بقلم خالص جلبي
يذكر صاحب كتاب القوة (Power) (روبرت غرين) عن القواعد الثماني والأربعين في لعبة القوة، عند القانون 36 أنه “إذا اعترفت بمشكلة تافهة فإنك تعطيها وجودا ومصداقية، وكلما زاد اهتمامك بعدو فإنك تجعله أقوى، والغلطة الصغيرة كثيرا ما تصير أسوأ عندما تحاول إصلاحها، والشيء الأفضل أحيانا هو ترك الأمور وشأنها، فإن كان هناك شيء تريده ولا تستطيع امتلاكه، فاظهر احتقارك له، فكلما قل الاهتمام الذي تظهره فإنك ستبدو أكثر تفوقا”.
وهذا القانون أو القاعدة النفسية تذكر بقصة الثعلب مع عنب الحصرم، فقد جاء في كتاب (الخرافات) لجان دي لافونتين الذي عاش بين عامي (1621 ـ 1695) أن ثعلبا رأى عنقودا من العنب الشهي المتدلي، فلما أراد الوصول إليه عجز لعلوه على العريشة؛ فقال هذا حصرم رأيته في حلب..
وقصة (بانشو فيا) (تكتب بالأسبانية فيلا وتلفظ فيا Villa Pancho) من القصص التاريخية المثيرة على هذا القانون، فقد بدأ حياته كزعيم لمتمردين من عصابة قطع الطرق، ولكنه بعد اندلاع ثورة المكسيك عام 1910م أصبح بطلاً شعبيا، فبدأ ينهب القطارات، ويوزع الأموال على الفقراء، ويسحر الحسناوات بمغامراته الفروسية. فكان مزيجا من روبن هود ودون جوان، غير أنه بعد سنوات قليلة من القتال المرير، برز الجنرال (كارّنزا) منتصرا في الثورة، وعاد (فييا) وجنوده إلى وطنهم في ولاية (شيهواهو) الشمالية. وتضاءل جيشه وعاد إلى قطع الطرق مما أضر بشعبيته، وأخيرا ـ ربما نتيجة اليأس ـ بدأ يشتم الولايات المتحدة والغرباء على متاعبه.
وفي آذار من عام 1916م ولسبب مجهول، أغار بانشو وعصابته على كولومبوس بولاية نيو مكسيكو؛ فقتلوا 17 أمريكيا بين جندي ومدني.
وكان الرئيس الأمريكي يومها (وودرو ويلسون) مثل كثير من الأمريكيين معجبا بفيلاّ، أما بعد تلك الغارة فكان لابد من معاقبة قطاع الطرق، فلما استشار من حوله قالوا له إن السكوت على هذا يعني إعطاء أسوأ الإشارات عن ضعف أمريكا، فلا بد من إثبات رجولته بإصدار الأمر باستخدام القوة، مع أن ويلسون في عمومه كان مسالما، وهو من وضع المباديء الأربعة عشر في إرساء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى.
كان الضغط على ويلسون قويا، وقبل أن ينتهي الشهر وبموافقة حكومة (كارّانزا) أرسل جيشا من عشرة آلاف جندي للقبض على بانشو فيلا، وسمي ذلك المشروع (الحملة العقابية)، كما هو الحال في حملة إسرائيل على لبنان في صيف 2006 م باسم (الجزاء المناسب)، وكان قائد الحملة هو الجنرال المندفع (بيرشنغ) الذي دحر من قبل المحاربين غير النظاميين في الفلبين، وكذلك الأهالي الأمريكيين الأصليين في الجنوب الغربي الأمريكي، فكان من المؤكد أنه سيدحر الشقي بانشو فيلا.
وصارت الحملة قصة مثيرة، وكتب العديد من المراسلين الصحفيين، أن الحملة ستكون الاختبار الفعلي للقوة الأمريكية، وكان الجنود يحملون أحدث الأسلحة يومها، ويتصلون باللاسلكي، ويدعمهم استطلاع جوي، كما هو في الحملة الإسرائيلية على لبنان.
وفي الأشهر القليلة الأولى انقسمت القوات الأمريكية إلى وحدات صغيرة لتمشيط البراري الوعرة في شمال المكسيك، ووضعت جائزة خمسين ألف دولار على رأس بانشو فيلا.
ولكن الشعب المكسيكي الذي كان قد سخط على بانشو فييا صار يعبده الآن، لأنه يواجه جيشا أمريكيا، فبدأ الناس يعطون الجنرال بيرشينغ معلومات مضللة، فترسل الطائرات ويشتغل القصف ولكن لم يره أحد أبدا. وبدا أن قاطع الطريق، ظل سابقا العسكريين الأمريكيين خطوة على الدوام.
وبحلول صيف 1916م كانت الحملة قد تضخمت إلى 123000 رجل، فراحوا يعانون من الحرارة المسببة للجنون، والبعوض، ووعورة التضاريس، وأخذوا يزحفون بجهد عبر الأرياف وسط أناس ساخطين على وجودهم، فأثاروا ثائرة السكان المحليين، والحكومة المكسيكية على حد سواء، وفي إحدى المراحل كان بانشو مختبئا في كهف جبلي يتعافى من جرح بالرصاص، تمكن من رؤية بيرشنغ من وكره المرتفع، يقود القوات الأمريكية المرهقة جيئة وذهابا في الحر عبر الجبال دون ان يقتربوا من هدفهم قط.
وطوال الطريق عبر فصل الشتاء، ظل بانشو يمارس لعبة الفأر والقط، وأخذ الأمريكيون يرون القضية كنوع من المهازل التهريجية الرخيصة الفظة، بل راحوا يحترمون بانشو فيلا ويعجبون به.
وفي كانون الثاني من عام 1917 م بعد 11 شهرا من الحملة وارتفاع عدد الجنود أحد عشر مرة، وفداحة الإصابات، أمر ويلسون بسحب بيرشنغ آخر الأمر، وطوال الطريق، والقوات الأمريكية قافلة للوطن، كانت مشغولة بصد هجمات قوات المتمردين، التي كان تتمتع بالعبث بها وضربها كيفما اتفق، في ذل ما بعده ذل لأقوى دولة.
وأدت الحملة العقابية عكس مفعولها. فقد تركت بانشو فيلا ليس طليقا فحسب؛ بل متمتعا بشعبية أكثر من ذي قبل.