأسلم المغاربة «وحولوا المساجد التي كان بناها المشركون إلى القبلة، وجعلوا المنابر في مساجد الجماعات. وفيها صنع مسجد أغمات هيلانة». وكان ذلك على الأرجح قريبًا من سنة 90هـ في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك. ومنذ هذا التاريخ لم تكن في المغرب الأقصى ردّة، إلا ما كان من أمر برغواطة، الذين اختلف الدارسون في حقيقة مذهبهم، هل هو ردّة تامة عن الإسلام أم تأويل جديد للإسلام يناسب ثقافة القوم. وإن ما ذكره ابن أبي زيد القيرواني (ت. 386هـ) وكرره وراءه عدد من المؤرخين وعلى رأسهم ابن خلدون من أن البربر ارتدوا اثنتي عشرة مرة قبل أن يسلموا، أمر مشكوك فيه، ولا أدلة عليه من الناحية التاريخية، ولعل عبارة ابن أبي زيد – كما أشار إلى ذلك العروي – عبارة خطابية. 
 وجدير بالذكر في هذا السياق أن الفتح الإسلامي للمغرب، ودخول المغاربة في الإسلام في هذا الزمن المبكر، لم يكن تحققًا من الإسلام في جميع أبعاده عقيدة وعبادات وشرائع، بل كان في الأساس قبولًا مبدئيًّا بالدين الجديد وعقيدته التوحيدية. وفي المقابل بقيت سائر الالتزامات الأخلاقية والتشريعية التي يقتضيها هذا الدين مجهولة لدى معظم المسلمين الجدد من الأمازيغ والروم، واستمر كثير منهم على عاداته وأعرافه المناقضة أحيانًا للإسلام مدة طويلة من الزمن، ولا يؤدون الفرائض الإسلامية سوى في حدود ضيقة جدًّا. فعلى سبيل المثال كانت عادة شرب الخمر وتعاطيها متفشية بين مسلمي إفريقية (تونس) إلى خلافة عمر بن عبد العزيز (99هـ – 101هـ)، حيث أرسل مجموعة من التابعين دعاة للإسلام ومحرمين لأم الخبائث نحو 100هـ. يقول ابن عذاري في هذا المعنى: «وكانت الخمر بإفريقية حلالًا، حتى وصل هؤلاء التابعون فبينوا تحريمها». ومعلوم أن إفريقية تم فتحها في النصف الأول من القرن الأول الهجري، وكانت قاعدة الوجود الإسلامي في الغرب، ومن ثم، فطبيعي جدًّا والحالة هاته أن تستمر في المغرب الأقصى عادة شرب الخمر وغيرها مما خالف شريعة الإسلام إلى وقت متأخر، بسبب تأخر الفتح وقلة الدعاة.
ويرجع نجاح موسى بن نصير في ضم المغرب الأقصى نهائيًّا إلى نفوذ الدولة الأموية إلى سياسته الحكيمة والذكية في معاملة الأمازيغ، والتي تعدّ من أحد الوجوه استمرارًا لسياسة حسّان بن النّعمان، التي تجمع بين اللين والشدّة؛ فهو من جهة قاتل بعنف القبائل التي عارضت الفتح ونكل بها، ومن جهة ثانية سالم من سالمه من الأمازيغ، وحرص على أخذ الرهائن من المستأمنين منهم، وكون منهم جيشًا قويًّا. كما ولى على من سالمه رجالًا منهم، وجعل بعضًا منهم على الجيش. ولعل أظهر الأمثلة في هذا الباب تولية طارق بن زياد النفزي الذي هو على الأرجح من سبي الأمازيغ، وكان مولى موسى بن نصير على ولاية طنجة، كما جعله على الجيش الذي سيفتح الأندلس فيما بعد. غير أن أهم قرار اتخذه موسى في هذا السياق هو الدفع بالأمازيغ إلى جانب العرب نحو الأندلس والاستعانة بهم في فتحها، حيث كان لهم دور فعال وحاسم في القضاء على سلطان القوط بالأندلس وإلحاق الهزيمة بهم[1]. ======================
[1] إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج. 1، ص. 81.

امحمد جبرون
كاتب وجامعي مغربي.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *