اسماعيل الحلوتي
بالرغم مما اعتمدته حكومة عزيز أخنوش رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار من إجراءات وتدابير بغية مراقبة الحضور الفعلي للموظفين في أماكن عملهم خلال الأوقات الرسمية بالإدارات العمومية، وبالرغم من المساطر القانونية والنظام الإلكتروني المعتمد منذ أزيد من عقد، الذي يتم بواسطته ضبط عملية الدخول إلى مقرات العمل والخروج منها، والسماح كذلك بتنظيم حركة الأشخاص داخل المباني والمرافق واحتساب مدة التواجد بالمكاتب.
فإن الوزيرة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة غيثة مزور المحسوبة على حزب الأصالة والمعاصرة، أبت إلا أن تعترف بقصور النظام الإلكتروني في مراقبة حضور الموظفين فعليا وتحقيق الأهداف المرجوة، لما تعترض تفعيله من صعوبات تكمن بالأساس في عدم الالتزام بمواصلة خدمات الصيانة بعد انتهاء فترة الضمان، واستغلال الأنظمة الإلكترونية في تجميع البيانات الإحصائية المرتبطة بالمدة التي قضاها الموظفون بمقرات عملهم.
بيد أن الخلل لا يعود من وجهة نظرنا إلى ما ادعته السيدة الوزيرة من عدم الالتزام بمواصلة خدمات الصيانة وحسب، وإنما كذلك إلى عدم انضباط الموظفين أنفسهم لأوقات العمل، ضعف الإجراءات والتدابير المتخذة وغياب الحزم والصرامة لدى المسؤولين في اتخاذ القرارات اللازمة في حق المتغيبين، علما أن كل تغيب عن العمل دون مبرر مقبول أو ترخيص مسبق، يعتبر إخلالا بالواجب المهني ويستوجب تحريك المسطرة التأديبية وترتيب العقوبة المناسبة، حسب الحالة المسجلة، طبقا للفصل 66 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.
إذ لا يقتصر الأمر فقط على الموظفين في الإدارات العمومية، بل حتى بالنسبة لنواب الأمة الذين يفترض فيهم إعطاء النموذج الأفضل في النهوض بالمسؤولية الموكول إليهم تحملها، من حيث الاستقامة والانضباط والالتزام بأوقات الحضور للجلسات العامة بالمؤسسة التشريعية، حيث صرحت إحدى البرلمانيات عن حزب العدالة والتنمية خلال جلسة الأسئلة الشفهية ليوم الإثنين 19 يونيو 2023 بوجود نواب برلمانيين عن الأغلبية البرلمانية يستهترون بالمسؤولية المنوطة بهم، وذلك من خلال الاكتفاء بالحضور إلكترونيا عبر بطائق الحضور، مؤكدة على أنه تم رصد بطائق حضور مثبتة في أجهزة تسجيل الحضور لنواب متغيبين، وقيام برلمانية بجمع تلك البطائق ووضعها في حقيبتها اليدوية إلى حين تسليمها لأصحابها، وهو ما يعتبر تدليسا صارخا وخطيرا، والأخطر منه أن الأمر تكرر في اليوم الموالي أثناء مناقشة تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول الاختلالات القائمة على مستوى تدبير وتسيير المرفق العام.
فظاهرة تغيب الموظفين العموميين عن العمل ليست وليدة اليوم، بل هي ظاهرة ما انفكت تؤرق المسؤولين وتعطل مصالح الكثير من المواطنات والمواطنين، إذ أنها لم تفتأ تؤثر سلبا على سير المؤسسات والإدارات العامة، مما أدى بالحكومات المتعاقبة إلى محاولة احتوائها عبر مجموعة من الآليات، ومنها الاعتماد على تطبيق المساطر الزجرية القانونية من قبيل توجيه إنذار أو توبيخ للموظف المتغيب بدون مبرر مقبول والاقتطاع من راتبه الشهري، أو التوقيف المؤقت أو الكلي لنشاط المعني بالأمر، واستعمال الوسائل الإلكترونية والتكنولوجية الحديثة، التي تهدف إلى تتبع حضور الموظف من عدمه، عبر تثبيت كاميرات خارج المرافق العمومية وبداخلها أو وضع أجهزة لتسجيل الحضور الإلكتروني.
ويشار في هذا الصدد إلى أنه من الصعب تحقيق حكامة جيدة ما لم تكن هناك إدارة جيدة، لما يوجد من علاقة قوية بين مبادئ الحكامة والتدبير الإداري، الذي طالما راهنت عليه عديد الدول في تحسين مرافقها العمومية. حيث أن الاهتمامات الكبرى صارت في الوقت الحالي منصبة على المرفق العمومي لدى عدد من المهتمين بقضايا التدبير، وخاصة منها تلك المرتبطة بالشأن العام المفضية إلى التنمية الشاملة. لأن المرفق العمومي يعتبر واحدا من المظاهر الحقيقية لنشاط الدول وأحد أشكال تدخلها في الحياة العامة للمواطنين من أجل إشباع حاجياتهم وتلبية مطالبهم المتزايدة في اتجاه تحقيق المصلحة العامة.
فكان من الطبيعي أن تنكب جهود البحث عن آليات ناجعة ووسائل معقلنة لحسن تدبير المرفق العمومي حتى يكون في مستوى انتظارات المواطنين، وهو ما سعت إليه بلادنا من خلال دسترة مبادئ الحكامة، وأدى إلى التفكير الجاد والمسؤول في العمل على الارتقاء بمفهوم المرفق العمومي، الذي انتهى إلى صدور ميثاق وطني للإسهام في تقوية آليات الحكامة، وبناء صرح ديمقراطي حديث يقوم على حسن التدبير والشفافية والمساواة وربط المسؤولية بالمحاسبة وتعزيز الولوجية للمرافق العامة.
إنه فضلا عما أشارت إليه الوزير “البامية” من وجود معيقات تحول دون ضبط حضور الموظفين، ومنها مثلا افتقار بعض الإدارات إلى الاعتمادات المالية الكافية، لتجهيز مصالحها بما يلزم من أجهزة نظام مراقبة الولوج، وعدم قابلية التصاميم الهندسية لعدد من المباني الإدارية لنصب هذه الأجهزة، فإنه وبالنظر إلى المكانة الهامة التي يحتلها المرفق العمومي للقيام بالخدمات الضرورية التي من شأنها تلبية الحاجيات اليومية للمواطنين، يقتضي الواجب الوطني مضاعفة الجهود في اتجاه تجاوز كل الاختلالات والنقائص القائمة، والحرص الشديد على إشراك الموظفين في تنزيل توصيات المجلس الأعلى للحسابات، الرامية إلى وضع إطار حكامة مناسب لتعميم واستعمال أنظمة الولوج داخل الإدارات العمومية.