اسماعيل الحلوتي
لم أجد أمامي من مثل شعبي ينطبق على حال المغاربة عامة والبيضاويين خاصة خلال هذه الأيام العصيبة، أفضل من ذلك الذي يقول: “ما قدو فيل زادو فيلة”. إذ أنه في الوقت الذي مازالت فيه الأصوات تتعالى منددة بتواصل الارتفاع المطرد في أسعار المحروقات، وما ترتب عنه من زيادات صاروخية رهيبة في باقي المواد الأساسية واسعة الاستهلاك، أدت إلى تصاعد موجة من الاحتجاجات الصاخبة المطالبة بمراجعة الأسعار، عبر صفحات التواصل الاجتماعي وفي مختلف وسائل الإعلام.
فإذا بهم يفاجأون بإطلاق عدد من نشطاء الفضاء الأزرق حملة استنكار أخرى، مناهضة لما أعلنت عنه غرفة التجارة والصناعة الألمانية بواسطة حسابها الرسمي على موقع “فيسبوك” من اعتزامها تنظيم مهرجان “البيرة” أو “Oktoberfest Casablanca” لأول مرة في المغرب، وذلك يوم 28 أكتوبر 2022 بمنطقة بوسكورة في ضواحي مدينة الدار البيضاء. وهو حفل اعتاد الألمانيون على إحيائه سنويا بمدينة ميونيخ الألمانية منذ سنة 1810، وتستمر فعاليات مهرجان “تذوق خمرة الجعة” أو ” خمرة البيرة” بلغتنا الدارجة لمدة 16 يوما، حيث يصنف ضمن أكبر مهرجانات العالم على مستوى عدد الزوار المتوافدين عليه. وقد سبق للسلطات المغربية أن منعت تنظيمه سنة 2015 ليس لتعارضه مع قيم المجتمع الدينية، وإنما فقط لعدم احترام المسؤولين عن تنظيمه بعض المساطر القانونية.
وتجدر الإشارة إلى أنه لم يسبق البتة لهذا المهرجان العالمي أن أقيم خارج ألمانيا، وأنها المرة الأولى التي يتم فيها التفكير إلى محاولة تنظيمي في بلد عربي محافظ. ويقوم الحفل الذي يستقبل سنويا أزيد من ستة ملايين “سكيرا” على عرض أنواع “البيرة” وتذوق مختلف أصناف الخمور، حيث يقدر حجم الاستهلاك بملايين اللترات من الجعة الألمانية الصنع خلال فترة المهرجان، التي من المرتقب تقليصها هنا في المغرب إلى بضعة أيام فقط، فضلا عما يرافق ذلك من ارتداء لأزياء تقليدية ترمز إلى الحضارة البافارية، وتقديم آلاف الوجبات من الأطباق الشهية للزوار، الذين يتعين عليهم أداء تذاكر المشاركة مسبقا، والتي تتراوح أثمنتها بين 800 و1000 درهم بالنسبة لأعضاء الغرفة، وما بين 1200 و1400 درهم لغيرهم.
وهو الحدث الذي يمكن اعتباره بمثابة صب الزيت على النار، حيث أثار خبر انطلاق الاستعدادات على قدم وساق بعاصمة المغرب الاقتصادية لاحتضان فعاليات مهرجان “البيرة” الكبير، جدلا واسعا على صفحات التواصل الاجتماعي وأدى إلى تصاعد منسوب الاحتقان في أوساط المواطنين المغاربة، الذين يرفض أغلبهم بشدة أن تعود سلطات بلادهم بعد سبع سنوات، لتسمح في الأخير بإقامة مثل هذه المهرجانات التي تضرب في العمق وبشكل صريح ومباشر قيم الدين الإسلامي والأخلاق الفاضلة التي تربوا عليها، فيما اعتبر البعض الآخر وهم قلة على أي حال أن تنظيم حفل من هذا النوع ببلادنا، هو تجربة إيجابية للانفتاح على أسواق أجنبية جديدة، قد تساهم في الترويج للسياحة بالمغرب.
فمن الأصوات الرافضة لاستقبال مثل هذه المهرجانات التي تمس بتقاليد وأعراف المجتمع المغربي، هناك محافظون بمن فيهم علماء الدين وقوى التيار الإسلامي ممن يعتبرونها خطوة نحو الهاوية، لما تمثله حسب رأيهم من “معصية وفجور” أو هي “مبارزة وقحة لشرع الله تعالى” في بلد شكل على الدوام ثغرة من ثغور الإسلام، تشير بوضوح إلى أن القائمين عليها لا يرجون لله وقارا. إضافة إلى أن الترخيص بتنظيم مهرجان تذوق الخمور نهارا جهارا، يتناقض مع القانون الجنائي الذي يجرم شرب الخمر والاتجار فيه، كما أنه يناقض مقتضيات الدستور الذي ينص في أول فصوله على أن المغرب بلد إسلامي، والإسلام كما هو معلوم يحرم الخمر، إذ يقول جل من قائل في الآية الكريمة 219 من سورة البقرة: “يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما”.
وعلى إثر ذلك، وبصرف النظر عن المبادلات التجارية بين المغرب وألمانيا التي تعرف نموا مطردا، ولدواع أخلاقية ودينية بالأساس يطالب الكثير من المواطنات والمواطنين المغاربة السلطات المعنية في عريضة إلكترونية بمنع تنظيم المهرجان السالف الذكر، باعتباره عملا منافيا للقوانين المغربية ومخالفا للشريعة الإسلامية، تفاديا لما يمكن أن يترتب عنه من انزلاقات أمنية، وسيرا على ما سبق اتخاذه من قرار يقضي بسحب الإعلانات الدعائية له وحظر احتضانه في عام 2015 بسبب موجة التنديد والاستنكار، ولاسيما أن القانون المغربي الصادر عام 1967 يحدد لذلك عقوبة “الحبس لمدة تتراوح بين شهر واحد وستة أشهر وبغرامة تتراوح بين 300 و1500 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل شخص وجد في حالة سكر في الأزقة أو الطرق أو المقاهي أو الكباريهات أو في أماكن أخرى عمومية”
إننا بعيدا عما خلفه اعتزام سلطات الدار البيضاء الترخيص للألمان بإقامة مهرجان “البيرة” على تراب أرضنا المباركة وبين ظهرانينا، من ضجة عارمة وردود فعل غاضبة، ندعو المسؤولين إلى التعجيل بنزع فتيل التوتر وعدم السماح بتنظيم مثل هذه الاحتفالات التي من شأنها أن تجلب لنا العار على غرار المجاهرة بإفطار رمضان تحت ذريعة الحريات الفردية. فبلاد أمير المؤمنين ليست بحاجة إلى ما يلطخ سمعتها ويشكل استفزازا لمشاعر المغاربة، ولا إلى مزيد من الاحتقان في ظل تفشي الفساد بمختلف ألوانه، غلاء المعيشة وارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة واتساع الفجوة الاجتماعية والمجالية…