اليسار التونسي وسرديته الكبرى: نقد الاقتصاد الريعي ونقد نقده.

بقلم: أحمد نظيف
يعود عزيز كريشان في كتابه الجديد «اليسار وسرديته الكبرى: من أجل فهم الاقتصاد الريعي»،[1] إلى واحدة من أشهر المعارك النظرية داخل اليسار التونسي. لا بوصفه أحد قيادات اليسار الماركسي تاريخيًا وإنما باعتباره باحثًا، يحاول كريشان أن يستفيد من تجربته العملية داخل تنظيمات اليسار الثوري في سبعينيات القرن الماضي، في إجراء مراجعة نقدية للأسس النظرية لهذه التنظيمات، والتي أدت في النهاية -إلى جانب أسباب موضوعية أخرى- لما يعيشه اليسار من انحسار، ذلك أن «الثورة عندما كانت تطرق الباب شتاء 2011 ، كان حزب الثورة غائبًا». وما يحسب لكريشان (1947) أنه من بين قلة من قيادات اليسار الذين حافظوا على اهتمام لصيق بتحليل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كونه قد حصّل تكوينًا أكاديميًا في الاقتصاد السياسي، خلافًا لرفاقه الذين تفرقت بهم السبل نحو العمل الحقوقي والفني والسياسي الحزبي.
لكن كريشان بقدر ما يقوم بعملية نقد جذري وشامل للنظريات اليسارية المتصارعة حول طبيعة المجتمع وطبيعة النظام الاقتصادي القائم في البلاد، وطبيعة الثورة وبرنامجها، فإنه يحاول وضع تحليل جديد باعتباره التحليل الأكثر صحة ودقة، أو يمكن القول إنه يحاول تصحيح خطأ تاريخي، من خلال إضفاء الطبيعية الريعية على النظام الاقتصادي التونسي، عبر رسم مسار تاريخي لنشوء هذا النظام وتأثيراته على طبيعة التشكيلات الاجتماعية القائمة، ثم رسم برنامج «النضال الاجتماعي» ضده وضد السلطة السياسية التي تحميه.
«دع مائة زهرة تتفتح»: سبعينيات السرديات المتصارعة:
في القسم الأول من الكتاب يعود كريشان إلى الصراع النظري بين المجموعات اليسارية الثورية حول طبيعة المجتمع وطابع الثورة القادمة. في نهاية ستينيات القرن الماضي كان النظام التعاضدي القائم في البلاد (الاشتراكية الدستورية) يشارف على الهلاك، تحت تأثيرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها البلاد، بعد سنوات من تركيز نظام رأسمالية الدولة وهيمنة الدولة على السلطة والثروة على نحو احتكاري. بموازاة هذه الأزمة كانت القوى اليسارية الماركسية والقومية الاشتراكية قد توحدت قبل سنوات داخل تنظيم «تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس» المعروف اختصارًا بحركة «آفاق»، وكان التحليل اليساري السائد لنمط الإنتاج القائم في البلاد هو «رأسمالية احتكار الدولة»، اعتمادًا على كلاسيكيات الماركسية اللينينية، خاصةً لينين في دراسته حول الإمبريالية،[2] وبول بوكارا في دراسته حول رأسمالية «احتكار الدولة: أزمتها ونتائجها».[3] .
وكان هذا التحليل التقليدي المطمئن إلى وجود رأسمالية يقود مباشرة إلى أن الطبقات الاجتماعية الرئيسية هي الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة، وأن طبيعة الثورة المفترضة يجب أن تكون «ثورة اشتراكية» تقود إلى ديكتاتورية البروليتاريا. لكن نهاية النظام التعاضدي وإقالة قائده، أحمد بن صالح (1926-2020)، وسجنه بتهمة الخيانة العظمى في أيار 1970، طرح العديد من المشاكل حول مقولة «رأسمالية احتكار الدولة»، خاصةً بعد دخول البلاد في حالة من «الانفتاح» الاقتصادي، قادها الوزير الجديد هادي نويرة. فلم يعد التحليل السائد متماسكًا أمام التحولات السياسية والاقتصادية، فيما وجد التنظيم نفسه داخل المعتقل بعد هجمة قاسية من السلطة، وعند هذه اللحظة بدأت المراجعات النظرية تقرع أبواب حركة آفاق، مدفوعة ببروز مرجعيات نظرية جديدة في عالم الماركسية، بعضها قادم من الصين، وبعضها الآخر صادر عن مثقفين وباحثين ماركسيين غربيين مستقلين، أي لم تعد كلاسيكيات الماركسية الأساسية مرجعًا وحيدًا لتحديد طبيعة النظام وطبع الثورة وشكل التنظيم وبرنامجه. هذه الديناميكية الفكرية أدت إلى بروز «منظمة العامل التونسي» كامتداد تنظيمي لحركة آفاق لكن بثوب نظري جديد، تشقها ثلاثة اتجاهات رئيسية؛ الاتجاه القديم الذي يُقرّ بأن النظام السائد رأسمالي، واتجاه جديد متأثر بالطرح الماوي يعتبر النظام كمبرادوري، واتجاه ثالث ينادي بالماركسية اللينينية المناهضة للتحريفية وفقًا لأطروحات أنور خوجة، الأمين العام لحزب العمال الألباني، بعد القطيعة مع الصين عام 1972. وعلى هامش هذه الحركية داخل «العامل التونسي» بدأت مجموعات ماوية في التشكل تحت تأثيرات شيوع الماوية عالميًا بعد الثورة الثقافية في الصين، ثم أخذت هذه المجموعات المتشرذمة في الالتفاف حول جريدة سرية تسمى «الشعلة»، كانت تعبر عن صوت جديد ومغاير داخل خارطة اليسار الثوري التونسي، مدفوعة بالمد الماوي عالميًا ومقولاته السحرية، كون الصين في ذلك الوقت كانت ذات أوضاع شبيهة بما تعيشه الدول العربية. وكانت «الشعلة»، التي ما لبثت أن تحولت إلى منظمة سرية، تدافع عن «الطرح الوطني الديمقراطي» في مواجهة خصميها: اليسراوية التروتسكية والتحريفية.
وسط هذه الغابة من الطروحات، التي تناقش سرًا تحت الأرض في ظل حالة من القمع الذي أخذ أشكالًا غير مسبوقة من القسوة، برز إلى دنيا اليسار الثوري، وخاصةً داخل أسوار الجامعة التونسية، خطان ثوريان تقودهما «أطروحتان خاطئتان»، كما يسميهما عزيز كريشان، «لأن كلتاهما لا تتطابق مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، وهو ما يفسر دون شك استحالة تغلب الواحدة على الأخرى رغم مرور السنين، لأن الخطأ لا يمكن أن يصلح بالخطأ».[4] 
«تونس لم تكن اقطاعية أو شبه اقطاعية ولا رأسمالية، ولا هي هذه أو تلك تمامًا، لأنها تقع في منتصف الطريق بين هذين النظامين، إذ لا تزال تعيش مرحلة طويلة من الانتقال التاريخي».
تقول الأطروحة الأولى إن تونس «شبه إقطاعية، شبه مستعمرة»، ولا يناقش كريشان في نقد مسألة «شبه المستعمرة» مقرًا بأن البلاد كانت وما زالت تخضع -إلى حد ما- للهيمنة الخارجية من المركز الرأسمالي، ضمن حالة ارتهان وتبعية لا تحتاج إلى برهان. لكنه يوجه نقدًا جذريًا لمسألة «شبه الإقطاعية»، التي لم تكن يومًا نابعة من تحليل ملموس للواقع التونسي، بقدر ما كانت فكرة جاهزة مأخوذة مباشرةً من قاموس الثورة الصينية في بدايات القرن الماضي، وتحديدًا من نص لما تسي تونغ صادر في 1926 تحت عنوان «تحليل طبقات المجتمع الصيني»،[5] يحصر فيه ماو السمات شبه الإقطاعية للمجتمع في وجود طبقة مهيمنة من كبار ملاك الأراضي، وهيمنة القطاع الزراعي على باقي قطاعات الاقتصاد، وشيوع علاقات القنانة في الاقتصاد الريفي. ويخلص ماو إلى أن الطبقتين المتقابلتين هما طبقة كبار ملاك الأراضي في مواجهة طبقة الفلاحين. في المقابل، لم يكن الوضع السائد في تونس في ذلك الوقت، ولا في غيره من الأوقات اللاحقة، متطابقًا مع أوضاع الصين، حيث شهدت طبقة الفلاحين تقلصًا في تعدادها الديموغرافي، من حوالي 60% عام 1956 إلى حوالي 30% عند نهاية السبعينيات، ولم يكن لطبقة كبار ملاك الأراضي أي وجود فعلي، ذلك أن الدولة، ومن خلال وضع عملية تأميم أراضي المستعمرين الفرنسيين، أصبحت بدايةً من الستينيات، المالك الأكبر للأرض، وكذلك لم تكن علاقات القنانة شائعة على ذلك النحو الكبير كما هو الحال في الصين عند بداية القرن العشرين. انطلاقًا من هذه المقارنة، ينسف كريشان هذه «النظرية المستوردة والجاهزة» لتحليل طبيعة المجتمع والنظام الاقتصادي القائم، معيدًا إياها إلى النخبوية التي هيمنت على قطاع واسع من قيادات اليسار في ذلك الوقت، وتمركزهم في المدن دون معرفة جيدة بالتغييرات الحاصلة في الريف، حيث جرت عملية تفكك الاقتصاد والمجتمع الإقطاعيين بعد الاستقلال السياسي على نحو شديد السرعة.
أما الأطروحة الثانية فتذهب إلى أن تونس «رأسمالية تابعة»، وهي الأخرى ليست نابعة من محاولة بحث وتحليل ميداني وفقًا للوضع المحلي السائد، بل أطروحة مأخوذة كما هي من مفكري مدرسة التبعية، التي ظهرت منتصف ستينيات القرن العشرين، وحاولت تحليل آليات اشتغال النظام الرأسمالي العالمي وتأثيراته على الدول النامية أو تلك التي في طور النمو، بعد موجة الاستقلالات السياسية وانحسار نموذج الاستعمار القديم. وكان من رواد هذه المدرسة المفكر المصري الراحل سمير أمين، وجيوفاني أريغي،[6] وإيمانويل وولرستين، وأندريه جوندر فرانك. وتعتقد هذه المدرسة أنه من العبث البحث في طبيعة النظام الاقتصادي القائم في كل بلد بشكل مستقل، حيث إن العالم بأسره خاضع للنظام الرأسمالي، ولذلك يجب تحليل طبيعته كوحدة مترابطة، وعلى هذا الأساس تم تقسيم دول العالم إلى مركز رأسمالي وأطراف تابعة.[7] وقد تبنى جزء من منظمة العامل التونسي هذا الخط في التحليل ليظهر لاحقًا بشكل أكثر قوةً ووضوحًا مع حزب العمال الشيوعي التونسي، بدايةً من منتصف الثمانينيات. لكن عزيز كريشان يرى أن هذه الأطروحة، ورغم جاذبيتها النظرية، فإنها هي الأخرى أحادية الجانب، ولا تقل تضليلًا عن الأطروحة المنافسة، ثم يشرع في سرد حجاجي لنقد مدى «رأسمالية» النظام القائم، مشيرًا إلى أن القول بالرأسمالية يتطلب ضرورةً وجود طبقة عاملة لها الوزن الأكبر مقارنة ببقية الفئات المأجورة في البلاد، لكن ذلك لا يتحقق أبدًا، حيث لم يتجاوز معدل التوظيف العمالي إلى حدود منتصف الثمانينيات نسبة 15% من إجمالي العمالة الكلية. ثم يذهب كريشان إلى اعتبار أن الخلل الأكثر وضوحًا في هذه الأطروحة هو التعريف الذي تطلقه على الطبيعة الطبقية للسلطة، حيث من الضروري في أي نظام رأسمالي أن تكون السلطة ذات طبيعة طبقية برجوازية، وعلى خلاف ذلك كانت سياسة الطبقة الحاكمة التونسية دائمًا ضد تحرير مجال الأعمال، وكان لديها هوس بالسيطرة على المجال الاقتصادي في إطار سياسة عامة للسيطرة على المجال العام في ظل حكم الحزب الواحد، لذلك كان طبيعتها الطبقية أقرب إلى البيروقراطية منها إلى البرجوازية.
فوق هذا الركام المعرفي من النظريات المتصارعة، يحاول عزيز كريشان بناء نظرية جديدة في الحيز الفاصل بينهما. مشيرًا إلى أن «تونس لم تكن اقطاعية أو شبه اقطاعية ولا رأسمالية، ولا هي هذه أو تلك تمامًا، فلأنها تقع في منتصف الطريق بين هذين النظامين، إذ لا تزال تعيش مرحلة طويلة من الانتقال التاريخي. من الناحية المثالية، يفترض أن يؤدي هذا الانتقال من النظام الإقطاعي القديم إلى النظام الرأسمالي الجديد، إلا أن عمليات اللحاق بالركب ليست خطيةً ولا تصاعدية، بل تبدو وكأنها معطلةً وتدور حول نفسها لكثرة ما يشقها من توترات متضاربة». لكن كريشان يحاول أيضًا بعد هذا النقد اللاذع، أن يلتمس الأعذار ليسار عاش سنوات تحت الأرض ملاحقًا، وسنوات في السجون تحت التعذيب، وسنوات من المنفى والشتات. يسارٌ ما لبث أن اشتد عوده حتى هبّت رياح الأزمة العالمية على الماركسية، والتي انتهت بسقوط جدار برلين وأفول الاتحاد السوفيتي ودخول الفكر الاشتراكي في حالة من العزلة والتيه، تجلت في حالات ردة إيديولوجية واسعة بين مناضلي ومثقفي اليسار، أو حالات تشتت نحو آفاق العمل الحقوقي والثقافي ذات النفس التقدمي بعيدًا عن الهم السياسي، أو حالات انكفاء على الذات.
مسار نشأة الأوليغارشية الريعية وتمكينها:
في القسم الثاني من الكتاب، يسعى عزيز كريشان إلى طرح التصحيح التاريخي لتحليل طبيعة النظام الاقتصادي القائم في تونس من خلال أطروحة «النظام الريعي»، لكنه يستبق أي نقد حول مصطلح «الريع» بالإشارة إلى أن مفهوم الريع الذي يقصده في هذه الأطروحة هو «الريع السياسي» وليس «الريع الطبيعي» كما هو سائد في معاجم الاقتصاد السياسي، والمتعلق أساسًا بالتراكم من خلال الموارد الطبيعية كالأرض والموارد الطاقية والمعادن، أو من خلال الملكيات الفكرية. فالنظام الريعي في تونس -كما يراه كريشان- «لا يستند إلى ملكية مادية بل يقوم على منطق مغاير جذريًا، حيث يستند إلى مورد سياسي، لا غير، بمعنى القرب من السلطة السياسية ودرجة الولاء إلى الحاكم». ثم يضع لمسار نشوء هذا النظام تحقيبًا يمتد على ثلاث مراحل تاريخية. تبدأ المرحلة الأولى من بداية السبعينيات مع حكومة هادي نويرة إلى حدود 1986، وخلال هذه المرحلة وضعت الأسس الأولى لتشكل هذا النظام من خلال تغييرات جذرية طالت القوانين والتشريعات الاقتصادية. ثم مرحلة ثانية بين الأعوام 1987 و2010، تميزت بهمينة النظام السياسي على إدارة اللعبة، مقابل تشكل طغمة أوليغارشية تستمد نفوذها من علاقتها بالنظام. والمرحلة الثالثة بدأت بعد انتفاضة 2011، ويسميها مرحلة التوسع، وخلالها تخلصت الأوليغارشية الريعية من تبعيتها للسلطة، بل أصبحت تشرف عليها وترعاها.
ويضع كريشان هذا النظام الريعي في درجة أقرب للنظام ما قبل الرأسمالي، رغم أنه يؤكد على أن الأوليغارشية الريعية شديدة الارتباط بالرأسمال الخارجي، وذات طبيعة مؤبدة لحالة التبعية التي تعيشها البلاد منذ عقود، مُطلقًا عليها صفة «الكمبرادور الجديد»، خاصةً بعد أن تحولت من مجرد طبقة تابعة للنظام السياسي ومستفيدة منه إلى طبقة حاكمة بعد عام 2011، أي أنها أصبحت ضمنيًا تسيطر على السلطة والثروة معًا.
من خلال هذا التحليل التاريخي لمسار نشوء الأوليغارشية الريعية في تونس، ينتهي كريشان إلى ملاحظة أن معظم الذين أصبحوا فاعلين في القطاع الخاص بعد الانفتاح خلال السبعينيات، كانوا سابقًا قادة للتعاضديات خلال الفترة الاشتراكية، فقد استفاد هؤلاء من احتكار المنتجات التي يصنعونها، وتاليًا استفادوا من وجودهم المنفرد في السوق المحلي، حتى إنهم نجحوا في تسويق بعض المنتجات بتكلفة أعلى بـ30% من المنتجات المستوردة المماثلة. وخلال هذا المسار من الاحتكارية والفوائض التي تحققها، أصبح آخر همّ هؤلاء مسألة الإنتاجية أو الكفاءة الاقتصادية أو الابتكار. فالشيء الوحيد الذي كان مصدر اهتمامهم هو توطيد علاقاتهم بالسلطة السياسية، وهي المتحكم الرئيسي في اللعبة. فقد كان الولاء للسلطة يجسد المفتاح الحقيقي لثرائهم. لذلك، فقد تشكلت أوليغارشية من أصحاب الفوائض، ولكنها غير قادرة على تنمية الاقتصاد الوطني. وكانت انتفاضة 2011 الدليل الأكبر على ذلك، بعد فشل هذه التشكيلة الأوليغارشية، رغم ما تملكه من رساميل، في استيعاب فائض اليد العاملة عالية التدريب، التي خلقها تطور مسار التعليم الجامعي والمهني.
هل الاقتصاد التونسي ريعي؟
عملًا بمنهج عزيز كريشان نفسه في نقد ومساءلة أطروحات تحليل النظام الاقتصادي القائم في تونس، يبدو من البديهي السؤال: هل النظام السائد في تونس ريعي؟
دون العودة إلى التحليل المعجمي لمصطلح «الريع»، والذي حاول كريشان استباق أي نقد له من هذا الباب، يبدو القول بريعية الاقتصاد التونسي اليوم، وقبل اليوم، منذ بداية السبعينيات، غير دقيق، أو واقع في حيز من سوء التفاهم أو الفهم. حيث لابد من الإشارة إلى أن عزيز كريشان نفسه كان قد وصف هذا النظام في كتابه «متلازمة بورقيبة» (1993) بأنه «نظام زبائني»، ورغم أن الوصف يطال ممارسة النظام لا جوهره، إلا أنه يبدو لي -على الأقل- أدقّ في تشخيص طبيعة النظام، حيث إن «الزبائنية» هي أحد الأشكال الثلاثة لنظام «رأسمالية المحاسيب»، الذي يبدو لي التوصيف الأكثر دقة في تحديث طبيعة النظام الاقتصادي التونسي منذ العام 1971 حتى اليوم. حيث يعتمد النجاح في الأعمال التجارية والاقتصادية على العلاقات الوثيقة مع المسؤولين الحكوميين، من خلال تخصيص التصاريح القانونية أو الإعانات الحكومية، أو التخفيضات الضريبية، أو غير ذلك من أشكال التدخل، ويقوم هذا النظام على محسوبية قرابية (عائلية)[8] أو أيديولوجية (حزبية) أو زبائنية (مصالح متبادلة بين الفاعل الاقتصادي والبيروقراطي في الدولة).
يقدّم كريشان، في هذا الكتاب، عملية نقد جذري وشامل للنظريات اليسارية المتصارعة حول طبيعة المجتمع وطبيعة النظام الاقتصادي القائم في البلاد، وطبيعة الثورة وبرنامجها.

تحت تأثير هائل من المجتمع المدني -الممول خارجيًا- تسود في تونس اليوم مقولات وصف الاقتصاد السائد بالريعية، وذلك ليس بهدف نقد جوهر لاعدالة هذا النظام تجاه الطبقات ذات العمل المأجور أو صغار الكسبة، بقدر ما هو نقد موجه لبنية لاعدالة هذا النظام تجاه أجنحة مهمشة داخل الطبقة البرجوازية نفسها. أي أن هذا النقد موجه أساسًا لإغلاق المجال الاقتصادي على شرائح أقلية في حالة من حالات الاحتكار شديدة الشيوع داخل أي بنية رأسمالية، ذلك أن كلّ النقد الموجه للنظام القائم مدخله الأساسي غياب التنافسية وتركز النشاط في أقلية يسميها كريشان «أوليغارشية ريعية»، وهذه الأوليغارشية كانت تستمد هذه الامتيازات الاحتكارية من علاقتها بالسلطة السياسية منذ بداية السبعينيات حتى عام 2010، ثم من سيطرتها المباشرة على السلطة عبر تمويل الأحزاب السائدة، وتقوم بعملية إعادة إنتاج اجتماعي من خلال طبيعتها العائلية، عبر توريث هذه الامتيازات. وبشكل ضمني يدافع كريشان عن ضرورة كسر هذا الاحتكار، الذي يسميه «ريعية سياسية»، وفتح المجال للتنافس على أساس رأسمالي تنافسي، بعيدًا عن أي تأثير للسلطة السياسية.
لكن هذه الأطروحة -التي تملك جانبًا كبيرًا من الوجاهة والصحة- هي في الأساس إحدى أطروحات النقد الذاتي داخل مسارات التفكير الرأسمالي، أي أنها جزء من عملية الإصلاح الذاتي للرأسمالية، حيث يعتبر الكثير من الليبراليين[9] أن غياب التنافسية الحرة هو أكبر خطر على النظام الرأسمالي، في نوع من التفكير المثالي الوفي لكلاسيكيات الرأسمالية. لكن حيز التجربة العملية يكشف أن أي اقتصاد يقوم على علاقات إنتاج رأسمالية ينتهي بالضرورة إلى الريعية والاحتكارية. وهذه الأطروحة تفترض وجود «رأسمالية جيدة» لا احتكار ولا ريع فيها، تقوم على المنافسة الحرة والإنتاج، كما افترضها سميث نظريًا، في مقابل «رأسمالية قذرة» تقوم على الاحتكار والسعي وراء الريع والتراكم الوهمي.
وفي حين يبدو هذا التقسيم متماسكًا من الناحية النظرية، إلا أنه لا يصمد في الواقع، حيث يصدر عن غضب جناح مغبون من البرجوازية التي تريد الدخول إلى السوق ولم تجد غير المحاصرة والمنع من طرف قلة من المحظيين، لكن في الحقيقة لا يمكن المواصلة في التوسع الرأسمالي دون التحول من الإنتاج إلى الريع، ومن المنافسة الحرة إلى الاحتكار، حيث يبدو هذا التحول شبه حتمي. وحتى أولئك الذين يشتكون اليوم من إغلاق السوق أمامهم سيتحولون غدًا إلى محتكرين. أما الخلل الثاني في هذه الأطروحة فهو افتراض وجود سلطة سياسية -أي الدولة- محايدة أو غير متأثرة بالفاعلين الاقتصاديين، وهنا ينزع الكاتب نحو نوع من المثالية لا تصمد أمام واقع التجربة العملية، ذلك أن تداخل السلطة برأس المال شديد التعقيد، وواضح حتى في أكثر الاقتصاديات الرأسمالية تنافسيةً وانفتاحًا.

الهوامش:
[1] La gauche et son grand récit. Comprendre l’économie rentière – Published 2021 by Mots passants
اليسار وسرديته الكبرى: من أجل فهم الاقتصادي الريعي – ترجمة فتحي بلحاج يحيى – كلمات عابرة، تونس 2022م.
[2] Vladimir Lenin – Imperialism, the Highest Stage of Capitalism
[3] Paul Boccara – Le capitalisme monopoliste d’État et la théorie de sa crise 
[4] اليسار وسرديته الكبرى: من أجل فهم الاقتصادي الريعي – ترجمة فتحي بلحاج يحيى، صفحة 29.
[5] Selected Works of Mao Tse-tung – Analysis of the Classes in Chinese Society – March 1926
ماو تسي تونغ – تحليل لطبقات المجتمع الصيني
[6] صاحب كتاب «القرن الأميركي الطويل».
[7] (4) – Samir Amin – L’accumulation à l’échelle mondiale, 1970
[8] All in the Family, State Capture in Tunisia – World Bank – 2014
[9] Hazem el-Beblawi, Giacomo Luciani – The Rentier State – Routledge Library Editions 1987

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *