بين واقع التجهيل، وانتظار جيل التغيير
منقول عن موقع : الفنيدق ميديا.
عبد المولى المروري/المغرب
شعب متعلم يكون دائما عصيا عن السيطرة والإخضاع، ليس من السهل تضليله أو خداعه، هذا الشعب يتوفر على عقل حر يفكر ويحلل به كل ما يروج ويتحرك حوله، له شخصية متمردة على الظلم والاستبداد.. بل أكثر من ذلك، له القدرة على التأثير والتغيير، وكذا توجيه القرار السياسي والاقتصادي الرسمي للدولة عند الضرورة، لذلك فهو مهاب الجانب من طرف الفاعل السياسي والاقتصادي مهما كان موقعه وحجمه وقوة سلطته، وهو يدخل في كل حساباتهم وبرامجهم وقراراتهم من الباب الواسع.
ولتفادي شعب مثل ذلك يظل التجهيل ورداءة التعليم من أهم الاستراتيجيات التي تنهجها الأنظمة الاستبدادية من أجل ضمان استمرار سيطرتها وإخضاعها لشعوبها .. فالشعب الذي تنتشر فيه الأمية ويكثر فيه الجهل يكون سهل الانقياد للدولة، سريع الإخضاع من طرف الأجهزة السلطوية، يستهلك بسذاجة فظيعة كل ما يصدر عنها من قوانين وقرارات مهما كانت جائرة وظالمة.. ويصدق كل ما تقوله وتُذيعه عبر وسائلها مهما كان كاذبا ومفضوحا ..
هذا الشعب يكون مستسلما بشكل بئيس.. خاضعا بشكل فظيع.. يتألم ولا يحتج .. وإذا احتج لا يثور .. وحتى إذا ثار يتعب وييأس بسرعة، مع عجز على المواصلة والمقاومة .. فهو لا يستطيع الصمود بعقله وفكره في مواجهة حملات التدجين والتجهيل المواكبة لحِراكه واحتجاجه إذا اضطرته ظروفه المأساوية إلى الاحتجاج .. ولا يقوى على تحمل العنف المادي وما يرافقه من مداهمات واعتداءات واعتقالات ومحاكمات .. ولا العنف الرمزي وما يلازمه من تشهير وتشويه للسمعة وإهدار للكرامة (رغم انعدامها).. لذلك فهو يتوقف عن التمرد بسهولة، ويستسلم لواقعه بسرعة..
وتتمثل استراتيجية التجهيل في نشر ثقافة التفاهة والفن المتعفن عبر وسائل الإعلام المرئية والسمعية والمكتوبة، وترميز أصحابها ودعم زعماءها ماديا ومعنويا.. والاستفادة بشكل واسع من كل وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة والمتعددة.. أما استراتيجية رداءة التعليم، فتتمثل في مواصلة الخروج بمشاريع تعليمية إصلاحية تخفي تحتها مضامين فاشلة ومناهج مسمومة وبيئة تعليمية موبوءة وسيئة، ولعل ما نسمعه ونراه من فضائح ومشاكل وأزمات متتالية ومتكررة داخل كل الأسلاك التعليمية، أبطالها عمداء جامعات وأساتذة جامعيين ومدرسين وطلبة وتلاميذ من مختلف الأعمار لخير دليل على ذلك، وهو أبعد من أن تكون حالات فردية معزولة أو أحداث استثنائية وعابرة، بل أصبحت ظاهرة عامة ولها طابع الاستمرارية والتواتر .. حتى أصبحت تشكل جزء ثابتا من البنية التربوية وتؤطر هيكلها العام ..
إن الوعي رديف التغيير، ومقدمة ضرورية له، لذلك تعمل الأنظمة الشمولية على إبقاء وعي الشعوب في أدنى مستوياته، حتى لا يفكروا في التغيير والمطالبة بالحرية وتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، أو المطالبة بحقوقهم المدنية والسياسية. ولتحقيق ذلك تعتمد هذه الأنظمة على الإعلام والتعليم، الوسيلتان الرئيسيتان للتحكم في التفكير والوعي العام، وضبط إيقاعهما، وتحديد سقف متدن لهما من خلال المنتوج الإعلامي الموجه والرديء، الذي يعتمد التشهير ونشر الفضائح كمادة إعلامية رئيسية واسعة الانتشار والقابلة للاستهلاك السريع، وكذا المناهج التعليمية التي تتميز بالتكديس وانعدام المردودية، وتعارضها مع القيم الأخلاقية والفطرة الإنسانية السوية، وبُعدها عن احتياجات المجتمع وسوق الشغل، وتخلفها عن روح العصر ومتطلبات النمو والتقدم والتنمية، والاستثمار في العنصر البشري باعتباره أهم ثروة وطنية …
قضية أخرى في غاية الأهمية والخطورة، والتي تسهل عملية السيطرة والإخضاع، هو تمركز الثروة والسلطة في ثلة قليلة من النافذين والمسؤولين والمحظوظين داخل الدولة، مؤطرة بزواج كاثوليكي من أجل جعل السلطة في خدمة المال، وجعل المال في حماية السلطة، وكذا صناعة فئة من الأوليغارشية التابعة لها والمتحالفة معها والخادمة لمشروعها السياسي والاقتصادي..
إن هذه الفئة التي تجمع بين سلطة المال وسلطة الحكم تجعل المواطن – من جهة – مجرد أجير أو مستخدم لديها في إطار هولدينغ الدولة وشركاتها الاحتكارية التابعة للحكام والأوليغارشية الموالية لهم، في شروط هي أقرب إلى العبودية، ومن جهة أخرى مجرد زبون ومستهلك مذعن، مكره على استهلاك منتوجاتهم بغير إرادة حرة منه، مهما كان الثمن مرتفعا، والجودة متدنية، والسلامة منعدمة..
لا يمكن أن نحدث أي إصلاح أو تغيير دون الرفع من مستوى وعي ونضج الجماهير، وهذا لن يتأتى إلا بحركة فكرية وثقافية يقودها مفكرون ومثقفون ملتزمون ومتنورون، يمتلكون مستوى عال من الموضوعية والتجرد والجدية والمسؤولية، دون خوف أو وجل من السلطوية وإرهابها وقمعها وعنفها، أو تزلف وتملق إليها من أجل الحصول على منافع مادية ومعنوية مقابل الصمت العام، أو الحياد الثقافي والجمود الفكري.
ولكن الملاحظ للأسف الشديد، أن جل النخب السياسية والثقافية من الجيل الثالث ( الحالي )، وجزء مهما منه ينتمي إلى النخب الحزبية، أخذ يتنازل عن الإصلاح الشامل (بمفهومه الواسع) كمطلب شعبي بعد أن حوصر في ثنائية الترغيب والتهريب، مرجحا الحفاظ على الوضع المؤسساتي القائم، والنموذج السياسي الحالي، مكتفيا بنضال الصالونات، والتنظير المفصول عن ملامسة مشاكل الناس وقضاياهم العميقة والحقيقية، أو تحريف بوصلة النضال إلى وجهة غير تلك التي تحرر الشعب من الاستعباد السياسي وتنقذه من الاستغلال الاقتصادي، وتنخرط به في قضايا جانبية وإدخاله قسرا في استراتيجيات الإلهاء التي تبدع فيها الأنظمة الاستبدادية حتى لا يطلب هذا الشعب ما هو حق له من كرامة وحرية وعدالة اجتماعية. فمع تعدد توجهات هذه النخب، وتنوع خطاباتهم، واختلاف آرائهم، وتصادم أطروحاتهم، وكذا اختلاف مواقعهم ومراكزهم، كل ذلك لا يلغي حقيقة أن غالبية هذا الشعب – الذي أُخضع لعمليات تدجين وتجهيل طويلة وعميقة، قد تُرك في الوقت الحالي لمصيره المجهول، إلى أن يولد جيل آخر أكثر وعي بنفسه ومسؤولياته، وأكثر جرأة وشجاعة من سابقيه، في انتظار بناء قنطرة صلبة من التضحية والفداء، تُبنى بحريات وآلام وجثت جيل سيحتفظ لهم التاريخ بهذه الملاحم، ويهيء الأرض الصلبة لجيل البناء والتغيير ..
فإلى ذلكم الحين، هل بإمكان أن تراجع النخب الحالية فكرها ومواقفها وسلوكها السياسي؟ وهل تستطيع المساهمة الفعلية والجادة في توعية الشعب وإخراجه من مؤسسات التجهيل ومعتقلات التدجين؟ هل تمتلك الجرأة كي ترفع عنه الوصاية السياسية والملاحقات الأمنية؟ هل لديها الإرادة والقدرة لقيادته نحو مقدمة إصلاح شامل يحقق له الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية تستفيد منه الأجيال القادمة؟ يبدو أن الجواب عن هذا السؤال في غاية الصعوبة!