من المؤسف والمؤلم أيضا أن نجد بين ظهرانينا في الوقت الذي تبذل فيه بلادنا بقيادة عاهلنا المفدى محمد السادس قصارى جهودها من أجل تحقيق الازدهار والاستقرار،
بعض المنتسبين إلى الحقل السياسي، ممن يفترض فيهم بناء على ما تقدمه لهم الدولة من دعم مادي الحرص على تأطير المجتمع ونشر الوعي بين أفراده، يطلقون الكلام على عواهنه غير مبالين بعواقب تصريحاتهم العشوائية والمستفزة للمشاعر أحيانا، كما هو الشأن بالنسبة للأمين العام لحزب جبهة القوى الديمقراطية المدعو: مصطفى بنعلي.
ولمن لا يعرف حزب جبهة القوى الديمقراطية فهو حزب سياسي صغير يحمل رمز غصن الزيتون، يعتبره المراقبون حزبا تقدميا يساريا، لاسيما أنه خرج من رحم حزب التقدم والاشتراكية في 27 يوليوز 1997 على إثر انشقاق قاده التهامي الخياري بعد وفاة الزعيم الشيوعي الكبير علي يعتة رحمهما الله معا، وقد تولى مصطفى بنعلي مسؤولية قيادته منذ 23 فبراير 2013.
بيد أن الرجل لم يلبث أن زاغ عن سكة القائدين الكبيرين لما يفترض أن يكون عليه من حرص شديد على أقواله، إذ قام للأسف في أعقاب استقباله يوم الأربعاء 15 شتنبر 2021 من لدن رئيس الحكومة المعين حديثا عزيز أخنوش بخصوص المحطة الثانية من المشاورات الجارية حول تشكيل حكومة جديدة خلفا لتلك المنتهية ولايتها، بتصريحات لا يمكن وصفها إلا بالغريبة وغير المفهومة المعاني. وإن لا فما معنى أن يتحدث “زعيم سياسي” تحت الأضواء الكاشفة وأمام مختلف وسائل الإعلام في مناسبة جد هامة عن انتقال البلاد من “مشروع دولة إسلامية” إلى “مشروع دولة مجتمعية ليبرالية” معبرا عن شعور عميق بالانتشاء والابتهاج المفرط إلى الحد الذي فقد معه توازنه والتحكم في لسانه، وكأن بلادنا حققت في غفلة منا نصرا مبينا على “عدو” لدود لا يراه أحد آخر سواه. حيث قال بالحرف: “نحن كحزب وكحساسية سياسية، نعبر عن دعمنا لكل التوجهات التي تخدم مصلحة الناخبين في هذه المرحلة الدقيقة، التي انتقل فيها المغرب من مشروع دولة إسلامية إلى مشروع دولة مجتمعية ليبرالية ديمقراطية” وليس هذا وحسب بل استطرد قائلا بأن “هذا المشروع يحتاج إلى دعم كل الفئات الاجتماعية والسياسية على اعتبار أن المغرب بصدد التحول إلى قوة إقليمية صاعدة”.
وكانت هذه العبارات غير المحسوبة العواقب كافية بأن تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بالتنديد والاستنكار، وطرح الكثير من علامات الاستفهام حول أهدافها وتوقيتها، وما يمكن أن ينتج عنها من تهديد للأمن والاستقرار، لاسيما أن هناك عددا من أتباع ومناصري حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية الجريح، الذين يتربصون بكل هفوة ممكنة من أجل الثأر له، لاعتقادهم الواهم بأن الهزيمة المذلة التي لحقت به في الاستحقاقات الانتخابية الثلاثية، لا تعدو أن تكون مؤامرة من تدبير فاعل، حبكت خيوطها بدقة لإزاحته وإبعاده عن مناصب المسؤولية في المجالس الترابية وغيرها من المؤسسات…
وليس وحدهم أنصار الحزب الإسلامي الخاسر وكتائبه الإلكترونية الغاضبين من هكذا تصريحات مستفزة وغير مسؤولة، بل هناك مغاربة كثر أبدوا استغرابهم وامتعاضهم منها، لكونها تتعارض كليا مع قيمهم الدينية التي نشأوا عليه وتربوا في أحضانها عبر قرون من الزمن، ومع مقتضيات الدستور وهوية الدولة. إذ هناك من رأى فيه طيشا سياسيا يعكس درجة التهور والانحطاط لدى بعض الفاعلين السياسيين المغاربة، وهناك من اعتبرها انحرافا صارخا لا يمكن التغاضي عنه لما يحمله في طياته من مخاطر، وهناك من استبعد أن يكون الأمر مجرد زلة لسان، متهما الزعيم بنعلي بعدم الاطلاع على مضمون الوثيقة الدستورية، وخاصة الفصل الثالث منها الذي ينص صراحة وبوضوح على أن الإسلام دين الدولة، وأن هذه الأخيرة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية.
والأدهى من ذلك أنه وقبل حتى أن تهدأ هذه الزوبعة التي أثارتها تلك التصريحات الشاذة والمؤلمة، اندلعت في منصات التواصل الاجتماعي شرارة إشاعة إلغاء اختبار مادة التربية الإسلامية في الامتحانات الإشهادية، ليزداد المشهد قتامة وترتفع حدة الغليان لدى المواطنات والمواطنين، الذي استغله بعض المغرضين والحاقدين في تأليب الرأي العام ضد الوطن ومؤسساته، سعيا منهم إلى محاولة التشويش على تشكيل الحكومة وزعزعة أمن واستقرار البلاد، من خلال الادعاء الباطل بأن الدولة تتجه نحو التراجع عن هويتها. وهكذا سارع أحمد الريسوني رئيس اتحاد علماء المسلمين والعضو البارز في المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح الذراع الدعوية لحزب العدالة والتنمية، إلى الانقضاض على تلك التصريحات وحاول النفخ في “الجمر” الملتهب عبر تساؤله الماكر: “هل سيتحقق أخطر انقلاب في تاريخ المغرب؟”، معتبرا أن إسلامية الدولة باتت مهددة جراء خروج من أسماهم زعماء 8 شتنبر من صناديق الاقتراع، متهما إياهم باستهداف الإسلام وسلخ الدولة المغربية منه لفائدة اللادينية الفرنكوفونية. وهو بذلك يعمل بوعي أو بغيره على تحريض المغاربة ضد من يزعم أنهم يرمون إلى طمس الطابع الإسلامي للدولة…
إن إسلامية الدولة المغربية أمر محسوم وأقوى من أن تنسف بنيانها تصريحات عابرة وغير سوية، إذ أن المغرب ومنذ قرون وهو دولة إسلامية ووفق مفهوم الدولة الحديثة، التي جعلت من الإسلام أحد أعمدتها وركيزة أساسية لنظامه السياسي. لذلك حرص الدستور بشدة على إدراج الإسلام بمتنه وأولاه مكانة مرموقة في قيادة الدولة. ثم أليس ملك البلاد هو أمير المؤمنين؟ فلتخرس الأفواه الخاسئة، وكفي من التشويش العبثي والمزايدات السياسوية الخاوية.
اسماعيل الحلوتي