بقلم: نور الدين العايدي
عن موقع: حبر .
لطالما كانت النظرة الشعبية السائدة تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عالمنا العربي هي نظرة عداء ورفض لطبيعة دوره البارز في فرض الهيمنة الأمريكية التي تعاني منها منطقتنا والعالم. وبالمقابل كانت تجربة تركيا الدولة والنخب بالتحديد مع هذا الحلف «مختلفة» بسبب العديد من الظروف التاريخية والمتغيرات الجيوسياسية الداخلية والخارجية التي صاغت العلاقة القائمة اليوم بين الطرفين. فالجمهورية التركية، وهي أول دولة ذات أغلبية مسلمة انضمت إلى حلف الناتو، تمتلك اليوم وبعد قرابة سبع عقود من هذه العضوية علاقاتٍ تزداد تعقيدًا مع الناتو لا سيما منذ بداية الربيع العربي.
تأسس حلف الناتو كتحالف عسكري عام 1949 لتعميق التعاون العسكري والسياسي بين دول ما سيعرف بالمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ويقدم الحلف نفسه حاميًا «للعالم الحر» والديمقراطيات الغربية في مواجهة التهديدات المحيطة، لذلك تمثل العضوية في الحلف لعديد من الدول خطوةً رمزية نحو الالتحاق بالغرب والحداثة الغربية، إضافة إلى الحصول على العديد من الفرص العسكرية والاقتصادية. تحظى تركيا اليوم بمكانة مهمة في الحلف بوصفها ثاني أكبر جيوشه والركيزة اللوجستية لجناحه الجنوبي الشرقي وإحدى أهم الدول المساهمة في ميزانيته، فضلًا عن تواجد قواعده العسكرية الاستراتيجية على أراضيها كقاعدة إنجرليك في مدينة أضنة، حيث تشرف هذه القواعد على تقديم الدعم العسكري واللوجستي المطلوب للحلف في العديد من المناطق التي يحرص على تعزيز تواجده فيها. وقد منح الموقع الجغرافي الاستراتيجي القريب من عدة مناطق مهمة، مثل البلقان والبحر الأسود والقوقاز ووسط آسيا والشرق الأوسط، تركيا فرصة كبيرة للحصول على دور مهم ومستمر في الحلف حتى يومنا هذا.
عهد التماهي التام بين تركيا والغرب:
عند تشكل خطوط تماس الحرب الباردة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، قدمت الروايةُ التركية التهديدَ الوجودي والخطاب العدائي للاتحاد السوفييتي ضدها كأهم أسباب السعي التركي المستميت للانضمام إلى حلف الناتو، لكن الناظر إلى موقع الحلف في السياسات الداخلية والخارجية طوال عقود من عضوية تركيا فيه يلاحظ بوضوح أن هذا القرار لم يكن وليد تهديدات جيوسياسية خاصة بفترة معينة فحسب، بل كان أيضًا تجليًا واضحًا للأيديولوجيا الكمالية السائدة حينها -وبأشكال مختلفة حتى اليوم- والتي تتبنّى سياسة التغريب والأوْرَبة، وترى في انضمام تركيا إلى المؤسسات الغربية والاندماج في كل ما هو غربي هدفًا ساميًا وضرورة مصيرية للنهوض بتركيا الحديثة.
بدأت مساعي النخب التركية للانضمام لحلف الناتو منذ بداية تأسيسه وذلك في عهد آخر حكومات حزب الشعب الجمهوري نهاية الأربعينيات، لكن هذه المساعي قوبلت بالرفض مرارًا. واستمرت هذه الجهود بزخمٍ أكبر في عهد الحزب الديمقراطي (1950-1960) الذي أقدم على مناورة خطيرة لإقناع الولايات المتحدة بأهمية تركيا والفائدة التي يمكن أن تقدمها للحلف، وذلك من خلال إرسال آلاف الجنود الأتراك للقتال إلى جوار الولايات المتحدة وحلفائها في حرب كوريا عام 1950، الأمر الذي مهد الطريق لحصول تركيا على عضوية الحلف رسميًا عام 1952، واكتسابها بالتالي مكانتها الاستراتيجية ضمن السياسة الأمريكية في تطويق الاتحاد السوفيتي حينها.
في هذا السياق اعتبرت تركيا العضوية في الحلف ضمانةً عسكريةً أمام التهديدات الخارجية وخطوة مهمة نحو تحقيق الأهداف الأيديولوجية والهويّاتية التي رسمت الكماليةُ ونخبُها حدودَها منذ تأسيس الجمهورية، إضافة إلى كونها فرصة لا لتطوير الجيش وربطه تكنولوجيًا ولوجستيًا بجيوش الغرب فحسب، بل لتحسين وتطوير اقتصاد البلاد كذلك. لذا حرصت تركيا في تلك الفترة على التماهي التام مع مواقف الحلف والمعسكر الغربي في رهانٍ تامٍ على هذا التحالف بوصفه الخيار الاستراتيجي الوحيد للبلاد. برز هذا السعي للتماهي مع المواقف والسياسات الغربية من خلال مواقف تركيا تجاه مختلف قضايا المشرق العربي في تلك الفترة، مثل مسارعة تركيا للاعتراف بقيام «إسرائيل»، ومشاركتها بفعالية في حلف بغداد المدعوم غربيًا، وانتقادها الشديد تأميمَ قناة السويس، وتمثيلها للغرب في الأزمة السورية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عام 1957، ودعمها رسميًا لفرنسا في الجزائر، ما شكّل مذّاك نظرةً سلبية في الأوساط العربية تجاه تركيا باعتبارها حليفة الغرب في المنطقة.
لكن هذه السياسة انتهت بخيبة أمل كبيرة كانت بدورها مقدمةً لخيبات أمل أخرى في العلاقات بين تركيا وحلفائها الغربيين، خاصة في الناتو، إذ شهدت جزيرة قبرص في فترة 1963-1964 سلسلة من التوترات الدامية بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين فيما عرف باسم أحداث عيد الميلاد الدموي، وأمام عزم تركيا التدخلَ عسكريًا لصالح القبارصة الأتراك، أرسلت الإدارة الأمريكية حينها تهديدًا بلهجة قاسية ومهينة مفاده أنها لن تقف إلى جانب تركيا ضد أي غزو سوفييتي محتمل في حال إقدامها على أي تدخل عسكري في قبرص. أحدثَ الموقف الأمريكي صدمة كبيرة للنخب التركية، إذ عنى إفلاس الرهان التركي التام على المعسكر الغربي، وكان في لبّه مخالفًا لروح واتفاقيات حلف الناتو نفسه خاصة المادة الخامسة الشهيرة التي تنص على وجوب الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء في حال حصول أي اعتداء خارجي.
الانفتاح: نحو سياسة أكثر استقلالية:
بعد هذه الأزمة القاسية التي عصفت بالعلاقات بين تركيا وحلف الناتو أدركت تركيا -بالطريقة الصعبة- خطورة التمترس خلف محور واحد فقط، فتبنّت ببطءٍ منذ تلك الفترة سياسةً خارجية أكثر استقلاليةً وانفتاحًا على محيطها والعالم، وهو ما سيتّضح أكثر من خلال انتقادها الحرب الأمريكية على فيتنام، ورفضها مشروع القوة النووية متعددة الأطراف الذي تقدمت به الولايات المتحدة للناتو. لكن الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة تجددت عام 1974 على إثر الحرب في قبرص، حيث فرضت الأخيرة حينها حظر تصدير أسلحة صارم على تركيا في أزمةٍ لافتة للانتباه بين حليفين مهمين في الناتو. كما شهدت هذه الفترة تحولًا نحو استقلالية أكثر في السياسة التركية تجاه المنطقة العربية، حيث رفضت تركيا منح الإذن باستخدام قواعد حلف الناتو على أراضيها لدعم «إسرائيل» خلال حربي 1967 و1973، إضافة إلى اعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية وتصويتها عام 1975 لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية.
الناتو واضطرابات تركيا الداخلية:
كان عقد السبعينيات أحد أكثر فترات الاضطراب السياسي والاجتماعي في تركيا الحديثة، حيث شهدت هذه الفترة ذروة الصدام الفكري والسياسي بين اليمين واليسار في البلاد، وهو ما تحوّل إلى صدام مسلح في الشارع أيضًا. ويرى العديد من المتتبعين لتلك الفترة بأن منظمة «كونترجريلَّا» (Kontrgerilla)، وهي التسمية الشائعة للنسخة التركية من منظمة غلاديو الإيطالية، كان لها دور كبير في تأجيج الصراع الداخلي وحالة عدم الاستقرار في البلاد. ولم يظهر اسم هذه المنظمة على السطح إلا في منتصف السبعينيات، حيث عملت لعقود كمنظمة سرية وبصفة غير قانونية تحت جناح ورعاية حلف الناتو لمحاربة اليسار والتوجهات الشيوعية داخل تركيا.
يمكن ردّ تمسك تركيا المستميت بعضويتها بحلف الناتو إلى رغبتها بتعزيز موقعها بصفتها دولة مركزية في المنطقة ولاعبًا مؤثرًا على مستوى العالم.
إضافة إلى ذلك، وفي ظل التطورات الداخلية في تركيا، وبعد خسارة المعسكر الغربي لإيران عام 1979، والأحداث المتسارعة في أفغانستان حينها، كان دعم حلف الناتو -خاصة الولايات المتحدة- انقلابَ 12 أيلول 1980؛ أكثر الانقلابات دموية في تاريخ تركيا الحديث، واحدًا من أبرز تدخلات الحلف في السياسة الداخلية للبلاد. ويُروى أن الخبر قد زُف إلى الرئيس الأمريكي حينها جيمي كارتر بالقول إن «أبناءنا هناك فعلوها» (our boys did it) في إشارة إلى الجنرالات ونجاحهم في الانقلاب العسكري. سحقَ الانقلاب على أيدي العسكر الحياة السياسية بالكامل، وحرص هؤلاء في الوقت نفسه على الالتزام بتوجهات اللبرلة والخصخصة التي بدأت تشيع في دول حلف الناتو الكبرى في تلك الفترة في تماهٍ ملحوظ مع مصالح وتوجهات الغرب.
من جهة أخرى، تعتبر الحرب التركية مع حزب العمال الكردستاني والمستمرة منذ ثمانينيات القرن الماضي إحدى أهم أبواب العلاقة المعقدة بين تركيا وحلف الناتو. إذ ترى تركيا أنها قامت بدورها لدعم الحلف في المنطقة خاصة خلال حرب الخليج الثانية وما تلاها من تطورات في شمال العراق، وكذلك دورها في الأزمات المتلاحقة التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي، بالذات في منطقة البلقان (مثل أزمات البوسنة والهرسك، وكوسوفو)، لكنها لم تحصل بالمقابل على الدعم الذي كانت ترجوه من حلفاء الناتو في حربها في الداخل «وتركت وحيدة». بل إنها ترى أن مواقف بعض الحلفاء في هذا الملف كانت منحازة ضدها كحظر ألمانيا تصدير أسلحة إليها في منتصف التسعينيات بسبب «استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين»، إضافة إلى دعم الولايات المتحدة المستمر حتى اليوم للقوى الكردية في شمال سوريا، فضلًا عن أن أول منتقدي عملياتها العسكرية في الخارج هم حلفاؤها في الناتو.
تركيا والناتو بعد الحرب الباردة:
مع تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الشرقي اكتسب الدور التركي في حلف الناتو طبيعة جديدة، إذ ساهم بروز مناطق جديدة تحظى تركيا فيها بثقل ثقافي وتاريخي وعرقي في منحها دور الجسر لسياسات الناتو، خاصة في مناطق مثل وسط آسيا والبلقان والشرق الأوسط. فقد شاركت تركيا كبقية أعضاء الناتو في العديد من المبادرات الساعية إلى تعزيز موقع الحلف ودعم توسّعه ونفوذه في مناطق ومساحات جديدة كدول المعسكر الشرقي السابقة ودول الشرق الأوسط، مثل مبادرة الحوار المتوسطي التي تستهدف تعزيز العلاقات الأمنية مع دول حوض البحر المتوسط العربية بالإضافة إلى «إسرائيل»، ومبادرة الشراكة من أجل السلام التي ركزت على دول المعسكر الشرقي السابق بما فيها جمهوريات وسط آسيا التركية.
كما كانت تركيا باعتبارها دولة من المنطقة، والدولة النموذج بالنسبة للولايات المتحدة -في تلك الفترة-، مركزَ مبادرة إسطنبول للتعاون التي شكلها حلف الناتو عام 2004 ودعا إليها عدة دول عربية خليجية من أجل تعزيز الخطط والتجهيزات الدفاعية والعسكرية في هذه الدول برعاية دول وكوادر حلف الناتو، وقد قبلت كل من الكويت وقطر والبحرين والإمارات هذه الدعوة. واكتسب الدور التركي في الحلف بُعدًا جديدًا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر متمثلًا في صيغة الدولة النموذج للإسلام المعتدل ضمن سياسة حلف الناتو والولايات المتحدة في التبشير بنموذج محدّد مقبول في الشرق الأوسط، إضافة إلى الدور التركي العسكري، اللوجستي والمباشر، في عمليات الحلف خصوصًا في أفغانستان.
أزمات ما بعد الربيع العربي:
شكّل الربيع العربي منعطفًا حادًا في العلاقات بين تركيا وحلف الناتو وأعضائه، فقد شاركت تركيا بفعالية في عمليات الحلف العسكرية في ليبيا ودعمت التحالف الدولي ضد داعش في العراق وسوريا، لكن تفاقم الأوضاع في سوريا ساهم في خلق مساحة جديدة للخلاف بين تركيا وحلفائها في الناتو، فبعد إسقاط مقاتلة تركية من طراز إف-4 من قبل النظام السوري، وسقوط قتلى في هجمات على الجانب التركي من الحدود عام 2012، طلبت تركيا رسميًا من حلف الناتو أنظمة دفاع جوي، فأرسلت إليها الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا بطاريات لنظام باتريوت الأمريكي للدفاع الجوي، إلا أن هذه الدول سحبت بطارياتها بعد قرابة ثلاثة أعوام في ما رآه البعض رسالة سياسية لتركيا بسبب الخلاف على أولويات القتال في سوريا، حيث رأت تركيا آنذاك ضرورة محاربة القوى الكردية على حدودها، فيما فضّل بقية حلفاء الناتو التركيز على داعش فقط.
تسببت هذه الخلافات في خلق المزيد من الأزمات المستمرة حتى اليوم بين تركيا وحلفائها، حيث سبب سحب أنظمة الدفاع الجوي ثغرةً في خطط تركيا الدفاعية أمام التطورات المتصاعدة على حدودها الجنوب شرقية، وقد حاولت تجاوز هذه الثغرة من خلال السعي لشراء المنظومة من الولايات المتحدة، لكن الأخيرة رفضت ذلك بسبب الخلافات السياسية المتصاعدة بينهما. في المقابل، بدأت تركيا رحلة بحث عن بديل للمنظومة الأمريكية فوجدت ضالتها في منظومة الدفاع الروسية إس-400، لكن هذا الخيار أفضى إلى أزمة جديدة بين تركيا وحلفائها في الناتو، لا سيما الولايات المتحدة، وردًا على استمرار تركيا في مسار شراء السلاح الروسي تم استبعادها من برنامج طائرات أف-35 الذي تديره الولايات المتحدة ومجموعة دول أخرى في الحلف.
إضافة إلى ذلك، شكلت العمليات العسكرية التركية شمال سوريا خلافًا آخر بين تركيا والناتو، حيث تعتبر تركيا أن دول الحلف، خصوصًا الولايات المتحدة وفرنسا، تقدم دعمًا مباشرًا للقوى التي تصنفها تركيا كأعداء في شمال سوريا، فضلًا عن الانتقاد الشديد والمتكرر الذي تبديه هذه الدول للعمليات التركية في سوريا إلى حدّ تهديد مشرعين أمريكيين بالسعي نحو طرد تركيا من حلف الناتو. كما صرّح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قبل أشهر، في سياق تعليقه على سلسلة الخلافات الطويلة بين الطرفين، بأن «تركيا لا تتصرف كما يجب أن يتصرف حليف في الناتو»، في إشارة إلى عمق الأزمة بين الطرفين. رغم كل هذه التطورات يؤكد حلف الناتو بشكل متكرر على لسان أمينه العام أن تركيا حليف مهم، كما تؤكد تركيا من جهتها تمسكها بعضويتها في الحلف رغم الأزمات التي أثارت إحباط الجانب التركي وأثرت على العلاقات مع الحلف وأعضائه في السنوات الأخيرة.
الناتو في العلاقات التركية مع قبرص واليونان:
عبر السنين، لعب الناتو دورًا مهمًا في ضبط شدة الصدامات المتكررة بين تركيا واليونان، دور ظهر في أزمة كارداك، التي نشبت عام 1996، حيث منع الحلف تحوّلها إلى حرب شاملة. ويستمرّ هذا الدور اليوم في قضية الحدود البحرية المتنازع عليها في شرق المتوسط حيث أعلن الناتو تشكيل آلية فض نزاع بين تركيا واليونان في سعي لمنع تدحرج الخلاف المستمر إلى مواجهة عسكرية بين البلدين الأعضاء فيه. ومن جهة أخرى، استخدمت تركيا عضويتها في حلف الناتو أداة ضغط وظّفتها في المفاوضات مع قبرص، حيث استخدمت حقها في النقض (فيتو) تحت سقف الناتو لتعيق عضوية قبرص في الحلف، ولتوزان بذلك فيتو قبرص في الاتحاد الأوروبي.
الناتو بوصفه ثابتًا في السياسة التركية:
ظلت العلاقات التركية مع حلف الناتو محل نقاش شعبيّ في البلاد عبر السنوات وفق التذبذب في العلاقات مع الغرب، إلا أن هذه العلاقات التي صقلتها الأزمات مع الولايات المتحدة بالذات لم تكن محل نقاش سياسي رسميّ جاد رغم التغييرات المختلفة والحادة التي عاشتها السياسة الخارجية التركية في العقود السبعة الماضية. حيث أن الحالة الشعبية من عدم الثقة المرتبطة بالأساس بنظرة العداء تجاه الولايات المتحدة ودورها في تركيا والمنطقة لدى العديد من الطبقات في تركيا لم تجد انعكاسات مؤثرة على المستوى السياسي. مثلًا، رغم شيوع قناعةٍ شعبية لاقت رواجًا صحفيًا مفادها أن حلف الناتو كان مشاركًا -أو في أحسن الأحوال على علم- بمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، فضّلت النخب التركية عدم التركيز على هذه النقطة.
في هذا السياق، وباستثناء الأحزاب اليسارية الصغيرة، لا تضم برامج الأحزاب المُمَثَّلة في البرلمان التركي على اختلاف توجهاتها بين محافظين وقوميين وكماليين وإسلاميين رفضًا صريحًا أو حتى مجرد مساءلة لهذا التحالف، بل دعوات صريحة -أو غير مباشرة أحيانًا- لتعزيزه وتعميقه. وطوال تاريخ العلاقات التركية مع الحلف تمسكت كل حكومة تركية مهما كانت خلفيتها السياسية والأيديولوجية وأطروحتها حول موقع وهوية تركيا بتعزيز التعاون مع الناتو لتتحول هذه العضوية وهذه العلاقات رغم كل تعقيداتها إلى واحدة من أهم ثوابت ومسلمات السياسة الخارجية التركية منذ خمسينيات القرن الماضي.
لا يمكن حصر تحول عضوية تركيا في الناتو إلى ثابت عابر للاصطفافات السياسية في البلاد بالاعتبارات العسكرية والأمنية التي تواجهها البلاد فقط، إذ يمكن أيضًا إحالة هذا التمسك المستميت بهذه العضوية إلى رغبة تركيا بتعزيز موقعها بصفتها دولة مركزية في المنطقة ولاعبًا مؤثرًا على مستوى العالم. من المؤكد أن العلاقات التركية مع حلف الناتو لعبت دورًا مؤثرًا في تشكيل سياسات تركيا الداخلية وعلاقاتها الخارجية مع محيطها والعالم، إلا أن الصدام المتكرر بين السعي التركي لتبني سياسات مستقلة من جهة، وتوجهات بقية الحلفاء الغربيين من جهة أخرى، يجعل من هذه العلاقات علاقاتٍ غريبة ومعقدة ترتكز على تحالف أساسه عدم الثقة.
الهوامش
1) تبني تركيا روايتها عن تهديد الاتحاد السوفيتي على وجود مطالب لدى الأخير تستهدف ضم بعض مدن الشمال الشرقي في تركيا (طرابزون وما حولها)، وفرض إقامة إدارة مشتركة، بل وقواعد سوفيتية على المضائق الاستراتيجية المشرفة على البحر الأسود.
2) لعدم اقتناع الولايات المتحدة بالتهديد السوفيتي على تركيا وعدم نضوج الرؤية الغربية للحرب الباردة بعد.
3) أرسلت تركيا حينها قوة محاربة وصل مجموعها إلى 21 ألف جندي خلال فترة الحرب، قُتل منهم قرابة 800 جندي وفُقد 166 آخرين.
4) كان هذا التهديد على شكل رسالة بصيغة مذلة وآمرة من الرئيس الأمريكي جونسون إلى الرئيس التركي عصمت إنونو. وأصبحت “رسالة جونسون” كما تعرف في الأدبيات التركية أحد أهم المنعطفات الحادة في تاريخ السياسة الخارجية التركية.
5) شهدت هذه الفترات اشتباكات شبه يومية بين الفرقاء السياسيين (يسار وقوميون بالذات)، إضافة إلى عشرات بل وربما مئات جرائم القتل السياسية المقيدة ضد مجهول والتي يتهم البعض منظمة كونترجريلا بالوقوف خلفها.
6) كان دور تركيا في أفغانستان تدريبيًا وتأمينيًا (كما في حالة مطار حامد كرزاي الدولي) أكثر من كونه دورًا قتاليًا مباشرًا.
7) تعود أسس هذه القناعة إلى أن مهندسي محاولة الانقلاب كانوا يخططون له في مبان مخصصة لحلف الناتو وكوادره الأجنبية في تركيا، وترى النظرية أن مخططًا بهذا الحجم لم يكن ليغيب عن هذه الكوادر، إضافة إلى دور قواعد الناتو في الضربات الجوية التي نفذها الانقلابيون في تلك الليلة.