الجمعة. نوفمبر 22nd, 2024

رؤية من النفق : حرب “إسرائيل” متعددة الأبعاد.

 بقلم : إيال وايزمان

ترجمة :ريما العيسى
عن موقع: حبر.
نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس، بتاريخ 14 كانون الأول 2021. ويقدم فيه كاتبه الباحث الإسرائيلي إيال وايزمان، مؤسس التجمع البحثي «العمارة الجنائية»، قراءة من الداخل الصهيوني في استراتيجيات جيش الاحتلال بقيادة رئيس أركانه أفيف كوخافي في عدد من العمليات كان آخر في غزة في أيار الماضي، وحدود هذه الاستراتيجيات، بالاستناد إلى تجربة الكاتب الشخصية مع كوخافي. 
بما أن حدود غزة الخارجية باتت مغلقة تمامًا الآن -بالجدران على الأرض والبحرية الإسرائيلية من جهة البحر- انقلب محور الصراع 90 درجة. فكل حملة قصف إسرائيلية جديدة: 2008-2009، 2012، 2014 وأيار 2021 قد دفعت بالمقاومة الفلسطينية أعمق تحت الأرض، لتمدد وتحصن نظام أنفاقها المحكم. فموت أكثر من خمسة آلاف فلسطيني وتدمير حوالي ربع الأبنية في القطاع أتى بالدرجة الأولى من الجو، ولكن الفلسطينيين، من خلال سيطرتهم على ما يقع أسفل الأرض، تمكنوا من متابعة مقاومتهم. 
حفرت أولى أنفاق غزة عام 1982، لربط جزء من رفح بجزء آخر بعد أن تم تقسيم المدينة كجزء من صفقة انسحاب «إسرائيل» من سيناء بعد توقيع معاهدات السلام مع مصر. بعد عقد من الزمن، وبانطلاق أوسلو، باشرت «إسرائيل» بعزل القطاع. استمر ذلك خلال سنوات الانتفاضة الثانية، ما بين الأعوام 2000 و2005، ثم حوصرت غزة تمامًا عام 2007 بعد استلام حماس السلطة. سمح نظام الأنفاق بتدفق الإمدادات الضرورية من مصر إلى القطاع، كالطعام والدواء والبضائع، فضلًا عن السلاح. وقد أتاح أحد الأنفاق الذي حفر عام 2004 أسفل قاعدة عسكرية للفلسطينيين وضع المتفجرات ونسف القاعدة. واختطف المقاتلون الفلسطينيون الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عبر أحد الأنفاق ونقلوه إلى غزة. وقد أفرجت «إسرائيل» عام 2011 عن أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل صفقة لإطلاق سراحه. 
بدأ الجيش المصري بعد انقلاب عام 2013، وفي ظل الرئيس الذي نصب نفسه عبد الفتاح السيسي، بهدم الأنفاق التي تؤدي إلى مصر، لينضم عمليًا إلى الحصار الإسرائيلي. فتم توجيه الأنفاق بالتالي نحو الشريط الحدودي مع «إسرائيل». وفي عام 2014، عبرت مجموعتان منفصلتان من المقاتلين الفلسطينيين الحدود، حيث شنت إحداهما هجومًا على قاعدة عسكرية في الجانب الإسرائيلي من الجدار. وبعد اجتياح «إسرائيل» لغزة في العام ذاته، ذكر جيش «الدفاع» الإسرائيلي بأنه قد «عطل» ما يزيد عن ثلاثين نفقًا، إلا أنه تكبد خسائر فادحة، واختُطف جنديان آخران عبر الأنفاق، يفترض الآن بأنهما ميتان، والمفاوضات جارية لاستعادة جثتيهما. 
إنّ البنية التحت-أرضية هي التي مكنت المقاومة المسلحة من الاستمرار في إطلاق الصواريخ إلى داخل «إسرائيل». وقد شهد النظام التحت-أرضي تحت إمرة محمد الضيف، القائد العسكري الأكثر كفاءة لدى حماس في السنوات الأخيرة، المزيد من التوسع، ليشكل شبكة كثيفة من الأنفاق تمتد ثلاثين مترًا تحت مدينة غزة والشريط الحدودي. وهو ما يدعوه الجيش الإسرائيلي بـ«المترو». وتصطف الجيولوجيا إلى جانب العاملين بالأنفاق. حيث إن التربة الباطنية لغزة هي في الغالب من الحجر الرملي الجاف، الذي يسهل حفره نسبيًا. حيث تتمكن فرق الحفارين العاملين على مدار الساعة ضمن ورديات من 12 ساعة، بالمجارف أو بالحفارات الهوائية المتزايد استخدامها، من حفر وتدعيم 15 مترًا من الأنفاق يوميًا. وقد بات من الضروري تنظيم حركة السير تحت الأرض لتفادي الاصطدامات ما بين فرق الحفر. فالنظام يعمل على غرار نظام المراقبة في الملاحة الجوية: يستخدم تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية لتنظيم الحركة في فضاء ثلاثي الأبعاد. تعرَّف غزة عالميًا على أنها «قطاع محتل»، بيد أن المنطقة تحت سطحها تبدو قطاعًا محررًا.
“المدينة الفلسطينية بالنسبة لكوخافي، ليست بيئة معاشة، ومجتمعًا مستعمرًا يناضل من أجل التحرر، بل هي نظام هندسيّ معقد يحتاج إلى التأويل وإعادة التاويل الذي لا ينتهي، من أجل حلّ المعضلة التي يمثلها.”
وضع الجيش الإسرائيلي جدرانًا خرسانية غائرة حول محيط القطاع، كما استخدم حساسات للكشف عن أعمال الحفر. أما رئيس الأركان الحالي أفيف كوخافي، والمعروف بتفكيره غير النمطي، فقد كان مصممًا منذ أمد بعيد على أن يضع حدًا لحفر الأنفاق. وقد أتاح له اندلاع الاحتجاجات هذا العام في القدس الشرقية والضفة الغربية الفرصة لذلك. فنشرت «إسرائيل» في 13 أيار غالبية سلاح الجو التابع لها: 160 طائرة نفاثة، بما فيها المقاتلات الحربية إف-16 وإف-35، لتحوم على ارتفاعات مختلفة بالقرب من شاطئ غزة، بالتزامن مع تحريك أفواج مدرعات قريبًا من الجدران المحيطة بغزة، ما دفع بالكثيرين للاعتقاد بأنهم على وشك الاجتياح. وبعد منتصف الليل بقليل، في 14 أيار، نقل الناطق الرسمي باسم الجيش إلى المراسلين الأجانب معلومة خاطئة تفيد بأن الاجتياح البريّ قد بدأ.
كان هذا خداعًا تكتيكيًا، الهدف منه تشجيع مقاتلي حماس على اتخاذ مواقعهم في الأنفاق. ومن ثم تلقي الطائرات بقنابلها الخارقة للتحصينات دفعة واحدة، فتقضي على الأفضلية الاستراتيجية الوحيدة والحقيقية لحماس، محولةً شبكة الأنفاق إلى مصيدة للموت. كانت خطة كوخافي المدعوة بالبرق الخاطف قيد التحضير منذ سنوات. وقد قدر الجيش بأنها ستدفن ما بين 600 إلى ألف مقاتل من حماس، وهو جزء حقيقي من قوة غزة المقاتلة، بما فيهم كبار الضباط، وربما الضيف نفسه.
ألقت الطائرات بالقنابل من ارتفاعٍ لتمكنها من اكتساب سرعة كافية كي تتغلغل عميقًا بالأرض. ولكن حتى تصل إلى الأنفاق كان على القنابل أن تمر أولًا عبر أحياء غزة ذات الكثافة السكانية المدنية العالية. يُفعّل فتيل القنبلة عند ارتطامه بسطح، سواء أكان بناءً أو طريقًا أو منطقةً مفتوحة. وتتيح بضعة جزيئات في الثانية من التأخير المبرمج للقنبلة بأن تخترق السطح، وأن تزرع نفسها بعمق في الأرض، قبل أن تنفجر الحمولة الضخمة -وهي عبارة عن طن من المتفجرات، وتعتبر أضخم القنابل في ترسانة سلاح الجو، بحسب الصحافة الإسرائيلية- وترسل موجات صادمة عبر الأرض. أسقطت الطائرات الإسرائيلية في غضون ما يزيد عن نصف ساعة بقليل 450 من مثل هذه القنابل -واحدة كل خمس ثوان- في التربة الأرضية لغزة. وهذا هو المعادل الأرضي لقنبلة الأعماق المضادة للغواصات. 
تهاوت الأبنية في الحي التجاري في غزة، لتدفن معها العائلات وتدمر الطرق والبنى التحتية. استشهد 39 فلسطينيًا تلك الليلة، بحسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، 14 منهم من الأطفال. وفرّت العائلات من المناطق الحدودية، تخوفًا من اجتياح بري، إلى جحيم مركز المدينة. وقالت امرأة عرفت عن نفسها بمريم، أنها شعرت وكأن «غزة بأكملها كانت تهتز (..) وكأن كل شيء قد انقلب رأسًا على عقب، وقد انبعث كل ما في باطن الأرض إلى الخارج، مثل هزة أرضية مستمرة». وقد سُجلت موجات صدمية في المستوطنات اليهودية المجاورة.
وعندما استقرت الأمور على الأرض، في النهار التالي للهجوم، أشاد البعض في الصحافة الإسرائيلية بالعملية بوصفها ضربة معلم، وبكوخافي بوصفه «عبقريًا»، وأفضل أمراء الحرب لدى الشعب اليهودي منذ بار كوخبا الذي قاد في الماضي تمردًا قصيرًا ضد الإمبراطورية الرومانية عام 132، بينما يعتبر كوخافي السيد بحكم الواقع لما يقارب خمسة ملايين نسمة بلا دولة، يجري حكمهم في ظلّ شكل معقد من التمييز العنصري القانوني والقضائي. حينما كان ما يزال مرشحًا للوظيفة الأعلى في الجيش، قورن كوخافي بشخص آخر اعتبر جنديًا إسرائيليًا «بارعًا»، هو إيهود باراك، وقد دارت التكهنات بأنه سيحول أوراق اعتماده العسكرية، مثل باراك، باتجاه السياسة. إلا أن نتنياهو لم يكن يرحب بذلك. وقد صادق على تعيين كوخافي وزير الدفاع آنذاك، القومي المتطرف أفيغدور ليبرمان. حيث احتلّ -مصحوبًا بابتهاج اليمينيين- منصب رئيس الأركان العامة لثلاثة سنوات في مطلع 2019 (مددت لعام إضافي)، مع وعد بجعل الجيش أكثر فتكًا، وكأن عدم الأذية كانت مشكلته الكبرى. وباشر بالتحدث عن «الانتصارات الخاطفة» والاحتجاج على القيود التي تفرضها الحكومة على استخدام القوة، وكأنها قيود جدية. 
وأخيرًا، لم يعترف الجيش إلا في شهر آب، بعد الهجوم بثلاثة أشهر، بأن خطة كوخافي كانت فاشلة. إما لأن حماس قد استشفت الخدعة، أو لأنها قد عززت أنفاقها بشكل جيد، حيث تكبدت عددًا ضئيلًا من الإصابات في الليلة التي اهتزت بها الأرض. واحتفظت حماس بقوتها المقاتلة وقدرتها على إطلاق الصواريخ داخل الأراضي الإسرائيلية. وقد أشعلت مقاومة حماس الاحتجاجات في المدن الفلسطينية المحتلة، مثل يافا واللد، وخلقت تضامنًا بين الفلسطينيين المتفرقين في مناطق مختلفة نظرًا للسيطرة الإسرائيلية. فقدم الفلسطينيون في مواجهة سردية كوخافي حول «الانتصار الخاطف» حربًا طويلة، عنى مجرد صمودهم فيها ومقاومتهم العدو انتصارًا. 
أما أنا فلدي تاريخ مع كوخافي. فقد كتبت قبل 14 عامًا، في كتابي «أرض جوفاء»، حول غارة شنها في نيسان 2002، حين كان آمرًا للواء المظليين في فيلق المشاة، داخل مدينة نابلس ومخيم بلاطة للاجئين على أطرافها. وقد كنت مهتمًا بالطريقة التي ناقش فيها بعض من في الجيش الغارة، مستخدمين مصطلحات من النظرية النقدية، والدراسات ما بعد الاستعمارية والدراسات الحضرية، مطبقين -على وجه الخصوص- مفاهيم ترتبط بدولوز وغواتاري. وقد كان لكوخافي اعتبار هنا، كأحد جنود/شعراء/فلاسفة «إسرائيل» المدعين، وهو دور احتله موشي دايان في الستينيات، حين ادّعى أنه في مرحلة ما قد فكّر في دراسة الهندسة المعمارية (كما فعلت أنا)، ولكنه اختار الفلسفة في نهاية المطاف.
عندما وافقت مجلة «النظرية والنقد» الناطقة بالعبرية، وهي إحدى المنصات الأكاديمية القليلة التي تتيح مساءلة الصهيونية في «إسرائيل»، وتُستهدف باستمرار من اليمين الإسرائيلي، على نشر جزء من نصّي، اتّخذ رئيس التحرير، ودون علم مني، خطوةً غير مسبوقة بإرسال نسخة إلى الناطق الرسمي باسم الجيش، لمنح كوخافي الحق في الرد. وقد برر المحرر ذلك لاحقًا بأنه عدلٌ، من حيث أن ذكر كوخافي في المقال يعتبر عملًا غير نموذجي بالنسبة للمجلة. وقد حدث أن شقيقة كوخافي، وهي من الباحثين البارزين من مدرسة ما بعد الاستعمار، كانت في هيئة تحرير المجلة. جاء الرد كرسالة من محامي كوخافي الشخصي مهددًا بدعوى تشهير. فوجدت هذه فرصة سانحة. فإذا ما ذهبت القضية إلى المحكمة، سأتمكن من الدفاع عن مكتشفاتي وإبرازها أمام جمهور واسع. والأهم من كل ذلك، ستتاح لي فرصة استجواب كوخافي. غير أن المجلة لم تستطع تحمل المخاطرة. فطالبني المحررون بتغيير النص؛ ولكنني رفضت وسحبت المقال. 
تجادل محامو كوخافي ببعض الادّعاءات، التي تعتبر هامشية بالنسبة للدعوى الرئيسة، حول الخلط الغريب ما بين الفلسفة والحرب. لكنهم لم يتمكنوا من الطعن في الاعتراض على كلمات كوخافي، من حيث أنها قد استمدت من مقابلة مصورة أجريتها معه. وقد اقتبسته وهو يصف غارته على أنها «هندسة معكوسة». وكما شرحتُ، فقد بقي جنوده خارج الشوارع وتحركوا من بناية لأخرى من خلال حفر فتحات في الجدران. وتمكنوا بهذه الوسيلة من عبور مدينة نابلس ومخيم بلاطة للاجئين عبر ما كان أساسًا أنفاقًا فوق الأرض، نحتت في النسيج الحضري الكثيف. وقد استخدم الخداع تكتيكيًا هنا أيضًا. «نعزل المخيم تمامًا في وضح النهار، لخلق انطباع بحصار ممنهج قادم»، هكذا جاء في الأمر العملياتي الذي أصدره كوخافي. فقد أراد من المقاومين أن يتخذوا مواقع دفاعية. ومن ثم يقوم جنوده «بمناورة مجزئة، يكتسحون فيها المكان في آن واحد ومن كل صوب (..) حيث تدفع حركتنا عبر العمارات [المتمردين] نحو الشوارع والأزقة، فنقوم بمطاردتهم». ولكن عندما طلبوا الاستسلام رفض، واستشهد سبعون فلسطينيًا. لم يكن الهدف من المناورة احتلال المدينة وإنما قتل الناس ثم الانسحاب. وقد سميت ذلك بـ«اقتصاد الموت».
وصف كوخافي في مقابلة صُورت في مكتبه في قاعدة عسكرية بالقرب من تل أبيب، النظرية المختبئة خلف غارته بلغة مثيرة للاستغراب:
هذا الفضاء الذي تنظر إليه، هذه الغرفة التي تنظر إليها، ليست إلا تأويلك لها، بوسعك الآن أن تمدد حدود تأويلك، ولكن ليس بأسلوب غير محدود، فرغم كل شيء يجب أن تبقى محصورة بالفيزياء، من حيث أنها تحتوي على عمارات وأزقة. ولكن يبقى السؤال هو كيف تُؤول الزقاق؟ هل تؤوّله كمكان، كما يقوم بذلك كل معماري ومخطط للمدن، للسير فيه، أم أنك تؤوله كمكان يمنع السير فيه؟ هذا يعتمد فقط على التأويل. فنحن نُؤول الزقاق على أنه منطقة يمنع المشي فيها، والباب كمكان يمنع المرور منه، والنافذة كمكان يمنع النظر عبرها، لأن سلاحًا ينتظرنا في الزقاق، وفخًا متفجرًا ينتظرنا خلف الأبواب. ذلك لأن العدو يفسر الفضاء بطريقة تقليدية كلاسيكية، وأنا لا أرغب بالامتثال لهذا التأويل وأقع في فخاخه. وليس أني لا أريد الوقوع في فخاخه فحسب، بل أرغب في مفاجأته.
إن هذا هو جوهر الحرب، فأنا أحتاج أن أربح. أحتاج أن أخرج من مكان غير متوقع، وهذا ما حاولنا فعله. لهذا اخترنا أسلوب السير عبر الجدران (..) مثل دودة تلتهم طريقها إلى الأمام، حيث تظهر في نقاط معينة ثم تختفي. وبهذا كنا نتحرك من داخل منازل [الفلسطينيين] إلى خارجها بطرق غير متوقعة وبأماكن غير منتظرة، قادمين من الخلف وضاربين العدو الذي ينتظرنا خلف المنعطف (..) ولأنها كانت المرة الأولى التي يتم فيها اختبار هذه الطريقة [على مثل هذا المستوى]، كنا نتعلم في غضون العملية ذاتها كيفية تكييف أنفسنا مع الفضاء المديني ذي الصلة، وبالمثل، كيفية تكييف الفضاء المديني ذي الصلة بحسب احتياجاتنا (..) لقد تلقفنا هذه الممارسة التكتيكية الدقيقة جدًا وحوّلناها إلى أسلوب، وبفضل هذا الأسلوب تمكنا من تأويل الفضاء برمته بشكل مختلف (..) فقلت لقواتيّ: «رفاق! إن هذه ليست مسألة خيار لكم! فليس من طريقة أخرى للحركة! فإذا كنتم حتى الآن معتادين على الحركة عبر الطرق والأرصفة، تناسوا ذلك! من الآن فصاعدًا سنسير جميعًا عبر الجدران!».
وصفت سيدة فلسطينية تدعى عائشة معاناة مثل هذه العملية بالقول:
تخيّل أنك تجلس في غرفة المعيشة التي تعرفها جيدًا، وهي الغرفة التي تشاهد العائلة مجتمعة حول التلفاز فيها بعد تناول وجبة العشاء (..) وفجأة، يختفي ذلك الجدار بدويٍّ يصمّ الآذان، وتمتلئ الغرفة بالغبار والركام ويتدفق عبر الحائط الجندي تلو الآخر، وهم يصرخون بالأوامر. وأنت تجهل ما إذا كانوا يلاحقونك أنت، أم أنهم أتوا لاحتلال منزلك، أم أن منزلك يقبع في الطريق إلى مكان آخر. يتعالى صراخ الأطفال، ويعمّ الرعب (..) فهل من الممكن أن تبدأ حتى في تخيل الرعب الذي يعانيه طفل عمره خمس سنوات بينما أربعة، ستة، ثمانية، 12 جنديًا، وجوههم مطلية بالأسود، ورشاشاتهم مصوبة، والهوائيات تبرز من حقائب ظهرهم، لتجعلهم يبدون مثل بعوض فضائي عملاق، وهم ينسفون طريقهم عبر هذا الحائط؟
وأشارت عائشة نحو حائط آخر في منزلها تضع فيه رفوف كتب: «ومن هنا غادروا. نسفوا الحائط وتابعوا إلى منزل جيراننا».
إنها استعارة استشراقية أن يعجب الضباط بالمناطق التي يحكمونها. فكوخافي يحب نابلس. وقد قال ذات مرة إنها أجمل مدينة في الضفة الغربية. ورغم أن الغارة كانت أقل تدميرًا من الغارة التي شنت على جنين قبل عدة أيام، إلا أن الدمار في نابلس لم يكن بسيطًا. فقد بيّن استطلاع أجرته المعمارية الفلسطينية نورهان أبو جدي أن أكثر من نصف العمارات في القصبة باتت فيها ثغرات مفتوحة. وتم تدمير بعض الأبنية التاريخية، ومن بينها خان الوكالة الفاروقية الذي يعود إلى القرن الـ18، ومصنعا صابون النابلسي وكنعان.
كان شاليف هوليو أحد الضباط الذين شاركوا في الهجوم على نابلس، وهو الذي أسس لاحقًا مجموعة إن إس أو، التي استخدم برنامجها التجسسي بيغاسوس من قبل حكومات قمعية، من السعودية إلى المكسيك والهند، لقرصنة الهواتف الذكية للصحفيين والنشطاء السياسيين. (بعد التبليغ المكثف عن نشاطات إن إس أو في الصحافة عبر العالم، ومن جانب المؤسسة التي أدرتها، «العمارة الجنائية»، يبدو أن الشركة باتت على الهاوية). بوجود بيغاسوس، انتقلت القرصنة عبر الجدران من الواقع المادي إلى المجال الرقمي؛ جدران الحماية النارية بدل الجدران الحاملة للسقوف. وهذا يعد أشد اجتياح لخصوصيتنا من حيث كون المعلومات المتوفرة في هواتفنا الذكية تكشف عنا أكثر بكثير مما تكشفه محتويات منازلنا. 
إن إشارات كوخافي إلى إعادة تأويل الفضاء تبين تأثره بنظرية ما بعد البنيوية. هو لم يقل ذلك أثناء المقابلة، ولكن مرشده -اللواء المتقاعد الدكتور شمعون نافيه، مدير مؤسسة أبحاث نظرية إدارة العمليات (OTRI) في كلية الدفاع الوطني- كان دائمًا بادي الوضوح حول جذور مقاربة كوخافي. فمنهاج المؤسسة يتضمن الأعمال الأساسية للنظرية. وقد منح كتاب دولوز وغواتاري «ألف ربوة» مصطلحات وجدها المنظرون العسكريون مفيدة، مثل: «الجذامير»، «الفضاء الناعم»، وطبعا «آلات الحرب». كما جرى تطبيق مفاهيم غاي ديبور مثل «الانحراف» (وهو المرور عبر المدينة وكأنها مكان «بلا حدود») و«التحويلة» (وهي تكييف الأبنية لغايات جديدة) على طرق التفكير حول الاستخدام العسكري للهياكل المحلية. ووضعت «تقطعات البناء» للفنان الأمريكي غوردن ماتا كلارك جنبًا إلى جنب لطلاب OTRI مع صور لفجوات في جدران فلسطينية. كما تتضمن القائمة كتابات أكثر حداثة حول العمران والعمارة. ربما يكون «ديريدا مبهمًا قليلًا بالنسبة لجماعتنا»، بناءً على ما قاله لي نافيه. «نحن نتشارك أكثر مع المعماريين؛ فنحن ندمج النظرية بالممارسة. نستطيع أن نقرأ، ولكننا نعرف أيضًا كيف نبني وندمر، وأحيانًا كيف نقتل».
إن استخدام الفلسفة لنقل الاستراتيجية تواجد في جيوش أخرى أيضًا، وليس مستغربًا أن يلجأ الجيش الاسرائيلي إلى الدراسات العمرانية. فالجيوش الغربية كانت ميالة إلى التفكير بالجبهات الحربية المفتوحة خلال الحرب الباردة، وكانت غير مستعدة للتعامل مع البيئات المدينية المادية والاجتماعية والسياسية والتقنية المعقدة. إلا أنه في «إسرائيل» فإن التجاور بين الحقلين العسكري والأكاديمي قد أتاح المجال للتكتيكات المستوحاة من اليسار التنظيري الراديكالي لتجد طريقها إلى ترسانة مشروع استعماري لليمين المتطرف. يحمل نافيه شهادة الدكتوراة من كينغز كوليدج في لندن؛ أما زوجته حنة نافيه فهي منظرة، وعميدة سابقة لكلية الآداب في جامعة تل أبيب. ففي «إسرائيل» حيث التفكير العسكري لا مفر منه والجيش ليس بعيدً بتاتًا عن الحياة اليومية، تجد أن مثل هذه الارتباطات ليست مستغربة. 
إن تقنيات «إسرائيل» في حرب المدن ليست جديدة بشكل خاص. ذلك أن المدافعين عن كومونة باريس، تمامًا مثل أولئك في قصبة الجزائر، أو في بيروت، وجنين ونابلس، يطوفون المدينة في مجموعات صغيرة منسقة بشكل فضفاض، ويتنقلون عبر الفتحات والأنفاق وبين المنازل والأقبية والساحات، مستخدمين ممرات سرية وأبوابًا سرية». وقد كتب لويس أوغوست بلانكي في كتابه المنشور عام 1868، «تعليمات لحمل السلاح» بأن حماية الجيوب المدينية المحكومة ذاتيًا تعتمد بشكلٍ متساوٍ على الحاجز وفتحة الفأر أو الحفر الصغيرة. وقد استوحيت المصادر النظرية في OTRI سواء مباشرة أو بشكل غير مباشر، من ممارسات ونظريات نضالات التحرير. فمن خلال النظرية، تعلم الجيش من أعدائه، فحاكى أساليبهم وكيّفها. ومن خلال النظرية تماهى الجيش -وربما استرسل في التماهي- مع المقاومة التي انطلق لقمعها. إنها المفارقة الإسرائيلية، فرغم السيطرة الكاملة المحلية والإقليمية للدولة، إلا أنها ما زالت تتخيل نفسها تحارب حرب عصابات ضد أعداء أقوى، وتهديدات وجودية. 
يجب الإقرار أيضًا بأن «التحشيد» و«السير عبر الجدران» ربما كان ناجحًا في مواجهة المقاتلين الفلسطينيين الشباب غير المسلحين والمدربين جيدًا، وفي مخيم صغير للاجئين يقع تحت حصار كامل، ولكن عندما واجهت ذات الوحدات الإسرائيلية مقاتلي حزب الله الأقوى والأفضل تسليحًا وتدريبًا في لبنان، في صيف 2006، اختلفت الأمور كليًا. فقد أمر غال هيرش، خريج آخر من OTRI، جنوده في تعليمات العملية، التي باتت مجالًا للتندر على نطاق واسع فيما بعد، أن يحدثوا «تفكيكًا مكانيًا ممنهجًا للبنية التحتية للعدو». ولم يكن لدى مرؤوسيه أدنى فكرة عما يفترض بهم القيام به. وفي تلك الأثناء كان مقاتلو حزب الله أنفسهم يعبرون من خلال الفتحات في الأبنية التي كانوا يدافعون عنها، متسببين بخسائر فادحة للإسرائيليين.
تبخر الكثير من الحماس نحو النظرية بعد حرب لبنان عام 2006. حيث ترك العديد من المرتبطين مع OTRI الجيش. وقد تفادى كوخافي السقوط، حيث كان في غزة آنذاك. وتنقّل سريعًا عبر الرتب، لكنه لم يتوقف قط عن نشر عباراته الرنانة المفضلة: «الخداع»، «لا يمكن التكهن بها»، «التحايل»، «الفتك»، «تعدد الأبعاد». وقد رأى أن مشروعه الكبير يتجلى في تطوير ما دعاه «عقيدة عملية متعددة الأبعاد». كما أنشأ وحدة دعاها وحدة الأشباح، وهي مصممة لإدارة الأعمال الحربية المدينية في مناطق مدنية كثيفة السكان. وتصور الكثير من الوحدات المقاتلة الصغيرة، كل واحدة لديها قدراتها المخابراتية الخاصة وقوتها الجوية بفضل المسيّرات التكتيكية الخفيفة. وقد دُربت هذه الوحدات في بيئات مصطنعة ثلاثية الأبعاد.
وحتى في المرحلة الأخيرة من حياته المهنية، ظل كوخافي يحدث مرؤوسيه أحيانًا عن الفن المعاصر والثقافة. ولكنني أتساءل عما سيقوله روجر ووترز، وهو ناشط مؤيد للفلسطينيين وداعم لحركة مقاطعة «إسرائيل»، إذا ما علم بأن كوخافي يحب استخدام صورة غلاف ألبوم فرقة بينك فلويد «الجانب المظلم من القمر» ليفسر بأن على الوحدات أن تتحرك مثل الأشعة المنكسرة عند مرورها عبر البلور الكريستالي. ولكن رغم النظريات الكثيرة التي قرأها، إلا أن المدينة الفلسطينية بالنسبة لكوخافي، ليست بيئة معاشة، ومجتمعًا مستعمرًا يناضل من أجل التحرر، بل هي نظام هندسيّ معقد يحتاج إلى التأويل وإعادة التاويل الذي لا ينتهي، من أجل حلّ المعضلة التي يمثلها. لقد ادّعى كوخافي دائمّا بأنه يفكر خارج الصندوق، لكن مع اقتراب تقاعده فقد بات من الجلي أنه لم يخرج أبدًا من حدود ذلك الصندوق.

Related Post

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *