القرار الجزائري الأرعن !
في الوقت الذي كشف فيه العاهل المغربي محمد السادس عن نواياه الحسنة ورغبته الأكيدة في التقارب مع أشقائه الجزائريين، موجها إليهم الدعوة مساء يوم السبت 31 يوليوز 2021 عبر خطابه التاريخي بمناسبة الاحتفاء بالذكرى 22 على توليه سدة الحكم خلفا لوالده، إلى طي صفحة الماضي بكل أوجاعه وأحزانه، وبداية أخرى تكون أكثر صفاء ونقاء في اتجاه بناء المستقبل المشترك، بدءا بفتح الحدود المغلقة منذ عام 1994.
وبعد أن أبى النظام الجزائري إلا أن يزداد غطرسة وتنطعا ويواصل معاكسته لمصالح وطموحات المغرب التي بلغت مداها يوم الأربعاء 18 غشت 2021 بإعلان رئاسة الجمهورية عقب الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للأمن عن قرار يقضي بمراجعة العلاقات مع المغرب وتكثيف المراقبة الأمنية على الحدود الغربية، جراء ما اعتبرته في بيان لها “أفعالا عدائية متكررة” من طرفه، وادعاء تورطه رفقة إسرائيل في اندلاع حرائق الغابات التي اجتاحت عدة ولايات شمال البلاد، من خلال دعمهما المزعوم لحركة “ماك” التي يصنفها النظام الجزائري منظمة إرهابية.
ووسط وابل من ردود الفعل الغاضبة على اتهامات المغرب الرخيصة من قبل السلطات الجزائرية، واعتقاد البعض بأن الرد المغربي سيكون قاسيا في خطاب الذكرى 68 لثورة الملك والشعب. عاد ملك البلاد يوم 20 غشت 2021 لحكمته المعتادة، لكن ليس في اتجاه الجزائر هذه المرة، مشددا على تطور المغرب في الاتجاه الصحيح والمنسجم مع قناعاته. إذ فضلا عن تذكيره بما يربط المغرب وفرنسا وبينه ورئيسها إيمانويل ماكرون من روابط الشراكة والتضامن والصداقة والاحترام، لم تفته الإشارة إلى الأزمة السياسية التي عكرت صفو العلاقات مع جارته الشمالية إسبانيا، والتأكيد على استعدادهما لإنهاء الخلافات القائمة…
وفي خضم تصريحات الإشادة بما جاء به خطاب “اليد الممدودة” من مشاعر الأخوة والرغبة في تجاوز الخلافات بين المغرب والجزائر، وكذا بما تضمنه الخطاب الثاني من مؤشر إيجابي عن اعتزام المغرب وإسبانيا الخروج من الأزمة السياسية. سارع على إثره رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو شانشيز إلى التعبير عن امتنانه لملك المغرب على رؤيته الاستشرافية بخصوص بناء شراكة ثنائية على أسس الثقة والتفاهم المتبادلين، ونية بلاده في جعل ما حدث فرصة سانحة لإعادة تحديد الركائز والمعايير، التي تؤطر للعلاقات بين البلدين، حيث قال: “لقد رأينا دائما في المغرب شريكا استرتيجيا لإسبانيا وكل دول الاتحاد الأوروبي” الذي رحب بدوره بهذه الخطوة الجريئة نحو تحسين وتعزيز العلاقات مع فرنسا وبعض الدول الأعضاء.
فإذا بالنظام الجزائري وكعادته في التصعيد المحموم والابتعاد عن أدبيات الحوار وحسن الجوار، يعود في شخص وزير الخارجية رمطان لعمامرة للإعلان من خلال ندوة صحافية عن قرار آخر أكثر رعونة، يقضي بقطع الجزائر لعلاقاتها مع المغرب ابتداء من ذات اليوم الثلاثاء 24 غشت 2021، متذرعة بثبوت ضلوعه في حرائق الغابات وتعاونه مع منظمة إرهابية، شن حملة إعلامية دنيئة ضد الجزائر، التجسس على مواطنين ومسؤولين جزائريين والتخلي عن تعهداته بشأن الصحراء الغربية…
وهو القرار الأحادي الجانب الذي استهجنه الكثيرون، والذي ليس له من أهمية عدا أنه يعكس حقيقة كره “الكابرانات” للمغرب وانهيار معنوياتهم، علاوة على ما أثاره من موجة استنكار وسخرية حتى في الأوساط الجزائرية. بينما اكتفي المغرب بالتعبير عن أسفه لمثل هكذا قرار طائش، يرى أنه كان متوقعا في ضوء منطق التصعيد الذي ظل “نظام الكابرانات” ينهجه خلال الأسابيع الأخيرة، معتبرا أنه قرار غير مبرر، ورافضا ما تم اعتماده من ذرائع مغلوطة…
فالشعب الجزائري الشقيق ليس بالغباوة التي يتصورها شنقريحة الرئيس الفعلي للبلاد وزبانيته، لمحاولة تخويفه من المغرب وإيهامه بأنه مصدر كل شرور والعدو الذي يتآمر على أمن واستقرار بلاده. إذ يرى عديد الملاحظين أن السبب في ما أصاب “العصابة” من سعار، يكمن في عجز عقليتها المتكلسة التي تتخذ دائما من عداء المغرب عقيدة راسخة وتنهل من قاموس الحرب الباردة، عن استيعاب ما راكمه المغرب من انتصارات دبلوماسية انتهت إلى تشكل إجماع دولي على دعم مقترحه بشأن الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، فتح عدة قنصليات بأقاليمه الجنوبية والاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء…
ويدرك الكثيرون أن ليس هناك ما يشغل الدبلوماسية الجزائرية عدا معاكسة المغرب والحيلولة دون تطوره، حيث أنها تكاد لا تكف عن تسخير كل مواردها المالية الضخمة في الحملات المعادية والمضللة. وإلا كيف نفسر مثلا إعلان وزير الخارجية الأسبق عبد القادر مساهل في منتدى رجال الأعمال الجزائريين المنعقد في أكتوبر 2017 عن كون المغرب يغسل أموال الحشيش في بنوكه بإفريقيا، وأن “الخطوط الملكية المغربية” تنقل أشياء أخرى عدا الركاب؟ !
فحين يرفض الرئيس الصوري عبد المجيد تبون فتح الحدود، إنما يؤكد فقط على أن “الكابرانات” لا يريدون أن يواصل المغرب تفوقه الاقتصادي، وأن يكتشف الشعب الجزائري ما حققه من تقدم وازدهار مقارنة مع بلدهم الذي يرزح تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وأنهم عندما يبدون انزعاجهم من استئناف علاقاته مع إسرائيل، فإنهم يخشون من تعزيز علاقاتهما الاقتصادية، لما لذلك من آثار إيجابية عليه من الناحيتين التكنولوجية والبحث العلمي، خاصة أنهما دشنا تعاونهما بطائرات الدرون في قطاعي الفلاحة والغابات، وشروع الطرف الإسرائيلي في دعم بناء مستودعات التبريد والتخزين، على مستوى تصنيع اللقاحات بالمغرب….
إن المغرب الذي تحمل على مدى أزيد من خمسة عقود عسف ورعونة الطغمة العسكرية الفاسدة التي سهرت على إيواء شرذمة من الانفصاليين والمرتزقة في تندوف بهدف زعزعة استقراره، وظل متمسكا بالصبر مراعاة للتاريخ والمصير المشترك والعلاقات الأخوية التي تربطه ببلد وصفه قائده الملهم بتوأم المغرب. مازال قادرا على المزيد من التحمل والاستمرار في نهج سياسة اليد الممدودة، مهما ساءت الأحوال واشتدت العواصف، لما يتميز به من قيم التسامح والتضامن، تلاحم وطني متين ومؤسسات قوية، غير أنه لا يسمح أيضا بأن يتعرض لأي تهديد أو عدوان في ظل ما يتوفر عليه من قوة عسكرية مشهود لها عالميا بالحنكة والكفاءة.