عبد الرحيم بودلال
استعمل الوعظ الديني من أجل تقديم تفسير لزلزال الأطلس الكبير مفردات كثيرة استلهمها من التراث الاسلامي، مثل؛ الرادفة والراجفة والرجفة والزلزلة والخسف والصدع. كل هذه الكلمات تعبر عن وقائع حدثت في سياقات تاريخية مختلفة أخبر بها القرآن الكريم والأحاديث النبوية. توضح أن الزلزال يأتي إما أنه عذاب يصيب به الله قوماً فيموتوا مثل ما وقع مع قوم لوط، أو أنه إنذاراً لقوم من أجل أن يتوبوا كما في قصة عمر ابن الخطاب، أو هو دلالة وجزء من أحداث يوم القيامة.
لدى الواعظ الديني أن أي ظاهرة تقع على الأرض فهي بأمر الله تعالى؛ “ما فرطنا في الكتاب من شيء”، وأن الله هو من “يمسك السماوات والأرض أن تزولا”، وبالتالي فالزلزال من أمر الله ومشيئته. يتم النظر إلى الظاهرة ليس بعين العالم الفيزيائي بغرض الفهم والتفسير، بل ينظر إليها بعين الإيمان والاعتقاد. فكل شيء مسطر في القرآن ومحسوم في اللوح المحفوظ. وأن الدين صالح لكل زمان ومكان، فالدين بالإضافة إلى أنه يحتوي العبادات فهو أيضاً يضم العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، ما علينا إلا أن نفتح القرآن فنجد فيه كل شيء.
من هذا المنظور يعد الزلزال ظاهرة مقدسة فوق طبيعية. وإن كانت ظاهرة عادية وطبيعية؛ فإن أسرارها ميتافيزيقية. لهذا علينا أن ننظر إليها بعين الله وليس بعين البشر. والأشياء المقدسة فوق الطبيعية يجب الخضوع والاستسلام لها، وليس محاولة فهمها والتحكم فيها. قد يكون الدين الإسلامي تجاوز المعتقدات الأسطورية في تفسير سبب وقوع الظواهر الطبيعية ومنها الزلزال. كان المجتمع الروماني قديماً يفسر الزلزال أنه عقاب من خالق الأرض للبشر، بسبب افسادهم في الأرض وحفر باطنها واستخراج كنوزها من الذهب والفضة. وعند البابليون أن هناك حيتان ضخمة تسبح في الماء تحت الأرض، هي التي تسبب الزلازل عندما تتحرك. لهذا كثير من المجتمعات القديمة كانت تعبد الزلازل وتسجد للطبيعة من أجل أن تتوقف الأرض عن الحركة فتخف الأضرار. وتعريف الفقهاء والوعاظ لا يخلو أيضاً من بعض هذه الإشارات، من كون الزلزال ظاهرة غريبة غير معروفة، لهذا لا تحتاج إلى العلم بل تحتاج منا فقط الخشوع والرهبة والعودة إلى الله تعالى.
يفسر بعض الوعاظ الزلزال بكونه عقاب من الله، يوظفون الآية من سورة الملك “آمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور”، ليوضحوا أن الزلزال سببه استسهال أمر الله وقدرته بارتكاب المعاصي، وأن الله قادر أن يفتح الأرض فتبتلع الناس كما فعلت بقارون وأمواله. ثم يقدمون نموذج قوم ثمود عندما قتلوا ناقة النبي شعيب، فأصابهم الزلزال بذنوبهم ” فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين”.
تحول النبي شعب وصالح وموسى الذي كان ينذر قومه من وقوع الزلازل والعذاب، إلى الواعظ ورجل الدين الذي ينذر الناس حالياً من مخاطر الطبيعة، وأنه هو منقذهم من الضلال إن استمعوا له واتبعوه.
كما يتم ربط هذه الظواهر بعلامات الساعة وقرب يوم القيامة. وهي علامات منذرة بالهلاك تتطلب التوبة، وأن المؤمن هو الوحيد الذي ينجيه الله من معاصرة علامات الساعة، وعلى رأسها كبير العلامات المسيح الدجال.
أيضا يَعتبر الوعاظ الزلزال رسالة إنذار وتنبيه للغافلين؛ فالله رحيم بعباده ولطيف بهم، لهذا يرسل لهم أمارات وعلامات، واللبيب هو من ينتبه لها. قد يكون الزلزال الذي ضرب فئات قليلة من الناس رسالة للفئات الأخرى من أجل الرجوع إلى صراط الله المستقيم. كما لم يُصب الزلزال كل المغاربة بل القليل منهم، وهذا من لطف الله الخفي. ترددت قصيدة “لطف الله الخافي” للشاعر أحمد لغرابلي بشكل كبير جداً في الاعلام الرسمي المغربي إبان زلزال أكادير؛
يا لطف الله الخافي * الطف بينا في ما جرات بيه القدار
يا نعـم الحي الكافـي * اكـفـيـنا شــر الـوقـت مـا نشوفوا غيــار
يا مول الفضل الوافي * فـضـلك ما يتـنـهـى و لا تحــده اشـطـار
عـجل بدواك الشافي * و ارحـم ضـعف الامة الغارقة فالـوزار
قادر تـبلـي و تعافـي * و تنـسـخ الشـدة بالعـفـو كمـا في الخبـار
والزلزال حسب الوعاظ قد يصيب الجميع؛ صلحاء وفاسدين. لأن المصلحين لم يقوموا بدورهم في منع العصاة من القيام بالمعصية، لهذا يصيبهم العذاب أيضاً لكنهم يبعثون حسب نياتهم وأعمالهم. وأن ميزان الصلاح والفساد لدى الواعظ واضح لا غبار عليه، فالناس منقسمون عصاة وتقاة، ولا يمكن لأحدهم أن يجمع بين التقوى تارة والصلاح تارة أخرى. يتم في هذا الصدد ترويج الآية الكريمة بكثرة؛ “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة”، ثم حديث “أنهلك وفينا الصالحون، قال: إذا كثر الخبث”. وأن وظيفة الداعية هي منع الناس من السقوط في الناس وأن قوم إسرائيل أهلكوا بالعذاب لأن عقلاءهم لم يقوموا بالدعوة والإرشاد.
نجد كلاماً آخر مناقض تماماً لما سبق؛ حيث الزلزال أيضاً شهادة وجنة لمن مات من الناس وليس عذاب، فهؤلاء ليسوا ضحايا أو مذنبين، بل هم “شهداء عند ربهم يرزقون”. في الحديث أن الشهداء خمسة، منهم الذي هُدم عليه المنزل. لهذا فالشهادة مطلوبة في هذه الظواهر ومستحب للإنسان أن يتمنى الموت ليحظى بالجنة والحور العين. ومنه لا داعي لمحاسبة الرجل السياسي على تقصيره في التنمية وعدم توفير البنية التحتية، أو تقصيره في عدم توفير التقنية لاستشعار وقت حدوث الزلزال، لأن الموت هنا أهم من الحياة، وأن رجل السياسة بتهاونه يساهم في إدخال الناس الجنة، “ولدار الآخرة خير وأبقى”.
يتم في هذه الظواهر الزيادة في استعمال تقنية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه في الأزمات يحتاج الناس إلى المهدئات والدعم النفسي، كما يحتاجون إلى شيء يتشبثون به يخفف عنه قوة الصدمة، لهذا قام الوعاظ في منتصف الليل بعد دقائق قليلة من الزلزال في تقديم المواعظ عبر الوسائط الاجتماعية، وقد تضاعفت وثيرة ظهورهم خلال هذه الفترة بشكل يفوق الأيام العادية. يركز الواعظ في هذه المرحلة على دعوة الناس إلى الرجوع إلى نمط من التدين الذي يتباه هو. وفي هذه اللحظات أيضاً؛ يجب على الناس أن تتذكر ما الذي قدمته لله تعالى واليوم الآخر، هي فرصة للمصالحة مع الله تعالى، في الآية “أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله”.
ومن لم يأتيه هذا الإحساس والشعور بالذنب أمام هذه الظواهر الجليلة، فإن قلبه قاس من كثرة المعاصي، لذا عليه أن يراجع نفسه قبل أن تأتيه المنية أو يأتيه الزلزال وهو على تلك الوضعية، وأن يتوب إلى الله تعالى قبل فوات الأوان.
كل هذا يعيد الاعتبار والمكانة للوعاظ ورجال الدين، لأنهم الأكثر فهماً للظواهر الطبيعية ووعياً بها، وهم الوحيدين من يمكن لهم ابعاد الزلزال عن الناس بالدعوة إلى الله فتكثر الحسنات ويكثر الصالحون. وليس بوجود العلمانيين والملاحدة والمشركين، حيث تقوم الساعة على شرار الخلق. ووفق حساب رياضي واضح أن الزلازل تدل على أن المفسدين أكثر من المصلحين. تصبح الأزمات ومنها الزلازل والفيضانات فرصة للاستقطاب الناس لنمط جديد من التدين، فهي فرصة لتخويف الناس من الطبيعية وأن لا ملجأ منها إلا إلى الله تعالى.
في المقالات القادمة سأوضح تفسير الفرق الكلامية والنظريات الفلسفية لظاهرة الزلازل ووجود الشر في العالم وموقع الله من ذلك، من أجل تجاوز النظرة الوعظية التبسيطية.