شتان بين البحث عن الحقيقة وبين العمل على طمسها

محمد إنفي
الحقيقة المقصودة، هنا، هي الحقيقة التاريخية الخاصة بالصحراء المغربية. وسوف نتناول هذا الموضوع من زاويتين متناقضتين تماما، كما يتبين ذلك من صيغة العنوان أعلاه. ولن نغوص في ردهات التاريخ ومنعرجاته، كما لن نخوض في تجليات الواقع الحي على الأرض، وإنما سنكتفي بتناول محتوى تسجيلين منشورين في اليوتيوب، ويسمحان بالتطرق إلى موضوع الحقيقة التاريخية للصحراء المغربية من الزاويتين المتناقضتين والمتعارضتين المشار إليهما.
التسجيل الأول بعنوان: “مذكرات الرئيس الموريتاني المختار ولد داده التي فضحت مزاجية هواري بومدين وخيانته للعهد مع الحسن الثاني. حقائق تاريخية أزعجت وكالة الأنباء الجزائرية!”. وهذا التسجيل، هو للإعلامي والمحلل الجزائري المعروف داخل المغرب وخارجه، الأستاذ وليد كبير. أما التسجيل الثاني، فهو يحمل العنوان المغرض التالي: “ضابط مخابرات مغربي يكشف المستور. اعترافات خطيرة في ملف الصحراء”.
لا يحتاج المرء إلى ذكاء لإدراك الهدف الخبيث لصاحب هذا التسجيل ومن يقف وراءه؛ وهو يناقض تماما تسجيل وليد كبير. فبقدر ما اجتهد هذا الأخير للوقوف على حقيقة الصراع المفتعل في أقاليمنا الجنوبية اعتمادا على مذكرات شاهد وفاعل أساسي عاش وعايش تفاصيل الأحداث مع فاعلين رئيسيين (الملك الحسن الثاني والهواري بومدين)، بقدر ما عمل صاحب التسجيل الثاني على تزييف الوقائع بهدف طمس الحقيقة وإقبارها؛ وذلك، اعتمادا على مصدر (عميل مخابرات سابق) يصعب الوثوق فيه.
وهذا التسجيل، هو لقناة تحمل اسم “فسحة”؛ واسم صاحب هذه القناة غير معروف؛ وهذا كاف للحكم عليه، من جهة بالجبن وضعف الشخصية والحجة؛ ومن جهة أخرى، للتأكد من أنه مرتزق مغربي باع نفسه وذمته لأعداء الوطن، كما فعل قبله بعض الأشخاص الذين زعموا أنهم يعارضون النظام، إما لاستجداء الإقامة باسم اللجوء السياسي في إحدى الدول الأوروبية، وإما لعرض خدماتهم على النظام الجزائري لتوظيفهم ضد وطنهم.
وما يؤكد هذه الحقيقة (حقيقة الارتزاق)، هو العثور على تسجيل آخر لثلاثة مغاربة، منهم صاحب القناة “فسحة” ومهاجر مغربي في كندا وآخر في إسبانيا؛ وكان كل منهما ينادي صاحب القناة بـ”الأخ فسحة”؛ مما يدل على تعمد عدم كشف اسم صاحب القناة. ويقدم لنا محتوى هذا التسجيل فكرة ضافية عن نوعية وطبيعة العلاقة التي تجمع بين الأشخاص الثلاثة، وكذا فكرة عن شخصية كل منهم. لقد أبانوا عن فيض في الوقاحة والدناءة والنذالة والبذاءة، وأعطوا الدليل القاطع عن انحطاطهم الأخلاقي الذي يبعدهم مسافات طويلة عن الهوية المغربية ويفقدهم صفة وميزة “تامغرابيت” التي تعتبر من النياشين التي يعتز بها كل مغربي مخلص لوطنه ومؤمن بتاريخه وقيمه وثقافته وحضارته.
إن ما يجمع بين الأشخاص الثلاثة، هو عمالتهم للخارج؛ وبالضبط للمخابرات الجزائرية، وربما الفرنسية أيضا التي يزعجها تعامل المغرب مع بلادهم بالندية؛ مما جعلها تحاول النيل من وضعه الاعتباري، تارة بترويج الإشاعات المغرضة، وتارة بتجنيد بعض الخونة ضعاف النفوس للتهجم على رمز الدولة المغربية؛ خصوصا وأن رغبة الرئيس الفرنسي في زيارة المغرب، والتي عبر عنها أكثر من مرة، لم تلق أي ترحيب أو تجاوب إلى حد الساعة؛ أو لنقل قوبلت بلا مبالاة؛ وذلك بسبب إصرار إيمانويل ماكرون على عدم الخروج من المنطقة الرمادية فيما يخص القضية الأولى للمغاربة، ربما إرضاء للطغمة العسكرية الحاكمة في الجزائر.
أما فيما يخص هذه الأخيرة، فقد نجح المغرب في وضع نظامها العسكري البغيض وواجهته المدنية الصورية في زاوية ضيقة بفعل الانتصارات الديبلوماسية الباهرة التي تحققت وتتوالى باستمرار على المستوى الإقليمي والجهوي والدولي بفضل التوجيهات الملكية السديدة. وقد نجحت الديبلوماسية المغربية في إبطال مفعول ديبلوماسية الشيكات والهبات التي تنهجها الجزائر. وهكذا، أصبحت تراكم الإخفاقات رغم ما تنفقه من أموال، وتتقاطر عليها الصفعات من كل حدب وصوب؛ مما جعل البلاد تواجه عزلة دولية حقيقية، والتي تتسع يوما عن يوم؛ وهذا ما يدفعهم إلى ادعاء القوة (القوة الضاربة، القوة الإقليمية، أقوى جيش في المطقة، الصوت المسموع للجزائر في الأمم المتحدة وفي غيرها…) للتنفيس عن أنفسهم ولتضليل شعبهم؛ ناهيك عن ثني هذا الأخير عن التفكير في الأوضاع الداخلية الصعبة التي تؤكد أن البلاد توجد على حافة الانهيار اقتصاديا واجتماعيا رغم ما تزخر به من ثروات طبيعية هائلة؛ بالإضافة إلى الانهيار الأخلاقي والحقوقي والثقافي والإعلامي والرياضي….
وبالرجوع إلى التسجيلين المشار إليهما في الفقرة الأولى، نسجل مفارقة لافتة تتمثل في كون الباحث عن الحقيقة التاريخية لمغربية الصحراء والمدافع عنها اعتمادا على الدلائل التاريخية الموثوقة والموثقة، هو جزائري المنشأ والانتماء والهوية. أما الباحث عن طمس هذه الحقيقة وتزييفها خدمة لأعداء الوطن، فهو مغربي الجنسية، إذا ما احتكمنا إلى لهجته المغربية الواضحة والخالصة.
لقد بحثت في اليوتيوب على الفيديو الذي اعتمد عليه صاحب القناة “فسحة” لتمرير مغالطاته حول ملف الصحراء المغربية، لعلني أتأكد مما إن كان هذا الفيديو حقيقيا أم مفبركا؛ لكني لم أعثر عليه. والفيديو المذكور منسوب إلى عميل المخابرات المغربية السابق، المدعو أحمد البخاري، الذي ارتبط اسمه بسنوات الجمر والرصاص البغيضة. وقد جزأ المدعو “الأخ فسحة” التسجيل المذكور إلى مقاطع يدعم بها أكاذيبه وافتراءاته على بلاده وتاريخها، معتبرا كلام البخاري لا يقبل الجدل ولا الشك، لكونه من المخابرات. وبهذا، فقد اختار المرتزق المذكور التنكر للتاريخ وللوثائق الدامغة التي تؤكد مغربية الصحراء، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، البيعة التي أكدتها محكمة العدل الدولية – والتي بناء عليها، قرر الملك الحسن الثاني تنظيم المسيرة الخضراء من أجل استرجاع الأراضي المغربية المستعمرة من طرف إسبانيا – وفضل المدعو “الأخ فسحة” كلام عميل المخابرات على الوثائق التاريخية، المشكوك في أمره وفي سلامة ذاكرته، حتى لا أقول شيئا آخر: لقد تابعت فيديو له يتحدث فيه عن هيئة الإنصاف والمصالحة، ولاحظت أنه يخلط بين التواريخ، ناهيك عن تحامله على بعض عناصر هذه الهيئة التي لعبت دورا أساسيا في كشف فضائع سنوات الجمر والرصاص والتعريف بها بهدف طي هذه الصفحة الأليمة لتنقية الأجواء أمام العهد الجديد.
خلاصة القول، هناك فرق كبير بين تناول موضوع الصحراء المغربية من طرف وليد كبير الذي اعتمد على مذكرات المختار ولد دادة، أول رئيس للجمهورية الإسلامية الموريتانية، وبين صاحب قناة “فسحة” الذي اعتمد على أقوال عميل مخابرات، يسهل التجريح فيه والشك في صدقه ونزاهته؛ هذا فضلا عن كونه غير مؤهل للخوض في بعض القضايا التي وردت في تسجيله.
مكناس في 2 يونيو 2023

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *