بقلم: هيثم المدوري
في روايته الخالدة، “موسم الهجرة إلى الشمال”، كتب الطيب صالح على لسان ريتشارد، أحد الإنكليز في الرواية: “ها أنتم الآن تؤمنون بخرافات من نوع جديد. خرافة التأميم، خرافة الوحدة العربية، خرافة الوحدة الإفريقية. إنكم كالأطفال تؤمنون أن في جوف الأرض كنزاً ستحصلون عليه بمعجزة، وستحلون جميع مشاكلكم، وتقيمون فردوساً. أوهام. أحلام يقظة”.
على الرغم من الاستعلاء الأبيض الذي يحمله كلام ريتشارد، وما يعكسه من نظرة شمولية غربية إلى شعوب الجنوب، إلا أن ذلك لا يعني أنه مخطئ، أو مجانب للصواب، في ما يخص تفشّي الخرافة والخرافات على الأقل.
ظهور “المنظومة”:
إثر رحيل رأس النظام بن علي، في شتاء 2011، وبعد نجاح الشعب في تحقيق مراده، المتمثل في شعار الثورة آنذاك: الشعب يريد إسقاط النظام، عمّ البلاد ما يشبه تسونامي من الغبطة والاستبشار بغدٍ أفضل. رحل المستبد الظالم. رحل الجاثم على القلوب. رحلت اليد التي تمسك عصا البوليس. مرحباً بالرفاه والرخاء. إلا أن سقف الواقع كان أشد على الأماني المتصاعدة في سماء الثورة. وكان لا بد من مذنب لتحميله قسوة الواقع. في خضم الشعبوية الثورية آنذاك، بدأ الترويج السياسي لمصطلحات الفلول، والأزلام، والثورة المضادة… لتبرير البداوة السياسية التي أظهرتها مكونات السلطة، والمعارضة، وفشلها في إدارة البلاد. ثم تطوّر الخطاب الاحتجاجي تدريجياً، ليحمل شعارات “السيستام” (المنظومة)، والدولة العميقة؛ الـ”هم” الأشرار. ثم توالت الطفرات الاحتجاجية، وشعارات الفعل الاحتجاجي، إلى أن استقرت في السنوات الأخيرة في الحراك الاحتجاجي الشبابي، حول إثمية “المنظومة”، كما ظهرت في شعارات الاحتجاجات الأخيرة في كانون الثاني/ يناير 2021، عبارة: “فاسدة المنظومة من الحاكم للحكومة”.
رحل المستبد الظالم بن علي. رحل الجاثم على القلوب. رحلت اليد التي تمسك عصا البوليس. مرحباً بالرفاه والرخاء. لكن لم ترحل المنظومة. فما هي؟
راج كذلك خطاب الفرز مؤخراً، على ضوء إغلاق الجيش للبرلمان يوم 25 تموز/ يوليو، وصار هذا اليوم يوماً فاصلاً لمنظومتَين: ما قبل 25 تموز/ يوليو، وما بعده، في محاولة لإضفاء رمزية ثورية على هذا اليوم، تشبه يوم “14 كانون الثاني/ يناير”، والفرز الذي صاحبه: منظومتي ما قبل ذلك اليوم، وما بعده. نحاول في ما يلي قراءة ماهية المنظومة، وتفكيك مكوناتها.
عند المقارنة، نجد العديد من المرادفات النسبية لكلمة “منظومة”. نجد السيستام (le système) في المنطوق الاحتجاجي الفرنسي، والإيستابليشمنت (The establishment) في الأدبيات الأنغلو-ساكسونية.
ليست مكونات السلطة فقط:
في الظاهر، تبدو المنظومة، في تمظهرها الضيق على الأقل، مجموعة مكونات السلطة، من رئاسةٍ وحكومةٍ ونواب. وقد تتسع هذه الدائرة لتشمل مكونات أخرى من الجسم القضائي، والإعلامي، والإداري… وتالياً يُفترض أنّ أي تغيير اجتماعي من خارج السلطة (ثورة)، أو تغيير سياسي من داخل السلطة (إصلاح/ انقلاب)، يؤدّي إلى تغيير مكونات السلطة، وجسم الدولة، وتالياً تتغيّر المنظومة، وينتهي الإشكال. وهذا ما حدث فعلاً طوال عشر سنوات مضت: ثورة، وانتخابات متتالية، ومحاولات إصلاح، ثم انقلاب… إلّا أنه على الرغم من ذلك، لا يزال الحديث قائماً حول “لزوم تغيير المنظومة”.
“بالنسبة إليّ، وفي المستوى الأول أو الظاهر، المنظومة هي مجموعة المديرين العامين والجهويين، الإداريين بصفة عامة”. هكذا يجيب أنيس حراثي، أحد مؤسسي “حملة فاش نستناو”، لرصيف22. ويضيف: “من دون هؤلاء لا تستطيع أي سلطة، بما في ذلك رئيس الجمهورية، أن يحرّك كوب ماء من مكانه”. في هذا المستوى، ربما تكفي بعض التغييرات على مستوى الإدارات، تغيير لبعض الأفراد وتحييد للبعض الآخر، حتى نجد منظومةً أخرى.
إلّا أنّ الباحث في “جامعة فارفيك” في المملكة المتحدة، ستيوارت ميدلتون، ذهب أبعد من ذلك. في ورقة بحثية له، نشرتها جامعة كامبريدج بعنوان: “مفهوم المنظومة والتحولات في الخطاب السياسي في بريطانيا منذ 1945″، وجد أن جذور هذا المفهوم، تعود إلى سنوات الثورة الفرنسية، عندما كانت المنظومة الفرنسية آنذاك مكونةً من الكنيسة، ومجموعة الملك، والأمراء، والنبلاء، والأرستقراطيين. في السياق ذاته، يرى الروائي شوقي البرنوصي، في إجابته لرصيف22، أن للمنظومة الحالية امتدادات تاريخية في السياق التونسي: “ورثت تونس منظومتين بيروقراطيتين حد النخاع: العثمانية والفرنسية. مثّل ذلك الإرث حجر الأساس في بناء دولة الاستقلال سنة 1956”.
في الأدبيات المحلية، نجد تواتراً لهذا المفهوم تحت مسمّى آخر، وهو “المخزن” الذي تتشارك فيه مجتمعات شمال إفريقيا المغاربية، كما تعرّض له المؤرخ خليفة شاطر، في مقال بعنوان “دولة المخزن الحسينية وطفراتها (1994)”، الذي يشير فيه إلى طبقة الحاشية المملوكية، الدواوين، كبار الجيش، التجار والفقهاء، كونها تكوّن المخزن، أو المنظومة بالمفهوم الحديث. في السياق عينه، تحدّث الصغيّر الصالحي في كتابه “الاستعمار الداخلي: منظومة التهميش في تونس”، عن صعود البرجوازية الصغيرة إبّان الاستقلال، أو المخزن الأوسط وفق تعبيره في الكتاب، لتحل محلّ المخزن الأعلى الذي كان محسوباً على البايات الحسينيين. يفصّل الصالحي في الكتاب مكونات هذا المخزن الأوسط من الموظفين ذوي التكوين الفرنكفوني/ الصادقي ، والتجار/ الصناعيين من محيط الرئيس بورقيبة، وحزبه الحاكم، بإسناد وظيفي من عناصر ثقافية، وجامعية، وإعلامية.
يتقاطع هذا الطرح مع ما قدّمه هشام جعيّط في كتابه “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي”، إذ يطلق جعيّط مفهوم “برجوازية الدولة”، على طبقة كبار الموظفين والتجار المرتبطة مصالحهم بالسلطة. يعني في النهاية، نجد أن المنظومة هي المستوى الأول: السلطة السياسية، تليها في المستوى الثاني، في شكل نزول هرمي، النخبة الاقتصادية/ الاجتماعية، والإدارية، والأمنية/ العسكرية، ثم في المستوى الثالث، طبقة من الموظفين، والتجار، والنقابيين، والإعلاميين. ويجمع هؤلاء ارتباط عضوي يقوم على جملة من المصالح المشتركة والمركّبة: كأن تضمن أي سلطة وافدة استمرار مصالح النخب، في مقابل التزام الأخيرة بالولاء، وفق منطق التوازنات.
ما يحيلنا إلى الشكل الذي قدّمه فرانسيس فوكوياما، في أطروحته “أصول النظام السياسي من عصور ما قبل التاريخ إلى الثورة الفرنسية” (الجزء 1)، عن هيكلة المنظومات البدائية، والتي نعزّزها بتفصيل الطبقات، ما بين القوسين، بالاستعانة بأدوات التحليل الماركسي: الطبقة العليا المكوّنة من: السلطة السياسية، والنخب (الاقتصادية والثقافية والاجتماعية) إلى جانب كبار الموظفين (في الأمن والعسكر والإدارة). ثم الدولة ممثلة في الأجهزة (الأمنية والإدارية والقضائية). ثم الطبقة الوسطى المكونة من صغار الموظفين، وصغار العمال، والفلاحين، إلى بقية مكونات المجتمع، وهي الطبقة الدنيا.
“المنظومة” في تونس هي ارتباط عضوي يقوم على جملة من المصالح المشتركة والمركّبة: كأن تضمن أيُّ سلطةٍ وافدة استمرار مصالح النخب.
تضمن علاقة الهيمنة هذه، تتضامن المكونات العليا في ما بينها، لضمان بقائها في أعلى الهيكلة، فيما تسعى مكونات الطبقة الثانية إلى البقاء ضمن حدود الطاعة والولاء للمكونات التي في الأعلى، حتى تضمن استمرار امتيازاتها الوظيفية، كالراتب والاستقرار الوظيفي، ولتحافظ على ممتلكاتها الصغيرة، كالمسكن، والسيارة… والارتقاء داخل الطبقة نفسها إلى أعلاها (من طبقة وسطى متوسطة، إلى طبقة وسطى عليا)، أو النجاح في المرور إلى الطبقة العليا، فيما ينشغل من هم في أسفل الهيكلية بالصراع اليومي للبقاء كضرورة وجودية في مرحلة أولى، وكذلك محاولة الصعود نحن المستويات العليا للهيكلية، أو المنظومة.
وعكس ما يظنه الكثيرون، لم يكن زين العابدين بن علي ممسكاً ومتحكّماً، وفق مزاجه، بكل خيوط اللعبة السياسية والاقتصادية. فوفق ما جاء تقرير البنك الدولي لسنة 2014، “ثورة غير مكتملة”، أحاطت ببن علي حلقة ضيقة من رجال الأعمال، تجمعهم إما علاقات مصاهرة، أو براغماتية، في ما يشبه زواج المتعة بين السياسة والمال.
سلطة رأس المال:
للإشارة، لهذه المجموعة من رجال الأعمال ارتباطات بالمنظومة العالمية، أو ما يعرف في الأدبيات اليسارية بـ”التقسيم العالمي للعمل”، كجزء من سلاسل التموين والتوزيع، وسوق استهلاكية، وورشة خلفية للتصنيع ذات قيمة مضافة منخفضة على قدر انخفاض تكلفة اليد العاملة، على الرغم من اختصاصها. ما يعني أن الاستقرار الداخلي لسوق العمل، معتمد في الأساس على استقرار العلاقة بين السلطة السياسة، والنخبة الاقتصادية. من جهة أخرى، وإبّان الثورة، أصدرت مجموعة من الصحافيين الاستقصائيين، المتعاونين مع جريدة “ميديا بارت”، وصحيفة “لو كانار أونشيني”، الفرنسيتَين، كتاباً بعنوان “Tunis connection”، تعرّضوا فيه إلى شبكة الصحافيين والنخبة الثقافية الساهرين على ترويج صورة تونس في الخارج، الحبيبة إلى قلب نظام بن علي، كوجهة اقتصادية مستقرة، ونظام في طور التحول الديموقراطي راعٍ لحقوق النساء، ومتصدّ للإسلام الراديكالي. استنزف هذا النموذج كل إجاباته عن السؤال الاجتماعي الملحّ والضاغط، وارتفاع مؤشرات البطالة والفقر، إلى أن تفجّرت الأحداث في شتاء 2011.
على الرغم من المحاولات المتعددة، الجدية منها والمقنعة، لم تنجح ثورة 17-14، كأداة تغيير من خارج المنظومة، في “تعديل” هذه الهيكلة. إذ أُعيد ترتيب الأوراق عبر التطويع والتزويق. بل صعدت النخب الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، إلى مستوى أعلى من السلطة السياسية، فصارت تتحكم بالتداول الديموقراطي على السلطة، عبر تمويل الأحزاب، وامتلاك أدوات صناعة الرأي، كالإعلام، وشركات سبر الآراء، بما يضمن استمرار مصالحها، وكبح جموح المخاض الاجتماعي الذي تعرفه البلاد، وتعطيل أي حل اقتصادي/ اجتماعي سواء أكان اشتراكياً، استثمار الدولة، أو ليبرالياً بما يعني فتح الأسواق.
بعد الأحداث الأخيرة التي عرفتها تونس يوم “25 جويلية” (تموز/ يوليو)، واستفراد قيس سعيّد بالسلطات الثلاث، باعتماد الانقلاب كأداة تغيير داخلية، وفق الأدبيات البعثية، وأطروحات ميشال عفلق بالخصوص، خُيّل للكثيرين، ربما بينهم سعيّد نفسه، أن تغيير هيكلية السلطة السياسية التي كانت قائمة على التفريق بين السلطات (ولو شكلياً)، وتغيير اللاعبين السياسيين، كافيان لإحداث تغيير اقتصادي واجتماعي. إلا أن للتاريخ، والاقتصاد، أحكامه وسننه التي لا يمكن اختزالها. وكل تحديث سياسي، سواء بالانتقال الديموقراطي، أو الانقلاب نحو الاستبداد بالسلطة، يجب أن يرافقه تحديث اجتماعي واقتصادي، يقدّم في مقدمة ما يقدّم، البديل للنخب الحالية، ويقوم على تحالفات جديدة، وعلاقات مركبة، تفضي إلى تشكّل مصالح وامتيازات أكثر من المصالح القائمة، أو على الأقل تضمن استمرارها، إذ ليس من السهل تدمير منظومة هي جزء من منظومة/ مصفوفة عالمية، بل الأسهل تعديلها، وعقلنتها، وتوجيهها نحو استيعاب وتحقيق أكبر عدد ممكن من المستفيدين منها. الصين الشيوعية في النهار، والرأسمالية في الليل، وكوبا الملتحفة بالشيوعية فوق ماكيناتها الرأسمالية، أبرز الأمثلة على ذلك.