بقلم : نايب ريفيرا ويوهانس كويتل.
في العديد من البلدان المتقدمة، أدت جائحة كورونا إلى حدوث تحولات جذرية في أسواق العمل. وما بدأ كنقص متزايد في العمالة في عدد قليل من الصناعات سرعان ما تحول إلى ما أُطلق عليه “الاستقالة الكبرى”؛ أي وجود عدد قياسي من العمال الذين لم يعودوا إلى وظائفهم بعد انتهاء حالات الإغلاق العام الأولي. في الآونة الأخيرة، ظهرت شواهد على أن هؤلاء العمال لا يغادرون بالضرورة سوق العمل تماماً. وبدلاً من ذلك، فهم يعيدون تقييم مسارات حياتهم المهنية، أو يغيرون القطاعات التي يعملون فيها، أو يبحثون عن وظائف يضطلعون فيها بمزيد من المسؤوليات، أو يبدأون أعمالهم الخاصة، أو يتجهون إلى العمل الحر. ويؤدي هذا الأمر إلى نقص في العمالة بسبب تنقل العمال في سوق العمل بحثاً عن فرص أفضل. وفي حقيقة الأمر، ما تشهده هذه البلدان مرتفعة الدخل ليس تلك الاستقالة الكبيرة، بل هو بالأحرى “التحول الكبير في توجهات العمالة”.
ولإيجاد برهان وشواهد على حدوث مثل هذا التحول الكبير، يكفي النظر إلى ما يحدث في المملكة العربية السعودية. يشهد سوق العمل في هذا البلد الغني بالنفط أحد أسرع حالات التحول في العالم. فالمواطنون السعوديون – ولا سيما السعوديات – ينضمون إلى سوق العمل بمعدلات غير مسبوقة، وهو اتجاه ربما أطلقته الإصلاحات الأخيرة التي تهدف إلى تشغيل الإناث. وعلى عكس معظم البلدان مرتفعة الدخل، زادت المشاركة في قوة العمل في السعودية بالفعل في أثناء الجائحة. وفي الوقت نفسه، تترك أعداد كبيرة من العمال الأجانب – الذين يشكلون ما يربو على 70% من الأيدي العاملة في القطاع الخاص – وظائفهم، مما يؤدي إلى انكماش حاد وسريع في إجمالي العمالة. كما اختفى نحو مليون وظيفة منذ بداية الجائحة.
في الواقع، بدأ ظهور شواهد على إعادة توزيع العمالة في المملكة بعد انتشار الجائحة. وقد تضاعف تقريباً حجم تحركات العمالة من قطاع إلى آخر – أي عمليات التوظيف وحالات ترك العمل في آن واحد – في الربعين الأخيرين من عام 2021 عن العام السابق. وارتفع عدد المواطنين السعوديين الذين يتركون وظائفهم في الربع الثالث من عام 2021 بنسبة 95% عن العام السابق. وزادت نسبة حالات الاستقالة من العمل في الربع الثالث من عام 2021، لتبلغ 3% من إجمالي العمالة في القطاع الخاص. كما ترك نحو 270 ألف عامل – معظمهم سعوديون – وظائفهم في الربع الثالث من عام 2021 في مقابل 134 ألف عامل في الربع الثالث من عام 2020 و152 ألف عامل في الربع الثالث من عام 2019. ومن ناحية أخرى، تزداد وتيرة توظيف عمال جدد بعد تراجع حالة الركود المرتبطة بالجائحة في العام الماضي. ويبلغ معدل تحركات العمالة من قطاع إلى آخر – الذي يُعرَّف بأنه مجموع التعيينات الجديدة وحالات الاستقالة كنسبة من جميع الوظائف – في القطاع الخاص السعودي 6.7% من إجمالي العمالة.دائماً ما تشهد سوق العمل تحركات العمالة من قطاع إلى آخر، ولكن زيادة هذه التحركات عادة ما تكون دليلاً على القوة التي تكتسبها أسواق العمل. وتشير تحركات العمالة هذه إلى معدل تغيّر العاملين الذي لا يتعلق بتوفير فرص العمل أو تقويضها، لذلك فهي لا تُعد مقياساً لصافي فرص العمل الجديدة وإنما هي مقياس لمرونة سوق العمل. وإذا انتقل العمال إلى وظائف وشركات وقطاعات أكثر إنتاجية، فيمكن أن يؤدي ذلك إلى تعزيز الإنتاجية، ومن ثم يحدث تطور إيجابي. ويمكن أيضاً أن يؤدي تزايد وتيرة إعادة توزيع العمال إلى تحقيق توافق أكثر كفاءة بين العمال والمهارات والوظائف.
بالإضافة إلى ذلك، فإن حرية انتقال العمالة الأجنبية آخذة في الازدياد. ففي الربع الثالث من عام 2020، زادت عمليات انتقال العمالة إلى وظائف أخرى بنسبة 23% مقارنة بالعام السابق، ولكن بحلول الربع الثالث من عام 2021، ارتفع ذلك المعدل السنوي إلى 93%. وقد أتاحت التغييرات الأخيرة التي أُدخلت على نظام الكفالة للعمال الأجانب إمكانية تغيير أماكن عملهم.
ما سبب هذا التحول الكبير؟ لا تزال العوامل الدافعة لهذا التحول الكبير في جميع أنحاء العالم يشوبها الغموض. وتأتي التجربة الأكثر أهمية من دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. ففي الربع الثالث من عام 2021، بلغ عدد حالات الاستقالة في الولايات المتحدة 4 ملايين حالة، وهو رقم قياسي بلغ 3% من إجمالي فرص العمل في الأنشطة غير الزراعية. وكانت نسبة الاستقالات أعلى في بعض قطاعات الخدمات، مثل خدمات الإقامة والغذاء (7%)، والترفيه والضيافة (6%)، والتجزئة (5%)، مما يشير إلى أن العمال يبحثون عن فرص أفضل في قطاعات أعلى إنتاجية. وفي هذا السياق، يتمتع العمال بقدرة أكبر على التفاوض من أجل الحصول على أجور أعلى وظروف عمل أفضل.
في السعودية، يمكن أن يكون الدافع وراء هذا التحول هو تحسن الظروف الاقتصادية وتشديد أوضاع سوق العمل. ويرجع الفضل في هذا النشاط الاقتصادي الآخذ في التعافي إلى ارتفاع أسعار النفط والنمو القوي المثير للدهشة في الأنشطة غير النفطية. ومع استمرار انخفاض نسبة العمالة الأجنبية ووصول معدل البطالة بين السعوديين إلى مستويات قياسية (11.3%)، قد يواجه أصحاب العمل مزيداً من الصعوبات في العثور على العمالة المؤهلة لتحقيق الإنتاج المطلوب.
من جهة أخرى، قد تسهّل ظروف سوق العمل الأكثر ملاءمة أيضاً انتقال العمال إلى وظائف أفضل بأجور أعلى. كما أن متوسط أجور العمال السعوديين آخذ في الارتفاع (الشكل 2)، لا سيما السعوديين الحاصلين على مؤهلات عليا. وفي الواقع، تشهد أجور السعوديين الحاصلين على شهادات جامعية زيادة أسرع، بنسبة 6%، مقارنة بنسبة الزيادة في أجور الحاصلين على التعليم الثانوي، التي تبلغ 1%. علاوة على ذلك، يتزايد تركز الوظائف الجديدة في المهن التي تتطلب مهارات عالية. وقد انضم نحو نصف الموظفين السعوديين الجدد (51%) في الربع الثالث من عام 2021 إلى وظائف الفئات الفنية أو الوظائف المرتبطة بها، مقارنة بنسبة 15% قبل عام. وقد تشجع الأجور الأعلى وتوافر فرص عمل أكثر ملاءمة العمال السعوديين على ترك أعمالهم والبحث عن فرص أفضل في وظائف جديدة.
وربما توجد عوامل أخرى. وتُظهر الدراسات وجود تفضيل قوي للعمل عن بُعد أو الترتيبات المختلطة، حيث تكتسب المرونة في العمل أهمية متزايدة للعمال. ويمكن أن يحدث هذا الأمر في السعودية أيضاً. ووفقاً لإحصاءات موقع جوجل، زادت عمليات البحث عن مصطلح “وظائف” بالتزامن مع العمل عن بُعد في المملكة بنسبة 190% في العامين الماضيين. وكما هو الحال دائماً في السعودية، يجب مراعاة دور مبادرة نطاقات – وهي سياسة تفرض على الشركات توظيف عدد معين من السعوديين. على سبيل المثال، فقد تضاعف عدد حالات الاستقالة بين السعوديات العاملات في القطاع الخاص في العامين الماضيين. وقد يمثل هذا الأمر أيضاً نهاية لظاهرة “التوظيف الوهمي” التي أوجدتها مبادرة نطاقات. واليوم، بعد أن أُتيحت فرص أكثر للنساء في الاقتصاد، فإن النساء اللاتي اضطرت الشركات لتوظيفهن على الورق لا لشيء سوى الالتزام بالنسبة التي تفرضها مبادرة نطاقات يقدمن استقالاتهن للبحث عن عمل حقيقي.
على أي حال، قد يمنح وجود سوق عمل أكثر ديناميكية القوى العاملة السعودية مزيداً من إمكانية التحرك والقدرة على التفاوض من أجل الحصول على أجور أعلى وظروف عمل أفضل. وسوف تتوقف ترجمة هذه الاتجاهات إلى زيادة في الإنتاجية في نهاية المطاف على مدى إعادة توزيع العمال من الشركات منخفضة الإنتاجية إلى الشركات عالية الإنتاجية.