بقلم : عبدالرحيم شهبي
الحاكم العربي هو مفهوم في حد ذاته ملتبسا، لأنه يعتمد في تأكيد ذاته على منطق القوة لا على منطق الحق، فسواء خرج عن النص أو مسح بالنص على الوحل، فهو في كلا الحالتين مصيب، لا يجرأ أحد على تخطئته!.. بل إن النصوص القانونية تولد في حظيرته ميتة، لا أحد يرجع إليها أو يحترمها، لا الحاكم ولا المحكوم، كل بطريقته، فالنصوص القانونية هي مجرد ورود بلاستيكية!..
فإذا أضيف له آفة التطبيع مع عدو الإنسان والشمس والشجر والحجر -الكيان الصهيوني- فقد فتح الحاكم العربي في وجوهنا ما سمي في الميثيولوجيا الإغريقية ب”علبة باندورا”، فخرجت منها كل الشرور من ذل وخنوع واستنقاع وخمول وجبن وهزائم نفسية واجتماعية وسياسية، ونكوص وسبات وموت الروح بعد موت الجسد.. لتضاف لقاموس الاستبداد والفساد الطويل العريض، المليئ بفقر المعاني، وبلاهة الاستثناء، وتقعر الكلمات، وثرثرات الوقاحة حين ترقص في العتمة، والوعود الزائفة حين تكتب على الثلج، أو ترسم استحقاقاتها على الرمال المتحركة!ّ..
وباء التطبيع انبثق من بنات أفكار الثعلب المذنس “شمعون بيريز”، فعندما سئل عام 1995 هل تخلت إسرائيل عن مشروع إسرائيل الكبرى؟! أجاب بكل وقاحة: ” كبرى اقتصاديا وتقنيا”!.. فقد تقيأ من أحشاءه، ما استقر في نفسه الكريهة، من مشاريع الهيمنة الاقتصادية والتقنية، في بيداء عربية، لا تصلح سوى أن تكون حديقة خلفية لنفاياته ومنتجاته الغذائية المعدلة جينيا، والتي تمثل خطرا على صحة الانسان والحيوان والجماد!!
وقد عانى الكيان الصهيوني الغاصب أشد المعانات، من تكاليف الانتصار خلال حرب العدوان سنة 1967، وما تبعها من توسعات جغرافية، ابتلعت أراضي دول عربية متاخمة، في مصر ولبنان وسوريا والأردن.. مما جعل تكلفة الاحتلال أكبر بكثير من تكلفة الانسحاب، فقد أجبرتهم المقاومة على الفرار كالفئران، في جنح الليل المظلم من قطاع غزة، وتمنوا لو يستيقظون فيجدونها قد غرقت في البحر!!.. وقد خرجوا بالكاد يجرون ذيول الخيبة أيضا من جنوب لبنان، ليتجرعوا مرارة الهزائم، فقرر مهندسوا الاحتلال وعرابوه، أن يستبدلوا مشروع اسرائيل الكبرى جغرافيا، بإسرائيل الكبرى اقتصاديا، فبدأ مشروع التطبيع مولودا خداجا، مع اتفاقية كامب ديفد، التي وصف الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم مخرجاتها بقولته الساخرة “رجعت سيناء وضاعت مصر”!.. وكان من تمراتها اليوم أن اعتبر القضاء المصري في خرجة مهينة كتائب المقاومة الفلسطينية، تنظيما إرهابيا!!
وتلتها اتفاقية أوسلو على أساس معادلة الأرض مقابل السلام، لكن مسلسل السلام انتهى إلى بلع كل الحقوق الفليسطينية، وصولا إلى ما سماه الرئيس الامريكي السابق ترامب بصفقة القرن، والتي مثلت صفعة لكل الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية!..
وتلتهما أيضا معاهدة وادي عربة، وقد انتزعت دولة الكيان الصهيوني بيدها اليمنى ما أعطته بيدها اليسرى من أراضي أردنية كانت تحتلها!..
التطبيع هنا اتخذ طابع الأرض مقابل السلام كمدخلات، وانتهى إلى مخرجات السلام مقابل الاستسلام، لتختفي عبارة الارض وتختزل في أرض منقوصة السيادة “سيناء” أو مستأجرة ومرتهنة”منطقتي الباقورة والغمر” لعدة عقود!! أو محتلة ومستوطنة ” القدس وباقي الضفة الغربية”!..
هذا هو مخاض التطبيع المذل، ومخارجه الكارثية، التي أهضرت الحق العربي، ومرغته في وحل التيه والضلال..
واليوم نعيش طبعة جديدة من التطبيع، أي أن الوباء قد عرف طفرات خطيرة وتطور، ليصبح قاتلا يمارس الإبادة الحضارية، لكل مقوماتنا كأمة وشعوب، ليلحقنا بأخر العربة الصهيونية..
التطبيع اليوم يتخد شعار التطبيع المذل، التطبيع في إطار “صفقة القرن”، بما يعنيه ذلك من تهويد للقدس وهدم للمسجد الأقصى ، وتأكيد يهودية الدولة الصهيونية، وتجريم الحق الفلسطيني، وتمكين اسرائيل من بسط سيطرتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية على كافة المنطقة، مقابل حماية الأنظمة العربية المطبعة من خطر الربيع العربي. الذي يهدد وجودها، وحتى لا يسقط القناع عن هذه الانظمة المطبعة، فقد استخدم مهندسو فيروس التطبيع الذي خرج عن نطاق السيطرة، في طفرته الجديدة، عدة مساحيق تجميلية، لم تزد وجه هذه الأنظمة الكالح إلا بشاعة وقبحا، فقد اتخذ التطبيع على المستوى الإماراتي والبحريني، شكل اتفاق “أبرهام” من منطلق مواجهة خطر الفصائل الفلسطينية المُسَلَّحة التي يصنِّفها أطراف الاتفاق ضمن مُسَمَّى “جماعات إرهابية”، والتمدد التركي الذي يمثل رافِدًا وحليفًا لانتشار الإسلام السُّنِّي المعتدل، الذي يُعَدُّ عَدُوًّا لهما، ووقف وفرملة التحدي الإيراني النووي!!.. واتخذ التطبيع على المستوى السوداني، ذريعة نزع صفة الارهاب عن الدولة السودانية، التي يبحث قادتها العسكريون عن دعم اماراتي وسعودي، قد يأتي أو لا يأتي!.. أما في المغرب الذي له تاريخ عتيد في خدمة الاجنذة الصهيونية، باعتباره كان عرابا لكل اتفاقيات الخزي والعار سابقا، فقد اتخذ التطبيع شكل مخذر، يعادل في مفعوله مخذر القنب الهندي الذي أباح البرلمان المغربي زراعته، وتمثل ذلك في معزوفة دعم الوحدة الترابية، هذا الدعم الذي لازال يراوح مكانه أمام تلكأ الإدارة الأمريكية الجديدة، ليكون توقيعا بدون رصيد، وليلحق المغرب الأقصى بعربات قطار التطبيع المذل، الذي سيدخل بلادنا في مسار ملتبس وغامص!..
والجدير بالذكر ان كل الأنظمة المطبعة اليوم، لا تربطها حدود مع الكيان الصهيوني، ولم تكن بينها وبينه نزاعات مسلحة، مما ينزع عن تطبيعها كل الذرائع، ويجعل منه تطبيعا هجينا، يريد أن يعطي لأنظمة نزفت منها آخر قطرة من الشرعية، نوعا من الحماية والانتذاب، لمواجهة شعوبها بغطرسة وفتك، بدون أن تتلقى أي إدانة خارجية، لذلك ليس غريبا أن نجد هذه الانظمة اليوم تمارس كل أشكال البلطجة والقمع لكل أشكال التعبير، وتستعير من دولة الاغتصاب الصهيوني كل ممارساتها القمعية، من اعتقال وهدم المنازل، واقامة المتاريس والمعابر والحواجز، وتسييج الفضاء العام، ومنع الاحتجاج وتجريمه، ونهب الثروات وتهريبها، والتراجع عن كل المكتسبات السياسية والاجتماعية، وتقليص الخدمات العمومية، وتخصيص الجانب الأكبر من النفقات العمومية، على أجهزة الأمن وبناء الترسانة العسكرية، بتعاون وإشراف دولة الاحتلال الصهيوني!..
هذا هو حصاد وباء التطبيع في طفرته الثانية، والذي يهددنا في كل مقوماتنا كأمة وشعوب مستقلة تنشد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، و ينتشر وسطنا كالجائحة، ليرسخ داخلنا أورام مركب الاستبداد والفساد والتبعية والتطبيع..
التطبيع الذي يوقعه الحاكم العربي اليوم هو الاسم الاخر للعبودية.. فالفرق بين التطبيع والتضبيع حرف واحد، كما أن الفرق بين الحرية والحربة نقطة واحدة.. فكيف للحاكم العربي أن يميز بين الأشياء إذا كانت سحابة الدخان تمتد من نافدة صباحه حتى ستارة ليله المظلم!