أصدر مركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة” العدد الخامس من “التقرير الاستراتيجي” بعنوان “حالة الإقليم: التفاعلات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط 2023″، حيث يرصد ويستشرف أهم الاتجاهات الرئيسية المتوقعة في عام 2023 استناداً للتطورات التي شهدها العالم ومنطقة الشرق الأوسط في 2022، مع تأكيد الصعوبات التي تواجه مثل هذه التوقعات في ظل حالة اللايقين التي يشهدها العالم، وإمكانية حدوث طوارئ أو مفاجآت وسيناريوهات لم تكن في الحسبان.
ويتميز تقرير العام الحالي بزيادة عدد الأشكال التوضيحية والتعبيرية والإنفوجرافيك، والتي وصل عددها إلى 50 إنفوجرافيك تغطي محاور التقارير كافة، بما يساعد على تقديم مزيد من الشرح والتوضيح للمحتوى التحليلي. كما يتسم هذا العدد بتنوع وتعدد الموضوعات المُتضمنة فيه، حيث ينقسم التقرير إلى ستة محاور أساسية؛ الأول يسلط الضوء على التحولات الجارية في النظام الدولي ولاسيما على صعيد العلاقات والصراعات بين القوى الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وأوروبا)، والثاني يتناول سياسات هذه القوى الكبرى تجاه الشرق الأوسط، والثالث يحلل التفاعلات السياسية والأمنية في الإقليم سواءً بين أطرافه الفاعلة أو داخل دوله، والرابع يتطرق إلى الاتجاهات والأزمات الاقتصادية على مستوى العالم، والخامس يبرز التطورات التكنولوجية، وصولاً إلى المحور السادس والأخير والذي يناقش التغيرات المجتمعية والثقافية في العالم.
وينطلق تقرير هذا العام من فرضية استمرار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على العالم ومن ضمنه منطقة الشرق الأوسط، في ظل التوترات بين القوى الدولية وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين. إذ ساد اعتقاد خاطئ، في بداية هذه الحرب، بأنه سيترتب على تصاعد الاستقطاب الدولي أن يتبلور استقطاب إقليمي موازٍ لنظيره الدولي، أي أن الصراعات بين القوى الكبرى في المسرحين الأوروبي والآسيوي ستمتد إلى الشرق الأوسط، لتأخذ الصراعات الإقليمية بُعداً دولياً، خاصة وأن الولايات المتحدة وروسيا هما بالفعل طرفان في بعض الصراعات الإقليمية، على غرار ليبيا وسوريا، فضلاً عن جهود واشنطن لدفع حلفائها حول العالم للتكتل في مواجهة موسكو وبكين. بيد أن ما جرى هو أن القوى الرئيسية الفاعلة في الشرق الأوسط، مثل دول الخليج العربية ومصر وتركيا، تبنت مساراً معاكساً، إذ أنها عملت على استيعاب خلافاتها البينية، والجنوح للتهدئة، وتجنب الاصطفاف خلف القوى الدولية الرئيسية في صراعاتها الدولية، بل ومالت إلى الانفتاح على القوى الدولية كافة بلا استثناء، متخذة من مصالحها الوطنية البوصلة الأساسية التي توجه تحركاتها في هذا الصدد.
وتمثلت إحدى التطورات، التي شهدها الشرق الأوسط خلال الربع الأول من العام 2023، في صعود الدور الصيني، واستمرار تأثير النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في الوقت الذي تواصل فيه الولايات المتحدة تقليص وجودها العسكري للتركيز على صراعها مع روسيا في أوروبا الشرقية، أو على صراعها في جنوب شرق آسيا مع الصين.
ومن ناحية أخرى، مهّدت العديد من العوامل والظروف الدولية والإقليمية الطريق أمام مزيد من أجواء التهدئة بين القوى الفاعلة في الشرق الأوسط، ومنها مثلاً تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، واستمرار التأثيرات الاقتصادية لجائحة “كورونا”، وحدوث زلزالين كارثيين في تركيا وسوريا، وما تبعهما من تعزيز ما يُسمى بـ”دبلوماسية الزلازل”، فضلاً عن انشغال العديد من الدول في المنطقة بترتيب أوضاعها الداخلية في مواجهة التحديات الراهنة التي يشهدها العالم والصمود أمامها، بالإضافة إلى تصاعد تكلفة استمرار الصراعات الإقليمية. وقد ظهرت ملامح هذه التهدئة في اتفاق عودة العلاقات السعودية الإيرانية، وتحسن علاقات تركيا مع دول الخليج ودول عربية أخرى وفي مقدمتها مصر، فضلاً عن التقارب التركي السوري، وغيرها.
وصحيح أن الصراعات الإقليمية الدائرة في سوريا وليبيا واليمن لم تنته تماماً، بل ولا تزال تفرض تحديات غير هينة في سبيل التوصل إلى تسوية سلمية تنهي ما يزيد على عقد من الزمان من الحرب والصراع، غير أن استعادة العلاقات الدبلوماسية بين القوى الإقليمية الرئيسية قد تمهد الطريق أمام التوصل إلى توافقات تنعكس على حلحلة الصراعات السابقة.
وعلى المستوى الاقتصادي، لم يكن وضع الاقتصاد العالمي أفضل حالاً من أوضاع السياسة الدولية، فقد شهدت العديد من دول العالم تصاعداً واضحاً في ديونها ارتباطاً بتوسعها في الإنفاق لتأمين الرعاية الصحية، وتحفيز نمو اقتصاداتها في مواجهة التحديات التي فرضها وباء “كورونا”، ثم لتأمين الغذاء، والذي ارتفعت أسعاره بشدة مع الحرب الأوكرانية. كما عانت أسواق الطاقة من اضطرابات بسبب فرض الدول الغربية عقوبات على الإمدادات الروسية من الطاقة، وهو ما تسبب في رفع أسعار النفط والغاز الطبيعي، وأعاد تأكيد أهمية الوقود الأحفوري كعنصر حيوي في مزيج الطاقة العالمي.
وبالتزامن مع ذلك، شهدت قدرات الذكاء الاصطناعي نمواً واضحاً مع ظهور تطبيق “شات جي بي تي” “ChatGPT”، إذ أصبح يحاكي طريقة تفكير البشر بدرجة كبيرة، ليتحول الذكاء الاصطناعي إلى إحدى التكنولوجيات المُربكة التي تنذر بتداعيات واسعة وتحولات كبيرة في التفاعلات البشرية وأسواق العمل. كما يشهد العالم تطورات كبيرة في تقنيات الواقع الافتراضي، وتوسعاً في خدمات الهواتف المتصلة بالأقمار الاصطناعية، وعلى نحو يدفع للترجيح أن كل هذه التطورات التكنولوجية قد تمثل بدايات ثورة صناعية خامسة.
ومع الدخول إلى حقبة صراعات القوى الكبرى، كان من الواضح أن أبعاد الحرب الأوكرانية لم تقتصر فقط على الجوانب المادية، العسكرية والاقتصادية، بل امتدت كذلك إلى الجوانب الثقافية، مع شروع روسيا في نشر قيمها المحافظة، وتقديمها كبديل أيديولوجي عن الأيديولوجيا الليبرالية المهيمنة على النظام الدولي. وعلاوة على ذلك، ما زالت ظاهرة الهجرة تؤرق الكثير من الدول مع ارتفاع عدد المهاجرين. كما يتزايد اهتمام العالم ودول المنطقة بمواجهة التحديات الناجمة عن التغيرات المناخية، وهو الأمر الذي سيتصاعد في عام 2023 مع استضافة دولة الإمارات في نوفمبر من هذا العام مؤتمر “كوب 28”.
الجدير بالذكر أن “التقرير الاستراتيجي” هو تقرير سنوي يقوم بإعداده خبراء وباحثو مركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”، ويركز على الاتجاهات الرئيسية طويلة المدى التي تشكلت في الشرق الأوسط من خلال تفاعلات العام السابق، والتي يتوقع أيضاً أن تكون الأكثر تأثيراً في حالة الإقليم خلال العام الحالي.