عن موقع: fanack.
بقلم: جاستن صالحاني
في “ولد من الجنة”، بطل الفيلم آدم هو العدسة التي يرى المشاهد من خلالها الصراع بين الدين والدولة.
لطالما كانت مصر مركز السّينما في العالم العربي منذ أن أنتجت أول فيلم في ثلاثينيات القرن الماضي. وقد شهدت السينما المصرية عصرها الذهبيّ في الخمسينيات، إذ كانت تنتج ما يزيد عن 50 فيلمًا في السّنة، وغالبًا ما كانت تُلقّب “هوليوود الشرق“. أما في عام 2022، فقد اضطُر أحد المخرجين المصريين اللامعين إلى تصوير غالبية مشاهد فيلمه الأخير “ولد من الجنة” في إسطنبول.
ورغم أن اسم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم يرد ذكره في أحدث أفلام المخرج المصري السويدي طارق صالح، فإن عرض صورته الّتي تراقب المؤسسات الحكومية والمقاهي الشّعبية، بشكل دائم، جعله شخصيّة محورية في الفيلم. كما شكّلت قبضة السيسي الحديدية الحبكة بأكملها، إذ تتنقل الشّخصيّات الأخرى في الهوامش الضّيقة الناتجة عن حكمه القمعي، بما فيها بطل الفيلم آدم (توفيق برهوم).
آدم ابن عائلة متواضعة من المنزلة، بمحافظة الدقهلية في شمال مصر، أفرادها يمارسون الصّيد. لكنّه ذهب إلى جامعة الأزهر في القاهرة بعد قبوله فيها تاركًا خلفه أباه الأرمل وشقيقيه الصّغيرين. لكن بمجرد أن يصل إلى الجامعة، يقع حدث جلل في أعرق مؤسسة تعليمية إسلامية في العالم ألا وهو وفاة الإمام الأكبر. وعلى الفور، تجتمع قيادات الأمن الوطني لتعلن لعملائها عن الخليفة الذي تفضّله الدولة، وعن إعداد خطة لإيصاله إلى المنصب. ونجد أن تقوى آدم وبراءته النسبية يتعرّضان للاختبار طوال الفيلم.
يقابل آدم شخصًا اسمه زيزو (مهدي دهبي) ويصادقه. لكن ما لا يعرفه آدم أن زيزو في الحقيقة مخبر للأمن الوطني، يتبع العقيد إبراهيم الذي أدّى دوره الممثل السويدي اللبناني فارس فارس. ويتعين على العقيد إبراهيم أن يناور عبر السياسات الداخلية بينما يحاول رئيسه العنيف الأصغر سنًا ، العميد صبحي (مو أيوب)، التسلق في المراتب الداخلية، وكل ذلك في أثناء محاولته إنجاز مهمته وتنصيب شيخ الأزهر الذي تريده الدولة.
وقد أدّى فارس دور البطولة في فيلم طارق صالح “حادث النيل هيلتون” الصادر عام 2017، والذي تدور أحداثه في أولى أيّام الثورة المصرية، إذ مثّل دور ضابط شرطة كان يشارك زملاءه في ممارسات فساد بسيطة حتى اصطدم بحدوده الأخلاقية عندما طُلب منه وقف التحقيق في جريمة قتل تورّط فيها أشخاص نافذون.
ورغم أنهما عملان منفردان، فإن كلاهما يكمّل الآخر. فكلاهما فيلم إثارة تقليدي. لكن صالح يهدم الحبكة التقليدية حيث تصنع الأعمال البطولية الفردية الفارق في نهاية المطاف. ويُظهر بدلًا من ذلك كيف تقف الأنظمة الفاسدة، التي تُبنى وتُرسّخ مليًا منيعةً أمام نوايا الفرد الخالصة، كما يكشف كيف تهيمن سياسة النظام على ذلك كله.
أي يمكن اعتبار شخصية فارس في “ولد من الجنة” امتدادًا لشخصيته في “حادث النيل هيلتون” بعد أن شاب شعره وتقدّم به العمر وأصابه الضجر من العالم بعدما عايش سياسات الداخلية وعاش عقدًا مثيرًا للسخط منذ ثورة المصريين التي أطاحت بنظام مبارك.
في “ولد من الجنة”، آدم هو العدسة الّتي يرى المشاهد من خلالها الصراع بين الدين والدولة. يعمل آدم لصالح الدولة عن غير قصد مكافحًا تقواه بشعوره بالالتزام تجاه أسرته. وفي الوقت نفسه، يحاول العقيد إبراهيم أن يوازن بين حماية آدم من طلاب الأزهر الذين يؤمنون بوجهات نظر متشددة عن الإسلام ومن قسوة زملائه بمن فيهم رئيسه المباشر، وبين استخدامه أيّ حيلة ضرورية لتحقيق مهمته وتنصيب شيخ الأزهر المختار من الدولة.
ومع تكشّف القصة، يتعلم آدم أن النقاء الذي يرى به الدين ، لا ينعكس بالضرورة في المؤسسات التي تعجّ بصراعات السّلطة والسّاعين إلى تحقيق مصالحهم الشّخصية. كما يتضح أنه في الدول البوليسية الاستبدادية، مثل مصر في عهد صورة السيسي المهيمنة على كل شيء، لا تُوجد مؤسسة إلا ودنّسها الفساد، حتى المؤسسات الدينية. في بيئة مثل هذه، قد يُحدِث اتباع البوصلة الأخلاقية ضررًا أكبر من القبول بالحلول الوسط. وهذا ما يختبره آدم مع إبراهيم، وكذلك مع المرشحين لخلافة الإمام الراحل وزملائه في الازهر.
كانت آراء النقّاد في “حادث النيل هيلتون” إيجابية في مجملها عندما صدر الفيلم عام 2017، إلا أن السيسي لم تعجبه الصورة التي ظهرت بها قوات الأمن في الفيلم. ومنذ ذلك الحين، صار طارق صالح شخصًا غير مرغوب فيه في مصر، ما أدى إلى تصوير غالبية مشاهد “ولد من الجنة” في جامع السليمانية في إسطنبول.
وقد وُلد صالح، 50 عامًا، لأم سويدية وأب مصري. وجاءت رغبته في إخراج فيلم عن الأزهر بعدما عرف أن جده لأبيه درس هناك. ويصف صالح نفسه بأنّه “مسلم عادي“، وفقًا لموقع الجزيرة الإنجليزية.
وأوضح: “لا أصوم ولا أصلي كما ينبغي لي. وأشرب الخمر من حين لآخر. ولا أحفظ من القرآن إلا بضع آيات تعينني على الصلاة. لكنني لا أحفظ القرآن عن ظهر قلب كما كان يحفظه جدي وجدتي”.
وذكر صالح أنّه كتب الفيلم بمساعدة شيخ للحفاظ على دقةِ التفاصيلِ الدينيّة وتجنّب استخدام كلمات معادية للإسلام. يتنقّل “ولد من الجنة” بين تعقيدات السياسة داخل المؤسسات الدينية، ويسلّط الضوء على ضعف النفس البشرية، بما في ذلك النفاق المتكرر. كما يكشف صالح من خلاله، مثلما فعل في فيلمه السابق، أن الوقوف في وجه الدولة الاستبدادية قد يلحق خسائر فادحة بالأفراد. لكن صالح يصرّ على أن قصصه خيالة ويرفض أن يُصوّر على أنّه شجاع.
وقد صرّح للجزيرة الإنجليزية: “أعرفُ مصريين وسعوديين يقولون الحق، فيُسجنون ويُعذّبون، ثُمّ يخرجون ويقولون الحق مرة أخرى. أولئك هم الشّجعان. أمّا أنا، فأحملُ جواز سفر سويدي وأعيشُ في أوروبا”.