اسماعيل الحلوتي
فضلا عما بات يقلق راحة المواطنات والمواطنين المغاربة ويؤرق مضاجعهم خلال السنوات الأخيرة، بسبب تواصل موجة الغلاء الفاحش، الناجم عن مسلسل ارتفاع أسعار المحروقات وانعكاسه على باقي أسعار المواد الأساسية، الذي أنهك القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة وذوي الدخل المحدود، ناهيكم عن استشراء الفساد وتصاعد معدلات الفقر والبطالة وخاصة في صفوف خريجي المعاهد والجامعات المغربية، فإنه لا حديث يجري خلال الأسابيع الأخيرة بين البيضاويين، وسكان المدينة القديمة تحديدا، سوى عما تتعرض له بيوت غالبيتهم من هدم ليس فقط بالنسبة لتلك الآيلة للسقوط والانهيار بفعل تقادمها، بل حتى تلك التي خضعت للترميم والإصلاح سواء من قبل ملاكيها أو المكترين أنفسهم.
فما حز في أنفس الكثير من البيضاويين هو تناسل قرارات السلطات خلال الأسابيع الأخيرة، القاضية بإفراغ عدد من البيوت وإجلاء ساكنيها وما شاب عمليات الهدم والتهجير من غموض. حيث انتفضت أعداد غفيرة من المتضررين وخاصة منهم أولئك الذين انخرط أجدادهم وآباؤهم في معركة التحرير ودحر المستعمر الفرنسي الغاشم، مستنكرين لجوء المسؤولين إلى مثل هذه القرارات الارتجالية والعشوائية، التي اتخذ جلها على عجل ودون أدنى مراعاة أو تقدير لما يمكن أن يترتب عنها من أضرار نفسية ومادية ومشاكل اجتماعية، سيما أن عمليات الإخلاء القسري تتم تحت أنظار الأطفال والأحفاد، ودون توفير أماكن لإيوائهم إلى حين إصلاح المنازل، وخاصة تلك التي تعاني فقط من بعض الشقوق البسيطة التي لا تستدعي هكذا قرارات قاسية من شأنها أن تعرض أسرا بكاملها إلى التشرد…
ذلك أنه ليس من السهل ترحيل أولئك الذين ولدوا وترعرعوا وتزوجوا وأنجبوا بنات وأبناء، وأصبح لديهم أحفاد كثر داخل أسوار هذه المعلمة التاريخية، التي تعد بحق القلب النابض لعاصمة المغرب الاقتصادية، وينسب تشييد المدينة القديمة بالدار البيضاء إلى السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757/1797). وقد عرفت عدة ترميمات وإصلاحات في عهد السلطان مولاي يوسف سنة 1913، وهي واحدة من بين أقدم المناطق والأحياء الكبرى التي تضم معالم أثرية رفيعة من أضرحة ومساجد وكنائس وغيرها، حيث لا يمكن أن تكتمل زيارتها دون المرور عبر ضريح سيدي علال القرواني وحصن السقالة، الشاهد على فن المعمار التاريخي والمطل على أكبر ميناء تاريخي، حيث توجد به مدافع إيطالية الصنع موجهة نحو المحيط الأطلسي.
فلا أحد من ساكنة المدينة القديمة يرفض لجوء السلطات إلى إخلاء الدور الآيلة للسقوط والانهيار حفاظا على صحة وسلامة قاطنيها، لكنهم يرفضون التحايل عليهم من أجل تهجيرهم بشكل نهائي إلى مناطق أخرى، ولا سيما أن لهذه المعلمة التي كانت إلى جانب كل من الحي المحمدي ودرب السلطان معقلا لنساء ورجال المقاومة وجيش التحرير، مكانة خاصة لدى قائد البلاد الملهم الملك محمد السادس، الذي سبق أن أصدر تعليماته السامية قبل عقدين من الآن للسلطات المعنية قصد تأهيل وإعادة إعمارها.
حيث أشرف جلالته في العقدين الماضيين ومنذ عام 2011 على إطلاق عدة مشاريع تنموية، تهدف بالخصوص إلى النهوض بقطاع الصناعة التقليدية وتثمين الموروث التاريخي والمعماري للمدينة القديمة بالعاصمة الاقتصادية وتنمية الأنشطة الثقافية والفنية وتحسين ظروف ولوج الساكنة لتجهيزات وخدمات القرب، ومنها على سبيل المثال بناء فضاءين للصناعة التقليدية “دار النسيج” و”فضاء الصانع التقليدي” للمساهمة في الحفاظ على بعض المهن المهددة بالاندثار، وتطوير منتوجات الصناعة التقليدية المحلية ودعم وتنظيم وهيكلة القطاع، تأهيل المعبد اليهودي “التدغي”، ترميم ضريح “سيدي علال القرواني”، إعادة تأهيل “دار الاتحاد” وبناء المركز الصحي “9 يوليوز”، إعادة تهيئة الطرق والساحات العمومية والمدار السياحي، وهو ما يجسد طموحا كبيرا يتماشى وطموحات ساكنتها في المجال الثقافي والسوسيو-اقتصادي والعمراني، سعيا منه إلى صيانة هذه المعلمة وتحسين ظروف عيش الساكنة والارتقاء بالمشهد الحضري للمدينة والحفاظ على موروثها التاريخي والثقافي…
إننا لسنا مستائين من إقدام السلطات المحلية على هدم عدد من البنايات الآيلة للسقوط داخل أسوار المدينة القديمة والتي أضحت تشكل خطرا على صحة وسلامة المواطنين، ولكننا متذمرون من قرارات الهدم حتى في حق المباني التي كلف ترميمها وإصلاحها قاطنيها ميزانيات خاصة، وكذا عدم إيواء قاطني تلك المباني الذين صدرت في حقهم أحكام قضائية بالهدم الكلي وعدم النزول والسكنى، وما يشوب عملية إعادة إيواء البعض الآخر أو الترحيل النهائي من التباس وانعدام الشفافية، فهل وافق عاهل البلاد الذي يولي عناية خاصة بالمدينة القديمة وساكنتها على تهجير البعض والإبقاء على البعض الآخر من المحظوظين فقط؟