الذكاء الاصطناعي في علاقته بالإنسان

عبد الرحيم بودلال*

صارت التقنية والذكاء الاصطناعي جزءاً من حياتنا اليومية، وصار العالم الافتراضي مخترقاً للفضاء العام والخاص، ولم تعد هناك من خصوصيات ذاتية بل أصبح كل شيء مكشوف للعلن، تجلس المرأة أو الرجل في غرف النوم وهم يبثون صورهم للعالم. لقد أصبحت التقنية هي المهيمن والموجه لعالمنا الحقيقي. إلا أن هذا التحول الجديد في عالم الناس بدخول عوالم جديدة تتصف بالسيولة والضبابية، يجعلنا نطرح عدة أسئلة حول؛ مدى تأثير العالم الافتراضي على الواقع المعيش؟ وما هي حدود كلا المجالين؟ وهل يمكننا الحديث اليوم عن وجود عالمين مختلفين بنفس الصيغة القديمة، أم فقط عالم واحد يشكل كل معالمه الفضاء الافتراضي؟ لهذا هل يمكن لنا أن نتخلى عن هذه الأدوات المشكلة للفضاء الافتراضي في وقت ما؟ أم أنها صارت جزءاً من ذواتنا؟
كما يتم الحديث حالياً عن الذكاء الاصطناعي في علاقته بالإنسان، خصوصاً مع ظهور تطبيق chatgpt، وهل الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتفوق على الذكاء الإنساني؟ في هذا الصدد ظهرت آراء متضاربة حول الموضوع؛ من يرى أن العقول البشرية ستصبح في يوم من الأيام عاجزة عن مواجهة الذكاء الاصطناعي، وقد يؤسس حينها الذكاء الاصطناعي لحضارة مغايرة خاصة به لا دخل للإنسان فيها. ومن يرى أن الذكاء الاصطناعي هو صنع بشري في آخر المطاف، وأنه رغم توظيفه للملايين من المعلومات وتمكينه من الجمع بينها وتحليلها في وضعيات مختلفة، إلا أنه لن يستطيع التفوق على العقل البشري. في هذا الصدد أقيمت مباراة بين الفيلسوف رافاييل إنثوفن وتطبيق chatgpt، حيث حصل chatgpt على علامة 11/20 بينما حصل الفيلسوف إنثوفن على 20/20، بهذه النتيجة استنتج البعض أنه لا خوف على البشرية من الذكاء الاصطناعي.

للإجابة عن هذه الأسئلة وأسئلة أخرى سنعتمد كمدخل الفيلم الأمريكي المعنون بـ ( Her)؛ فيلم من الخيال العلمي تم إنتاجه سنة 2013 من تأليف وإخراج سبايك جونز و بطولة الممثل خواكين فينيكس.
تدور أحداث الفيلم حول كاتب روايات يُطور علاقته مع نظام تشغيل ذكي، هذا النظام الذي يتمثل في شكل امرأة ذات صوت شجي وجميل. فالبطل ثيودور رجلٌ وحيد في المراحل النهائية من طلاقه بزوجته الأولى، غالباً ما يمضي وقت فراغه وسط ألعاب الفيديو والتسكع مع أصدقائه القلائل. يقرر ثيودور شراء نظام التشغيل الجديد OS1الذي صَدر حديثاً، الذي تم الإعلان عنه كأذكى نظام تشغيل صناعي في العالم. إلا أنه سرعان ما يجد ثيودور نفسه منجذبًا لنظام التشغيل الذي يحمل صفات السيدة “سامانثا”، ذات الصوت الجذاب والمتميز، فيبدأ بقضاء جل أوقاته معها، ليجد كل منهما نفسه واقعاً في حب الآخر، أو بالأحرى ليجد ثيودور نفسه واقعاً في حب “سامانثا”.
بعد وقوع ثيودور في حب هذا الذكاء الاصطناعي، يجد نفسه مجبراً على التعامل مع مشاعر الحب والغيرة التي ولدتها لديه “سامانثا”، الذي جعله يتعلق بالنظام أكثر هو ذكاء “سامانثا” ومعرفتها العميقة بكل متطلباته، ومعرفتها الدقيقة بكل بمشاعره والتفاعل الإيجابي معها. لكن كيف سيتعامل مع هذا الحب الذي ليس له وجود على الحقيقة؟ وهل يمكن لعلاقة حب أن تتم بين كائن حقيقي وذكاء اصطناعي؟ وما الذي جعل ثيودور يتعلق بهذه المرأة الافتراضية؟
في ظل الاستهلاك المتزايد والتعلق بالصورة على حساب الجوهر تنامت درجات الفردانية، ولم يعد للناس ما يتمسكون به من جماعة أو أسرة أو دين أو قيم، و تلاشت العلاقات الحميمية لصالح علاقات التعاقد والمصلحة، فاحتلت التقنية مكان هذه العلاقات بعلاقات جديدة ينظمها الذكاء الاصطناعي داخل عوالم افتراضية، فأصبح اهتمام الإنسان بالافتراضي أكثر منه بالواقعي؛ لأنه يجد فيه ما يفقده على الحقيقة، حيث تشكلت الجماعة الافتراضية المتخيلة مكان الأسرة والجماعة والأمة، هذه المجموعة الجديدة التي تتميز بالانسجام والاتحاد والحميمية؛ فالجماعة المتخيلة ليست في الأصل إلا صورة طبق الأصل لشخصية هذا العضو، بل هو نظام معلوماتي أُعد خصيصاً للاستجابة لعلاقات أكثر حميمة تلبي متطلبات كل شخصية على حدى، كما يمكن لهذه المجموعة أن تحتوي أعضاء ينتمون إلا وقائع مادية مختلفة إلا أنهم يشتركون نفس الهواجس ولهم نفس المشاعر، أو على الأقل يُظهرون تصرفات و مشاعر توافق المجموعة الافتراضية.
فعندما فشل البطل ثيودور في علاقته الزوجية الواقعية وجد في النظام المعلوماتي ما لم يجده في الزوجة المادية، بل وجد في النظام ما يكمل شخصيته النرجسية، فالواقع المادي جعله يفر من أي علاقة غير متكافئة لصالح علاقة تستجيب وحاجياته الحميمية. بل إن ثيودور عاش حياة زوجية شبه مثالية وولد طفلة جميلة، إلا أن بعض التصرفات البسيطة من زوجته جعلته يتخلى عنها. كما أنه جرب بدعم من النظام التشغيل “سامانثا” أن يبحث عن علاقة جديدة، وقد حدد له الذكاء الاصطناعي جميع مواصفات المرأة التي توافقه، وأخبره كيف يتعامل معها، وما هي ميولاتها الشخصية وأنواع المأكولات والألوان والحيوانات التي تحب، وعلمه النظام كيف يتواصل معها بحميمية، فتم اللقاء بينهما وكادت العلاقة أن تنجح لولا أن ثيودور وجد في المرأة الافتراضية “سامانثا” ما لم يجده في زوجته.
إن العالم الافتراضي يجعلنا نطرح عدة الأسئلة ونعيد تعريف كل ما هو صلب وفق أدوات زئبقية مائعة يصعب الإمساك بها أو التحكم فيها، كما يجعلنا نتساءل حول حدود الواقعي والافتراضي في حياتنا اليومية، وما هو الذاتي والموضوعي في علاقاتنا، وأين تبدأ الأنا لينتهي الآخر، وهل لازالت هناك من خصوصية يمكن التمسك بها.
إن كل فرد منا يصنع عالمه الخاص به من خلال حجم مشاركته في الفضاء العام ومحجم تعاطيه للعالم الافتراضي، وحجم حضور عالمه الخاص في الافتراضي، وما مدى تأثير الذكاء الاصطناعي في حياته الشخصية. بهذا تشكل لدى كل فرد عالم وسائطي متعدد المتدخلين تتشابك فيه التقنية مع الشخصية مع العالم الخاص والعام.

*عبد الرحيم بودلال : باحث في علم الاجتماع

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *