بقلم: عبد الرحيم مفكير
إن دواعي اختيار الحديث في هذا الموضوع متعددة من أهمها حاجة النفس البشرية إلى التذكير، والتزكية، والمحاسبة . فالقرآن الكريم ذكر وتذكير ” فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ” الذاريات 45 ، ” وفي آخر آيات سورة الغاشية قوله تعالى. ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22)﴾ والإسلام في تربيته للنفس البشرية جعل لها لحظات يومية وسننا للحساب الفردي، والتنبيه الجماعي. إننا أمة الهداية ” اهدنا الصراط المستقيم” وأمة الخيرية بالتزام شروطها لآية: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾. آل عمران 110،وأمة التبليغ قال عليه السلام ” بلغوا عني ولو آية” رواه البخاري ، ونخن أمة الشهادة قال تعالى ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾. النساء الآية: (41) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ ” وقوله سبحانه ” هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ” الحج 78 . أمة الريادة والقيادة، وأمة الاعتصام بحبل وعدم التفرقة وخيانة العهد والميثاق، وأمة الالتزام بالعهود والمواثيق قال تعالى” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾. آل عمران الآية :103. وأمة المحاسبة والوقوف على الآفات والاختلالات. والقرآن الكريم حافل بأمثلة المحاسبة والمراجعة وتصحيح مسار وسير الصحابة رضوان الله عليهم. وقد تعجب عبد الله بن مسعود وقال لم أكن أعلم أن منا من يريد الدنيا ومنا يريد الآخرة حتى نزل قوله تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚمِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152). ولعل خوض العديد من أبناء حركة التغيير والصحوة الإسلامية غمار المجال السياسي والنقابي والمدني وما يصاحبه من تحديات وحاجة إلى الوقوف مع الذات وتحصين النفس من إغراءات مادية ومعنوية، يؤكد راهنية هذه الأوراق التي سيكون لنا فضل جمعها وترتيبها بالاعتماد على العديد من كتابات الدعاة والمفكرين الذين لهم فضل التنبيه والتصحيح والتقويم. وليست غايتنا تتتبع عورات الناس وهذا منهي عنه شرعا وغير مقبول عقلا، ولا التهويل من ظاهرة الآفات والاختلالات بقدر ما نسعى إلى تنبه أنفسنا وغيرنا لبعض الأمراض المصاحبة لكل من أراد خوض غمار التغيير والإصلاح، والذي لن يتأتى إلا بإصلاح النفس وعدم تزكيتها ” فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ” ” قل هو من عند أنفسكم ” ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” .
إفشاء السروآثاره:
لقد خلق الله الإنسان وجعله خليفته في الأرض، وأكرمه وكرمه، وأنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى، وسخر له الكائنات، وتحمل الأمانة وهو جاهل بعظمها قال تعالى ” إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا” الأحزاب الآية 72. ومن الأمانات أمانة المجلس. وإذا كان الإنسان مدني بطبعه حسب تعبير ابن خلدون، يحب الاجتماع والألفة، ويكره الاختلاف والفرقة، لذلك فهو يجالس أفراد مجتمعه، وتدور في تلك المجالس الأحاديث المختلفة، وتختلف المجالس والجلساء، وجب المحافظة على أسرار المجالس. ومن أجل ذلك فقد كانت رعاية الإسلام للمحافظة على الأسرار يستهدف من ورائها تكوين المجتمع الإسلامي، ووضع التشريعات الضابطة لحماية العلاقات وتنميتها أمر لازم لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المعنوية.ولو أُهملت المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، وسُمح للخيانة وفشو الأسرار بالانتشار؛ لزالت المعاني الإنسانية، كالأمانة وكتمان الأسرار، من حياة الناس، وتحولت الحياة الاجتماعية إلى جحيم لا يطاق[1].
تعريف السر :[2]
في اللغة :- اسم لما يُسر به الإنسان؛ أي يكتمه، وهو مأخوذ من مادة (س ر ر) التي تدل على إخفاء الشيء .. كتاب لسان العرب، لابن منظور. في الاصطلاح: قال الراغب الأصفهاني : السِّرُّ هو الحديث المُكَتَّمُ في النفس .. الذريعة إلى مكارم الشريعة . ويقول الجاحظ : كتمان السر خُلُق مركب من الوقار والأمانة ؛ فإن إخراج السر من فضول الكلام ، وليس بِوَقُورٍ مَنْ تكلم بالفُضُول .. وأيضاً فكما أنه من استودع مالاً فأخرجه إلى غير مودعه فقد خفر الأمانة ؛ كذلك من استودع سراً فأخرجه إلى غير صاحبه فقد خفر الأمانة ، وكتمان السر محمود من جميع الناس ، وخاصة ممن يصحب السلطان ؛ فإن إخراجه أسراره ـ مع أنه قبيح في نفسه ـ يؤدي إلى ضرر عظيم يدخل عليه من سلطانه.
حكم إفشاء السر:
والأسرار تتفاوت فيما بينها من حيث التغليظ في إفشائها إذ منها ما يكون ضرره عاما وعظيما كإفشاء سر إلى الكفار يكون به هزيمة المسلمين أو فوات النصر عليهم وهو ما يصطلح عليه حديثا باسم الخيانة العظمى ومنها ما هو دون ذلك من مثل ما يكون ضرره خاصا، إلا أن كلَّها تشترك في كونها خيانة للأمانة وإخلافا للعهد .قال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا ) الإسراء / 34 ، وقال : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) النساء / 58 .
وإذا كان الحفاظ على السر واجبا فإن إفشاء السر حرام .وقد أسرَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وحفصة بحديث وائتمنهما عليه ، فأظهرتا سرَّه صلى الله عليه وسلم ، فعاتبهما الله تعالى على ذلك .قال تعالى : { وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزوجه حديثا فلمَّا نبأت به وأظهره الله عليه عرَّف بعضه وأعرض عن بعض فلمَّا نبأها به قالت مَن أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } التحريم / 3 .
ثم قال تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } التحريم / 4 ، ( فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه شهرا من أجل الحديث الذي أفشته حفصة لعائشة ) البخاري 5191 ، قال ابن حجر رحمه الله عن هذا الحديث ( وَفِيهِ الْمُعَاقَبَة عَلَى إِفْشَاء السِّرّ بِمَا يَلِيق بِمَنْ أَفْشَاهُ .
وفي السنة النبوية نجد الترهيب من الاطلاع على أسرار الغير وكذلك الترهيب من نشر ما لا ينبغي نشره من الأسرار .
فمن ذلك : التغليظ على من أراد الاطلاع على عورات الآخرين : ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ ) البخاري6902 مسلم 2158.
قال ابن حجر في شرح الحديث : ( وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِم مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ ” مَنْ اِطَّلَعَ فِي بَيْت قَوْم بِغَيْرِ إِذْنهمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنه ” وَوَرَدَ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَصْرَحُ مِنْ هَذَا عِنْد أَحْمَدَ وَابْن أَبِي عَاصِم وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان وَالْبَيْهَقِيُّ … بِلَفْظِ ” مَنْ اِطَّلَعَ فِي بَيْت قَوْم بِغَيْرِ إِذْنهمْ فَفَقَئُوا عَيْنه فَلا دِيَة وَلا قِصَاص ” وَفِي رِوَايَة مِنْ هَذَا الْوَجْه ” فَهُوَ هَدَر ” .
ومثله أيضا : الوعيد في حق من تسمَّع لأسرار غيره ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: … وَمَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ البخاري (7042) والآنك هو الرصاص المذاب .ومن الترهيب من نشر ما لا يحل نشره ما جاء في ذمِّ من نشر سر الزوجية ، وجعله من أشر الناس عند الله منزلة .
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرَّها “. رواه مسلم 1437. وفي رواية أخرى عند مسلم ( 1437 ) : ” إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها ” . ومعنى ” من أعظم الأمانة ” أي : من أعظم خيانة الأمانة .ومن وصايا العرب للعروس : ولا تفشي له سرّاً ، فإنك لو أفشيتِ سرَّه ، أوغرتِ صدرَه .وأسرار البيوت لا ينبغي أن تُفشى ، وقد كان العقلاء وأهل الدِّين يوصون صاحب السرِّ بعدم إفشائه ،فعن ثابت عن أنس قال : أتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان ، قال : فسلَّم علينا ، فبعثني إلى حاجة فأبطأتُ على أمي ، فلمَّا جئتُ قالت : ما حبسك ؟ قلت : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة ، قالت : ما حاجته ؟ قلت : إنها سر ، قالت : لا تحدثنَّ بسرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً .قال أنس : والله لو حدثتُ به أحداً لحدثتك يا ثابت . رواه مسلم ( 2482 .
إفشاء السر من علامات النفاق:
وإفشاء الأسرار من علامات النفاق ، إذ إنه يدخل في خيانة الأمانة .عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” أربع مَن كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومَن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتُمِن خان ، وإذا حدَّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ” . رواه البخاري ( 34 ) ومسلم 58 .
وليس من شرط الأمانة أن يخبر المتكلمُ السامعَ بأن هذا الكلام سرٌّ فلا تخبر به أحدا ، بل يكفي أن تدلَّ القرينة على ذلك كما لو أخذه بعيدا عن الناس ليحدِّثه ، أو جعل يحدِّثه وهو يتلفَّت خوفا من أن يسمع الناس حديثه ، وقدروى الترمذي (1959) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ . حسنه الألباني في صحيح الترمذي .قال في “تحفة الأحوذي” :ثُمَّ اِلْتَفَتَ ” أَيْ يَمِينًا وَشِمَالا اِحْتِيَاطًا ( فَهِيَ أَمَانَةٌ ) أَيْ عِنْدَ مَنْ حَدَّثَهُ أَيْ حُكْمُهُ حُكْمُ الأَمَانَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ كَتْمُهُ . قَالَ اِبْنُ رَسْلانَ : لأَنَّ اِلْتِفَاتَهُ إِعْلامٌ لِمَنْ يُحَدِّثُهُ أَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَسْمَعَ حَدِيثَهُ أَحَدٌ وَأَنَّهُ قَدْ خَصَّهُ سِرَّهُ , فَكَانَ الالْتِفَاتُ قَائِمًا مَقَامَ اُكْتُمْ هَذَا عَنِّي أَيْ خُذْهُ عَنِّي وَاكْتُمْهُ وَهُوَ عِنْدَك أَمَانَةٌ .[3] إن حفظ الأسرار وكتمانها أمانة عظيمة، يجب الوفاء بها، وقد حثَّنا الشرع عليها، وحذَّرنا من فشو الأسرار والتفريط فيها، قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً” سورة الإسراء(34 )، وقال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ سورة المعارج(32). ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان)[4]. وعلى من أُودِعَ سراً أن يحافظَ عليه ولا يفشيه أبداً، وإلا أصبح خائناً، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا ائتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أربعٌ من كُنَّ فيه كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا : إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وإِذَا خَاصَمَ َجَر)[5]، وجاء في حديث عمران ب حصين -رضي الله عنه- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (..إِنَّ بَعْدَكُم يَخُونُونَ ولا يُؤتمنُونَ)رواه البخاري . يقول الكفوي عن عظم المحافظة على الأسرارِ والحذرِ من التساهلِ في التفريطِ فيها: “أوكد الودائع كتم الأسرار”[6].
ولذا؛ فإن المحافظة على الأسرار أمر عظيم لا يقوم به إلا الخلَّص من الناس، وقد أجاب الراغب الأصفهاني عن سبب التفريط الشنيع في المحافظة على الأسرار بقوله : “إن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن الله تعالى وكَّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار مَنْ تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يُمسكها ولا يُطلقها إلا حيثما يجب إطلاقها”[7]..
وإن مما يجب أن يُعْلَم أن أمناء الأسرارِ عزيزٌ وجودهم، فهم أقل وجوداً من أمناء الأموال، “وحفظ المال أيسر من كتم الأسرار”[8]. وخاصة في هذا الزمان!!..إن الإنسان في بعض الأحيان قد يضطر إلى الإفضاء بأسراره إلى بعض أصدقائه من أجل مشورتهم أو تخفيف بعض همومهم، لكن عليه أن يتخير صاحب السِّر، من وُصِفَ بالأمانة والدِّينِ والعقلِ.قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: “القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه”..
لقد آن الأوان لأبناء الصحوة أن يتنبهوا إلى خطورة إفشاء السر لاسيما في ظل التحولات التي تعرفها المجتمعات، وعند انتشار التكنولوجيا، واستعمال الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهيمنة العولمة. فقد أصبح العالم قرية صغيرة، ووضع الناس لأنفسهم حسابات على صفحات الكترونية سهلت الإطلاع على أحوالهم وصورهم وعلاقاتهم، وسهلت لبعض المتربصين بهم فضحهم والتنكيل بهم وتتبع عوراتهم. وبالرغم من مزايا وإيجابيات هذه الوسائل إلا أن سلبياتها لا تعد ولا تحصى. ووجب التنبيه إلى أن بعض العاملين في الحقل الإسلامي وتحت ذريعة النقد وحرية التعبير، والحق في الحصول على المعلومة، شرعوا في إفشاء أسرار المجالس، وخلف هذا السلوك آثارا سلبية وأضرارا نفسية ومعنوية على وحدة التنظيمات ومسار المشاريع. فلنعلم جميعا أن علينا رقيباً حسيباً يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولنكن عند ثقة من أسر لنا بسره ، ولنحفظ الأمانة. ولنتذكر موقف حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أمين سِرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره[9]
=======================
[1] ــ الاتجاه الأخلاقي في الإسلام، د / مقداد يالجن، صـ(102).
[2] ــ صيد الفوائد محمود القلعاوي صدور البرار قبور الأسرار .. “كتاب تهذيب الأخلاق”
[3] ـ انظر وأيضا موقع سؤال وجواب المشرف الشيخ محمد صالح المنجد https://islamqa.info/الكلم الطيب https://kalemtayeb.com/
[4] ــ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم (1453).
5 ــ رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري.
ــ لكليات، صـ( 187). [6]
ــ الذريعة إلى مكارم الشريعة، صـ(297).[7]
[8] ــ أدب الدنيا والدين، صـ (296).
[9] ــ كما في صحيح البخاري.
إعداد : عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير