عوائق النهضة.. وقفة مع عقدة الدونية والقابلية للاستعمار

د. بدران بن لحسن.
منقول عن موقع: الصفوة للدراسات الحضارية.

من بين أهم عوائق النهضة، تلك الهزيمة النفسيّة التي تسكن كثيرًا من صنّاع القرار وقادة المجتمع والفكر في بلداننا الإسلاميّة، أو ما يسميها ابن خلدون بـ”ولع المغلوب بتقليد الغالب”، وهو ما سمّاه مالك بن نبي بـ “القابلية للاستعمار”.
ما كان للاستعمار أن يعمّر طويلًا في العالم الإسلامي، لو لم يجد الأرضيّة مهيأة لبقائه، من خلال ذلك الاستسلام التام، بل والوقوف إلى جانبه من طرف البعض، وتبنّي أطروحاته، والدفاع عنها من طرف البعض الآخر، ولولا تلك الحالة النفسيّة السلبيّة المتمثّلة في الرضا بالعدو، والاستسلام للهوان، والعجز عن مواجهة تحدّيات الواقع ومشكلاته.
وإذا أردنا أن نتجاوز هذا العائق، فما علينا إلا فهمه وفهم الآليّات التي يشتغل بها، ويثبت بها الهزيمة، ولعلّ ما ذكره ابن خلدون، ومالك بن نبي، وجودت سعيد، وعلي شريعتي، وعلي عزة بيغوفيتش، ومحمد إقبال، وعبد الوهاب المسيري، وغيرهم من مفكّري المسلمين جديرٌ، بأن ندرسه ونستخلص منه ترياق هذا المرض العضال، الذي جعل الاستعمار يتحكّم في مفاصل حياتنا ومصيرنا، حتى بعد خروجه العسكريّ والسياسيّ، ولكن استمرّ تأثيره النفسيّ والفكريّ، وتصاعد الولاء له بطريقة تكاد تكون خدمة للاستعمار إيمانًا به واحتسابًا لرضاه.
الرؤية الخلدونية في ولع المغلوب بتقليد الغالب:
في الفصل الثالث والعشرين من الباب الثاني من مقدمة ابن خلدون الشهيرة، والذي يحمل عنوان “في أنّ المغلوب مُولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزِيِّه ونِحلَته وسائر أحواله وعوائده” يفسّر لنا لماذا يسارع المغلوب إلى تقليد الغالب إلى حدّ الولَع، في شعاراتِه ورُموزِه وأيديولوجيّته وعاداته وأوضاعه المعيشيّة، ويُرجِعُه إلى تصوُّر المغلوبِ أنّ الغالب وَصَلَ حَدَّ الكمال، “والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدًا تعتقد الكمال في مَن غَلَبَها وانقادت إليه؛ إمّا لنظره بالكمال بما وَقَرَ عندها من تعظيمه، أو لما تغالِط به من أنّ انقيادها ليس لغَلَبٍ طبيعيّ، إنّما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادًا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه -والله أعلم- من أنّ غَلَب الغالب لها ليس بعصبيّة ولا قوّة بأس؛ وإنّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب، تُغالِط أيضًا بذلك عن الغَلَبِ، وهذا راجع للأوّل، ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله”[1].
فهي هزيمة نفسية، توصل الإنسان المغلوب إلى تقديس الغالب، واعتقاد أن غلبته إنما هي لأسباب تتجاوز التاريخ، وتعلو على الفهم، كأنها أمر مقدّس أو موروث أبدًا. ولعلنا لو تأمّلنا واقعنا لوجدنا كثيرًا من مثقّفينا وقادتنا وصنّاع القرار فينا يتعاملون مع الغرب والشرق تعامُل المستسلِم المعتَقِد الكمالَ فيهم، يذهب إلى تقليدهم تقليدًا مَرَضِيًّا في كل شيءٍ، ولا يقفُ من الغالب موقف المتعلّم الساعي إلى التجاوز. وتجد مثقّفينا ومفكّرينا يستشكلون كما يستشكل غيرهم، ويجيبون كما يجيب غيرهم، في تقليد بليد واعتقاد أنّ خصوصيّة المستعمر عالميّة تقتضي الاقتداء المُطلَق.
وهذه الفكرة الخلدونيّة العميقة، أحياها الأستاذ مالك بن نبي، وبسط الحديث فيها في كثير من كتبه، خاصة في كتابه (شروط النهضة)، حيث تناول العاملَين المانعَين لتحقيق النهضة: عامل الاستعمار وعامل القابلية للاستعمار.
بحثًا عن القابلية للاستعمار:
في هذا المقام نخصّص الحديث للثاني (القابلية للاستعمار) ونرجئ الثاني (الاستعمار) لمقال آخر، وعلى نفس الخط الخلدوني، يتناول بن نبي الفكرة من وجهة نظر علم النفس، ويعتبر القابلية للاستعمار عاملًا نفسيًّا داخليًّا مانعًا من النهضة، ولهذا فإنّ العالم الإسلامي عاجز عن تحقيق نهضته ما دام أفراده يتصفون بنوع من السلبية واللامبالاة إزاء مشكلات الواقع الذي خطّط له الاستعمار وفرضه عليهم، وحالة الرضا بالواقع المتدهور والأليم دون بذل الجهد لتغييره.
إن الهزيمة النفسيّة التي تعانيها طائفة من أفراد المجتمع الإسلامي دفعت بهم إلى السير في عكس الاتجاه الصحيح للتقدّم، وذلك من خلال الاستسلام والدفاع عن المشاريع الاستعماريّة وتأييدها، وإصدار الأحكام وفقًا لمقاييس الاستعمار[2].
إن القابليّة للاستعمار مرض داخلي يهيّئُ الاستجابة للعامل الخارجي المتمثّل في الاستعمار، ويقود إلى خضوع داخلي لعامل الاستعمار، ويرسّخ في وعي الناس استحالة التخلّص منه. وهذا المرض الداخلي هو حصيلة تراكمات تاريخيّة وأمراض اجتماعيّة ومآلات لمسارات خاضتها مجتمعاتنا، حتى قضت على فكرة “إثبات الذات” وسارت في طريق “محو الذات” وصَغارها ودونيّتها أمام المستعمر -كما يقول محمد إقبال-.
ولو توقفنا قليلاً في نماذج النهوض أو أطر التفكير فيه، فإننا سنجد أننا لم نعد نفكر في نموذج غير نموذج المستعمر الغربي، وإن فكرنا في غيره وقعنا في أسر نموذج الصين أو اليابان، مع الشعور بأننا لا نستطيع أن نستقل بمصيرنا ولا بناء نموذجنا، وصرنا خاضعين للمستعمر، وصارت أفكاره كامنة في ذواتنا، تعيش داخلنا وتكبر كلما كبرنا، وننفذ مطالبه، ونتخذ توجيهاته سلّمًا للصعود، ونمشي على طريقته دون أن نعي ذلك، أو ظنًّا منا بأننا نحاربه، ولا خلاص من هذا الداء إلا بقاعدة واحدة: “أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضك” كما يقول مالك بن نبي.
ويمكن لأي واحد منا أن يأخذ ورقة وقلما ويجد تطبيقات وحالات ووقائع كثيرة في بلداننا تثبت أننا مازلنا لم نتخلص من القابلية للاستعمار؛ في مجالات السياسة، والثقافة، والمعرفة، والاقتصاد، والرياضة، والسياحة، وكل مجالات حياتنا بلا استثناء، ومن أبرز مؤشراتها التبنّي الكامل لأفكار وسياسات وبرامج وقرارات ومصالح المستعمر دون السعي لنقدها أو تكييفها مع مبادئنا ومصالحنا.
___________
[1] تاريخ ابن خلدون، 1988، ج1، ص 184.
[2] معوّقات النهضة وطرق علاجها في فكر مالك بن نبي، محمد العاطف، رسالة ماجستير، ص: 45.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *