بقلم: بواسطة جمال شحيّد.
ربّ قائل لماذا العودة إلى الأحداث القاتمة التي اعتورت تاريخنا وشوّهته؟ لا تكون الإجابة على هذا الحدث بطمسه، وإنما باعتباره درسًا ـ ولو أليمًا ـ كي لا يستعاد. هذا ما توخّته ديمة الشكر في روايتها “أين اسمي؟” الصادرة عن دار الآداب، 2021.
تتكرّر في الرواية جملة تقول: “لقد كانت عملية ذبح ممتازة”. قالها المستشرق ريتشارد فرنسيس بيرتون، الذي تهيمن شخصيته على الرواية. والمقصود بعملية الذبح، المذبحة التي حدثت في دمشق في 9 تموز/ يوليو من عام 1860، والتي راح ضحيتها أكثر من 5000 مسيحي دمشقي في أحياء باب توما، وباب شرقي، والقيمرية.
تتألف رواية “أين اسمي؟” من فصلين متفاوتين في الطول. الفصل الأول بعنوان “قمّور” (وهي الشخصية الأساسية في الرواية)، وينتهي في الصفحة 177 بتاريخ “دمشق 1901″، والثاني بعنوان “زينة”، وينتهي في الصفحة 238 بتاريخ “دمشق 2018″، وفيه تُقفل الرواية.
كان عُمْر قمّور سبع سنوات عند اندلاع المذبحة التي قُتلت فيها أمها، ونجت هي وأخواها الصغيران وأبوها وعمّها وخالتها، إذ لجأوا إلى دارة الأمير عبد القادر الجزائري.
في عام 1869، تصبح قمّور خادمة في بيت القنصل الإنكليزي، ريتشارد فرنسيس بيرتون، وزوجته إيزابيل، اللذين سكنا في الصالحية. يُعلّمها القس وليام الساكن في الشارع المستقيم اللغة الإنكليزية، بحيث صارت تتقنها. ويبقى القنصل بيرتون في منصبه في دمشق حتى عام 1871، إذ عيّن قنصلًا في مدينة تريسته الإيطالية. وبهذا التعيين يُنهي حياته الدبلوماسية، ويتوفى عام 1890. بقيت قمّور في خدمة إيزابيل وريتشارد 22 سنة.
“تتكرّر في الرواية جملة تقول: “لقد كانت عملية ذبح ممتازة”. قالها المستشرق ريتشارد فرنسيس بيرتون، الذي تهيمن شخصيته على الرواية. والمقصود بعملية الذبح، المذبحة التي حدثت في دمشق في 9 يوليو من عام 1860″
في هذا الفصل، تدور الأحداث الأساسية للرواية: طفولة قمّور، المذبحة، السفر مع عائلة بيرتون إلى تريسته، عملها في نسخ الكتب، وتدوين شهادات بالإنكليزية تتعلق بروايات الناجين عن المذبحة، إقامتها في تريسته خمس سنوات، عودتها إلى دمشق، زواجها من حنا المسك، من دون أن ترزق بأولاد.
وتستلم السرد من ثم طالبة دمشقية اسمها زينة درست العمارة في جامعة دمشق، ثم تابعت دراستها في لندن، وبدأت ببحث يتعلق بالقيشاني الدمشقي؛ وفي لندن تتعرف على الأستاذ الجامعي المستشرق، أوين مورغان، الذي يعيرها كتابًا ذا غلاف أزرق، وعنوانه: “ما جرى في دمشق حين فُقد السلام” لقرين ترجمان القنصلية البريطانية سابقًا، هانا الميسك، البطريركية الكاثوليكية، دمشق. وعن طريق هذا الكتاب، تستذكر زينة أحداث 1860، وتربط بينها وبين أحداث الزلزال السوري الأخير عام 2011.
رواية استذكار:
رواية “أين اسمي؟” هي رواية استذكار بامتياز. وكثيرًا ما تتكرر كلمات: ذكرى، ذاكرة، تذكّر، استذكار. تقول قمّور: “زوجي حنا لم يُشفَ من ذاكرته، وطمر الماضي حين تزوّجني، ليكتشف أنه تزوّج تلك التي تذكّره كل يوم بما أراد نسيانه” (ص22).
وهي أيضًا أرادت أن تنسى، ولكن عبثًا. تنهال الذكريات الواحدة تلو الأخرى، لأنها ولدت من المذبحة، فتقول: “أنا السورية ابنة المذبحة، ولدتُ من هذا اللفظ الصغير المرعب، وعشت على حوافه المسنّنة” (ص24).
تذكّرتْ كيف أخذها عمها لرؤية الأمير الأبيض، عبد القادر الجزائري. تقول: “نظرة من الأمير كانت كافية لرتق ثقب هائل في ذاكرتي المرّة” (ص25). تذكّرت اليوم الذي شاب فيه شعر العم؛ تذكّرت 9 تموز/ يوليو، الثانية بعد الظهر: “امرأة في الثلاثين. سبع ضربات خنجر. اثنتان في الصدر. اثنتان في البطن. وثلاث أسفل الرقبة. على أرض غرفة النوم. قرب خزانة الصدف.
رضيعة. خمسة شهور. ضربة خنجر في الصدر. فوق جسد امرأة في الثلاثين.
طفل في السابعة. ضربتان من بلطة. ضربتان على الرأس. على أرض غرفة النوم. قرب خزانة الصدف.
طفلة في الخامسة.
ضربتان من بلطة. ضربتان على الرأس. على أرض غرفة النوم. قرب خزانة الصدف.
رجل ثلاثيني. ضربة سيف بتّار. رأس مفصول عن الرقبة. قرب الديوان. أمام باب القاعة.
رجل ستيني. سكين أو خنجر. ضربة في القلب. أرض الديار. تحت عريشة اللحلح.
امرأة في الستين. سكين. عشر ضربات في الظهر. لصق البئر” (ص61).
“في لندن تتعرف على الأستاذ الجامعي المستشرق، أوين مورغان، الذي يعيرها كتابًا ذا غلاف أزرق، وعنوانه: “ما جرى في دمشق حين فُقد السلام” لقرين ترجمان القنصلية البريطانية سابقًا، هانا الميسك”
تتذكر ما قاله الناجون. على سبيل المثال ما قالته ندى وردة بأن حبيب وردة وزوجته ماري عنحوري وأطفاله، نعمة ومريم وريم ورانيا وردة، وأمه فاديا بولاد، وأباه أنطون وردة “قضوا جميعًا في البيت الكبير الذي كان في إحدى الحواري المتشابكة وراء الطريق المستقيم، في التاسع من تموز، تمام الثانية بعد الظهر” (ص63).
وتستعين الروائية في تذكّرها هذا، بما ذكرته بعض الكتب عن المذبحة: “وسال دم القتلى في شوارع دمشق غيثًا مدرارًا، وعمّ البلاء الهائل حتى لم يعد يُرى في حارة النصارى غير رأس ينهال عليه الرصاص من بنادق العسكر انهيال السيل، وصدر تدقّه سنابك الخيل، وأجسام أكلتها النار وصيّرتها رمادًا وفحمًا أشد سوادًا من حالك الليل في ويل في ويل” [من كتاب “حسر اللثام عن نكبات الشام” لمؤلف مجهول، ص64].
وحصلت المجزرة الكبرى في دير اللاتين في باب توما. هرب تاجر الحرير، فرنسيس مسابكي، ولجأ إلى دير اللاتين “هربًا من قدر لا رادّ له. دير فيه رهبان وقساوسة، وتاجر دمشقي، أحكموا قفل الباب، ووقفوا وراءه خائفين. كتاب مقدّس في يد كل راهب لطرد الشرّ القادم. وتاجر دمشقي يلوذ بالكنيسة والصلاة تحت الصليب الخشبي الضخم…
انخلع الباب، وانكشف الرهبان التسعة بأيديهم كتب مقدسة. الكتاب أم السيف؟ أوصال مقطّعة وكتب مضرّجة… حملوا فرنسيس مسابكي يئن من نبابيت ظهره، مدوا جسده على الصليب، وبالمسامير سمّروه” (ص133 ـ 134).
لقد نكّلوا بفرنسيس مسابكي وصلبوه، لأنه كان ينافس بعض تجار الحرير المسلمين في المدينة، كما تقول الكتب (أنظر على سبيل المثال: سامي مروان مبيّض: “نكبة نصارى الشام أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860″، دار الريّس 2021).
محصلة قتلى الدير تسعة رهبان، ومدني واحد صُلب: وتتذكّر قمّور المذبحة الكبرى التي حصلت في حمّام المسك “أربعًا وثلاثين امرأة، وستًا وأربعين طفلة، وسبعة وعشرين طفلًا، وثلاثة رجال” (ص146). ثمة نص يروي هجوم الرعاع بالبلطات والخناجر والسيوف على بيوت عديدة في باب توما، وينتهي دائمًا باللازمة التالية: ذبحوه ونهبوا كل محتويات بيته ثم أشعلوا فيه النار (ص156 ـ 158).
بين عالمين ومكانين:
تراوح الرواية بين عالمين: عالم شرقي متمثّل بقمّور وبسكان دمشق، وعالم غربي متمثّل بريتشارد بيرتون وزوجته ايزابيل. وتراوح أيضًا بين مكانين: دمشق وتريسته، مع بعض تعريجات على البلدان التي عاش فيها، أو استكشفها بيرتون.
يتمثل العالم الشرقي في مدينة دمشق قبل أن يحرق الأوباش أحياءها المسيحية: “أعطي قاسيون ظهري، وأنظر إلى الشام، أتحزّر موقع بيتنا الجديد فيطل البيت القديم الذي انتهى واختفى في اللهب” (ص18). يتمثّل أيضًا بقبو بيت الصالحية الذي سكنه بيرتون وزوجته، وأقامت فيه قمّور كخادمة.
يتمثّل في ذكرى الأم التي شجّ رأسها ببلطة على الرخام لصق البحرة ذات الحواف الزرقاء. تحاول قمّور أن تفلت من أسئلة بيرتون حول موت أمها، ولكن الذاكرة المرّة تعيدها إلى المشاهد والروائح التي سبقت المقتلة. كان بيرتون يريد أن يعرف نوع الحرير الأزرق الذي كانت تلبسه الأم،
وهي ممددة في أرض الديار: كان يريد أن يعرف أين جرت الأحداث بالضبط: “في أرض الديار؟ في الإيوان؟ في القاعة الرخامية؟ في المطبخ؟ في غرف النوم؟ وكيف حاول المهاجَمون النجاة؟ أين اختبأوا؟ في البئر؟ في الخزانة؟ على السطوح؟ ومن رأوا من القتلى والقاتلين؟ ما كانت الأدوات المستعملة؟ فأس؟ بلطة؟ منجل؟ سيف؟ سكين؟ خنجر؟ أكان من بنادق؟ وكيف نهبت البيوت؟ هل خُلعت الشبابيك، أم الأبواب، أولًا؟ وكيف احترقت الدور؟ كيف أضرمت النار؟ بماذا قُدح زنادها؟ وإلى أين هربوا؟” (ص60).
بمعنى آخر، كان يريد توثيقًا دقيقًا بعيدًا عن التأثر والعاطفية، توثيقًا باردًا يبتعد عن الصراخ والعويل والأصوات، توثيقًا جغرافيًا للمكان: باب توما، باب شرقي، القيمرية، حارة السبع طوالع، حارة المسك. ومقابل القسم الشرقي من المدينة، الذي علق على خشبة، كما تقول الترتيلة الدينية، ينتصب القسم الغربي منها المتمثل ببيت الصالحية الذي سكنه بيرتون، وبقاسيون الرابض في غربي المدينة وشمالها، والمتمثل بالقواصين الذين يدقون أرض الطرقات بعصيّهم الأنيقة، ويعلنون عن هوية القونسولاتو، الذي يتبعهم بزيّه الإفرنجي.
ومقابل دمشق الجريحة، التي دُمّر ما يقارب ربعها، تبرز مدينتان أوروبيتان عريقتان في عزّ العصر الاستعماري: لندن، وتريسته. بعد وفاة بيرتون، ومن ثم زوجته إيزابيل: “انتهت أجمل أيام حياتي. لن أرى الشام مجددًا”، تقول إيزابيل، ترسل سكرتيرة الليدي إيزابيل من لندن رسالة إلى قمّور فتال، بتاريخ 21 ديسمبر/ كانون الأول 1896، تعلمها فيها بأن الراحلة خصصت لها في وصيتها مبلغ 50 جنيهًا إسترلينيًا لا غير.
ولا تتوقف الرواية طويلًا عند لندن، بعكس ما فعلته بتريسته التي عُيّن فيها بيرتون قنصلًا عامًا لبريطانيا العظمى من عام 1871، حتى وفاته عام 1890، ولكن إيزابيل في لندن تمطر خادمتها قمّور بوابل من الإرشادات التي تتناسب مع السلوك العام للإنكليز: “إمشي فوق الرصيف، لا فوق الزفت الأسود؟”، “لا تتكئي أمام واجهات الدكاكين، ولا تطلّي برأسك داخلها، لسنا في بازار الشام”، “بحق السماء، لا تلمسي الزهور والأشجار”، “بحق السماء، كفّي عن التحديق في عيون المارة، هذا مستهجن جدًا” (ص89).
وتُعرب قمّور عن إعجابها بترتيب البيوت اللندنية، واستقامة الشوارع. كانت تنظر إلى المدينة كأنها لا تنظر “لا تحديق، لا تفرّس، لا تأمّل، لا إطالة نظر، وقطعًا لا إدامة نظر”، بناء على أوامر إيزابيل.
“تستعين الروائية في تذكّرها هذا، بما ذكرته بعض الكتب: “وسال دم القتلى في شوارع دمشق غيثًا مدرارًا، وعمّ البلاء الهائل حتى لم يعد يُرى في حارة النصارى غير رأس ينهال عليه الرصاص من بنادق العسكر انهيال السيل، وصدر تدقّه سنابك الخيل، وأجسام أكلتها النار وصيّرتها رمادًا وفحمًا أشد سوادًا من حالك الليل في ويل في ويل””
وتحظى تريسته في الرواية بحصة الأسد من التوصيف: دارة واسعة، في قاعة عمل القنصل 11 مكتبًا، لأنه كان يكتب 11 كتابًا في الوقت ذاته. وكان على قمّور أن تنتقل من مكتب إلى آخر، حسب الأوامر الصادرة عن بيرتون: “أنجزي المهمّة، تذكّري أنك لا تكتبين، بل تدوّنين القصص المجمّعة من باب توما.
لا صفات، لا محاكاة، ولا تمثيل. وصف حيادي فائق الدقّة فحسب” (ص105). ويهدّدها القنصل بأنه سيلجأ إلى الخناجر التي وضعها فوق المكتب الحادي عشر إن كان التدوين سيئًا. ولا يتردد بيرتون في تقريع قمّور عن كل تقصير: “ماذا يدور في رأسك الصغير هذا؟” (ص129).
“لن يفوتني أن أقول لإيزابيل أن ترشك بالماء المقدّس، لتطرد الشيطان العربي من رأسك الصغير هذا” (ص130). تنسخ قمّور كتابين، أحدهما معروف وهو حكايات “ألف ليلة وليلة”، والثاني من وضع قمّور، ويتعلّق بسنة الطوشة. وتصطحب إيزابيل قمّور ذات مرة إلى دير جميع القديسين في مدينة ويلتشاير، لأنها كانت تريد القيام برياضة روحية يعمّها الصمت والصلاة والتأمل.
وبحركة دائمة، تنتقل الرواية من لندن وتريسته إلى دمشق: “كانت الكلمات في قصر تريسته تجول وتجول من غرفة إلى أخرى، ومن القاعة الكبيرة إلى الحديقة الواسعة، من الممر المسيحي حتى الغرفة الشرقية. كلمات تخرج من الكتب الوفيرة، من الرسائل المتلاحقة، من المخطوطات القديمة، ومن تلك التي يخطّها القنصل، وأحب أن أسترق النظر إليها” (ص150).
تعقب هذا الوصف زيارة يقوم بها حنا، زوج قمّور، مع عقيلته إلى قصر أنطون شامية، وهو “من أجمل بيوت الشام”، مرورًا ببعض معالم المدينة القديمة: القيمرية، الطريق المستقيم، الكنيسة المريمية، باب توما، باب شرقي، الغوطة.
ويتوقف الوصف مليًا عند أجزاء البيت الشامي العريق: أرض الديار، البحر، الأحواض، الشجر، الإيوان، الأقواس، وتقول الرواية: “قصر مثل حبّات الملبّس الشامي، سكر ذائب يغلّف لوزًا طازجًا، لذيذ الطعم والملمس ورهيف الرائحة… زجاج ملوّن بأناقة دمشق كلّها، وخشب قوي ينحني ليلملم جمال الألوان، ويخبر عن نجارين أيديهم من ذهب، وعن زجّاجين عيونهم من ألماس” (ص153).
في تريسته، أتمّت قمّور جميع فصول الكتاب الذي جمعته من المقابلات التي أجرتها في الشام مع الناجين من المذبحة. ولكن إقامتها في تريسته تنتهي بصورة فظّة؛ إيزابيل تقول لها: “قررتُ أن أنهي عطفي ورعايتي لك… ثمة أمور مهمة عليّ القيام بها، في الكتابة ومتابعة النشر في لندن”، وتخبرها أنها أبرقت لأبيها كي ينتظرها في بيروت.
ويرفع بيرتون مسدّسه ويمرّره على رأسها وعنقها قائلًا: “كم أنت شقية… خادمة سورية بائسة وضيعة، ماذا تظنين نفسك أيتها البلهاء؟ ماذا فعلت أيتها الحقيرة؟”، وراح يشتمها بأقذع العبارات، وأشدّها فحشًا، كأنه ملّ من وجود هذه الدخيلة على معقله الإنكليزي الاستعماري.
حملت قمّور إلى دمشق النسخة العربية من الأوراق الخاصة بالمذبحة، بعد أن سلّمت القنصل بيرتون بالتدريج نصوصها كي يعدّها للنشر. وتصل إلى بيروت مع أمتعتها التسعة المحزومة؛ وكان أبوها ينتظرها في المرفأ.
يستحوذ زوجها حنا على الكتاب، ويضع له العنوان التالي: “ما صار في الشام حين غاب عنها السلام”.
ويقول لها “كتبتِ كل الكتاب قمّور. أنا بس رح حط العنوان، شو ما بيطلعلي أنا الترجمان؟” (ص165). وصدر الكتاب الأزرق، واحتفي به “في باحة البطريركية الكاثوليكية، مساء السبت 12/7/1901” (ص 184). وذُكر اسم مؤلفته بصورة مبهمة “قرين ترجمان القنصلية البريطانية سابقًا، هانّا الميسك” (ص183).
أجواء سورية حاليًا
تنقلنا الروائية ديمة الشكر من أجواء القرن التاسع عشر، ومن مذبحة 1860 إلى أجواء سورية حاليًا، بعد الزلزال الذي حدث عام 2011، وعن طريق طالبة سورية اسمها “زينة” تحضّر رسالة دكتوراة مع الأستاذ المستشرق، أوين مورغان، عن صناعة القيشاني الدمشقي.
“حملت قمّور إلى دمشق النسخة العربية من الأوراق الخاصة بالمذبحة، بعد أن سلّمت القنصل بيرتون بالتدريج نصوصها كي يعدّها للنشر”
ينصحها أستاذها بقراءة كتاب حنا المسك، وفوقه “جملة غير معقولة بالبنط الصغير: قرينة ترجمان القنصلية البريطانية سابقًا” (ص215). وهكذا ضاع اسم قمّور. ومن هنا عنوان الرواية “أين اسمي؟” ، ورُسم على غلافها مجتزأ من لوحة للفنان الفرنسي، أنغر Ingres، عنوانها “الأوداليسك” [المحظيّة]، وبرأس مشطوف ومحاط بقطع القيشاني الدمشقي يحمل صينية عليها أربعة فناجين قهوة.
و”زينة” هذه هي تتمة لقمّور فتال، التي احتلت القسم الأول من الرواية. وتتم هذه النقلة عبر كتاب “ما جرى في دمشق…”، وتهيمن على جزأي الرواية عبارة بيرتون السينيكية الصادمة: “لقد كانت عملية ذبح ممتازة”. ولتكريس هذا الربط، تزور زينة ضريح بيرتون وإيزابيل داخل إحدى الكنائس: “لا صوت في حديقة الكنيسة المهجورة، بل صمت لندني يذكّر بالأشباح، وأجواء أغاثا كريستي المهيمنة على كل شيء هنا.
المكان مسرح أبدي لجريمة محنّطة” (ص224). والضريح كناية عن خيمة عربية هندية تضم تابوتين ونصبًا رخاميًا فوقه تمثال لمريم العذراء، ولوحات دينية مسيحية، وفوانيس عربية، وأوعية معدنية للبخور، وكفّ فضّي لفاطمة.
تبدو شخصية بيرتون شخصية إشكالية ومحيّرة تدور حولها القصص والأقاويل. كان يتكلّم 29 لغة، و11 لهجة. وتعلّم العربية وحده في أكسفورد. كان مترجمًا ومستكشفًا وكاتبًا وشاعرًا ودبلوماسيًا وعسكريًا وألسنيًا ومؤرخًا ورحّالة وخرائطيًا وجغرافيًا.
حجّ إلى مكّة والمدينة عام 1853 مع مجموعة من الحجاج الأفغان باسم ميرزا عبد الله البشيري. وكتب عن هذه المغامرة كتاب “رواية شخصية عن رحلة من المدينة إلى مكة” (1855). كتب 32 كتابًا بينها ترجمة “الكاماسوترا”، و”ألف ليلة وليلة”، و”الروض العاطر” للشيخ النفزاوي. وكتب كتابًا عن دمشق عنوانه Unexplored Syria (سوريا غير المكتشفة) (1872)، وتكلّم فيه عن سورية العميقة ومجاهلها، كالبادية، وتلول الصفا، واللغة الصفوية.
وقبل أن يُعيّن بيرتون قنصلًا في دمشق، عُيّن قنصلًا في غينيا، والبرازيل، ثم في تريسته، بعد دمشق. وعام 1858، اكتشف بحيرات شرق أفريقيا، كطنغنيكا، وفيكتوريا، اللتين ينبع منهما النيل. والمعروف عن بيرتون أنه كان ضدّ الأعراف والمجاملات، واهتم كثيرًا بالعادات الجنسية عند عدد من الشعوب.
وفي دمشق، تصادق مع الأمير عبد القادر الجزائري، ومع المغامِرة، جين دغبي، التي كانت مزواجة مطلاقة، واقترنت أخيرًا بالشيخ مجول المزراب (من قبيلة العنيزة)، وعاشت مع البدو، وتوفيت في دمشق عام 1881، ودفنت في المقبرة البروتستانتية. والمعروف أيضًا عن بيرتون أنه شارك في حرب القرم عام 1858.
وتصوّره رواية “أين اسمي؟” أنه كان في قاعة عمله في تريسته يكتب 11 كتابًا في الآن نفسه، وفوق 11 مكتبًا تنتقل قمّور بينها للنسخ والتدوين حسب مشيئة معلمها. وكان بيرتون مولعًا بالأقمشة الشامية وألوانها وطرق حياكتها والأصوات التي تُحدثها.
وتورد الرواية مجموعة من التفاصيل والكلمات الخاصة بالحرير في دمشق: الرفايع، والزغبة، والبزلة، والمشاقة، والشلل، والشموطات، والمفتول، والمسدي، والمزايكي، والملقي، والحائك، والدقاق (ص53 ـ 54). وتقول عن بيرتون إنه رجل سلطة مغناطيسية، وإنه كان شغوفًا بإبهار الناس، وإنه كان يتمتّع “بذهن وقّاد، وله حاسة صياد متمرّس، ولا أوهام تدانيه” (ص102).
وإنه رغم اهتمامه بسورية كان يحتقر أهلها المتخلفين: “أنتم السوريون مشكلة حقًا، أنتم كارثة، لحسن الحظ أنني هنا لأضبط سلوككم المتعصّب” (ص102). ولكن زوجته إيزابيل تقول عنه: “آوه، يا كمّور، قلبه قلب طفل، وفضوله أقوى من فضول قطّ… هو ليس ماردًا، أو جنيًّا، بل قنصل الود، ومؤلف الليالي العربية العظيم” (ص17).
ومع أنه كان ماجنًا، إلا أنه كان مولعًا بالأدب الصوفي، وخصوصًا بالمتصوّف الدمشقي، عبد الغني النابلسي. تقول قمّور: “كانت كلمات القنصل البريطاني تطلع من فمه فتحرّك شاربيه الطويلين، وتضيء الندوب العميقة في وجنتيه النحاسيتين [اخترق رمح خدّيه في الصومال]، وتجعل عينيه مثل المسدّس المركون على المكتب، وشرر الطلقات يخرج منهما” (ص75).
“تصوّر رواية “أين اسمي؟” بيرتون أنه كان في قاعة عمله في تريسته يكتب 11 كتابًا في الآن نفسه، وفوق 11 مكتبًا تنتقل قمّور بينها للنسخ والتدوين حسب مشيئة معلمها”
وتهيمن على الرواية قامتان: قامة بيرتون، كما جاء عنه، وقامة الأمير عبد القادر، الذي تصوّره قمّور بكثير من المهابة والإجلال. قال العم لقمّور بالعاميّة: “سترين باشا المغاربة الأمير لابس أبيض، وراكب ع حصان أبيض”، فتعلّق قمّور: “ظهر الأمير الأبيض، ورأيته. كان مهيبًا يشعّ مثل الشمس.
أظنّه كان يتلألأ بسبب جواهر برّاقة خضراء وبنفسجية تلمع على معصميه الداكنين… كان يمشي وحوله رجال كثر… وفي أرض الديار تجمّع الناس حوله يكلّمونه ويكلّمهم، ينادونه متضرعين: سيدنا الأمير عبد القادر، سيدنا الأمير عبد القادر” (ص15). ويدعوه بيرتون إلى بيت الصالحية، فتقدّم له قمور الشراب، وللمدعوين.
وتذكّرت أنها رأته في داره وهي تفترش البلاطات الزهرية والسوداء وهي صغيرة، بعد نجاتها من المذبحة.
رواية “أين اسمي؟” مكتوبة بفصحى متقنة تتخللها حوارات بالعامية الدمشقية. كأن المؤلفة أخذت برأي توفيق الحكيم الذي كان ينقل الحوارات العادية بالعامية، كما تتم في الحياة اليومية.
لقد كسرت المحرمات اللغوية الضيقة، كما كسرت التحفظات القائلة بعدم فتح الجروح الطائفية، وعرّت التعصّب الديني، داعية إلى مواطنة سورية مدنية تنشد الحرّية للجميع.