الجمعة. نوفمبر 22nd, 2024

وادي زم: مقاهي و(فنادق) أعشاش البؤساء

وادي زم: مقاهي و(فنادق)
أعشاش البؤساء

بقلم :محمد صمري أبو ريحانة
(مهداة إلى كل الذين عبروا تلك الأمكنة بهذه المدينة ،وتحصنوا بها في أيامهم العصيبة،أمكنة لم تتنصل بعد من ثيابها القديمة ولم تلق بنفسها في ماء النسيان كي تغسل جسدها من رذاذ الزمن الجميل….وجوه وأسماء توارت في الأفق كمزنة أمام الزمن العجيف و وضاعةالأيام وغدت طيفا نفخ فيه الهواء ….أسماء غاصت أرواحها بين ثنايا وطيات تلك الأماكن وحفرت بحروف عنيدة: قشبال وزروال ،قرزيز ومحراش الكاموني،نعنيعة….. )

على مبعدة أمتار من المحطة القديمة
هناك باب قديم مخضب بالشقوق والحفر يحمل محيا كئيبا عليه تجاعيدفي شكل متموج ينبعث منه ضوء ثمل يجندله المغيب يغلف مدخله صمت مسكون بكرامة مجهضة يلفه الضيم والوجوم مما يمنحه الفرادة بين كل المقاهي ،أركان عفنة لجدران ترابي متآكل آيل للسقوط،بيوت وغرف
كالزنازن مفقوءة المجاليج لا تدخلها الشمس إلا لماما،مفتوحة لولائم
السهد في بطون الليالي،تصطف فيها الجماجم ناطحة حصائر من الدوم ووسائد الحلفاء الغاملة،أجساد أقعت على الدص لتمتص دم البرودة ، فردات من نعال خرافية وجوارب مخرومة عطنة،أعقاب سجائر ،أوراق الكارطة،مجامير طينية،بضعة جرائد ومجلات بالأبيض والأسود متناثرة هنا وهناك،قطط تلحس فروجها ،أجساد
ووجوه تسربلت بالقتامة لاسر ولا ملح عليها فر الدم من عروقها ،منحنية منهمكة ، أعضاء ضامرة مطرزة بوشم الوجع والألم تطاول فيها الفراغ وتمدد بلا حدود سافرت فيها الشيخوخة بدون جواز سفر وجوه سابحة في فلك المعاصي والتيه تمضغ مصيرها وتحاول إعادة تقاطيع بسمتها الأولى في لجة العتماث بعد أن شاخت كل الأحلام في صدورهاوذابت في قاع عنف السنين وتغرغرت، الحلايقية ،الكرابة،الحصادة،
بائعو الأعشاب والسجائر،أصحاب السويرتي والدادوص، وجفنة الماء،
الملاكمون أولا أحماد موسى،الشوافة والقوادة، الحكواتيين اللصوص والشحادين .
بأعين كسيرة النظرات ومآقي ذابلة بعضهم يتمدد على حصير من الدوم وبعضهم يستند إلى براميل صدئة أو صندوق خشبي للأفاعي أو الخضر أو قفص للقرود أو أجورة أو صرة من (الشرويط) يلعقون عرقهم وقد لبستهم شمس الأسواق ورفستهم على أنياب
الأيام .
يحل المساء يعم الدفء المكان وتعلو
رائحة الطواجين المغموسة بالعبرات وهي (تبربر) على المجامير،جمرات
(الشقوفة ) تتقافز رجما فوق الرؤوس حيث تعدم كل أنواغ التبغ الرديئة في هذا المكان فيغص حقلوم بعضهم أثناء الكلام من أثر الدخان ويبصق لعابا
مائعا من فمه غير مكثرت بخزر عيون الآخر، يستنصتون هواجسهم الباطنة ويستغورون وشوشة الصمت باستبصارات مرتجة، أخلاط من اللكنات تشكل تقاطعا مغريا في رقعة بائسة ،يستجدون الفرح الهارب فيدندون بأغاني ومرثيات وعيطات مثخنة بالجراح تسافر رائحتها عبر عروقهم الذابلة فتكبر الشمس فيهم وتتمدد قناطر السبيل نحو قبلة الإنشراح وعتبات الانتشاء فتطفو جروح العشق سنابل وقنابل تقدف أصداء صراختها الرمادية لتستقبلها معارج السماء…يتسلل بعض الثقلاء فيفسدون أجواء الفرح ويسممون نسائمها المسروقة من دفاتر الأيام…
يعود المكان لهدوئه يعلو صوت رجل بلحية بيضاء مسدلة على جلبابه الدرعي كولي صالح يجأربتلاوة القرآن
أمام باب غرفته مهللا مقرضا وهو يمسد ركبته ويلوح بعصاه في الهواء لطرد الذباب،ينظف ما التصق بجلبابه
من طعام ،يعيد طي عمامته الصفراء فتظهر شجة كبيرة تورمت وانكوت على
رأسه كوشم قديم.
صراخ وضحك وأ صوات تنبعث من زاوية إحدى الغرف المجاورة للبئر رونضة ،
ميسة،عاود الضمسة، الكباص،
الشباضة،لكحل، اللاص، الراي…رشم
حبل وبونت…
تولد الشمس من بطن الليل،
يستيقضون على لكزات بعضهم
بأفئدة مقطبة وبعيون تدور في فزع، وتحدج كل شئ بخوف وترقب وكأن حمار الليل قد ضربهم في أوجارهم ، ينفشوت جلابيبهم،يتتآبون ،صفير جرارة البئر يصك الآذان،أصوات الأدعية
الصباحية تذهن أرجاء المكان …صوت الشيخ المكي الناصري ينبعث من مذياع كونطوار المقهى الخشبي وهو
يفسر ماتلاه الطيب كحل العيون من سورة الواقعة بصوته الرخيم،رائحة براريد الشاي تعطر المقهى،بخار الغلايات النحاسبة والأباربق الملونة يتمدد فوق رأس بابا محمد صاحب الشنب النتشوي الذي يفهم كل لفتات التودد من نزلاء المقهى، الحمام البري وقبارة الحقول ترقص على جنبات البئر تهرق بزاقها وتلتقط ما تبقى من
فتات منتور على الأرض ،يخرجون كقطيع ضباء نافرة توحدهم المحنة والحاجة ليركبوا على حافة الألم وهم ينثرون صدأ الكلام على
نسائم رداد الصباح في اتجاه أحد الأسواق الأسبوعية بقرى المدينة من أجل حفنة دراهم معدودة يركبون في سيارات متهرئة بابتسامة مكابرة وهمس متحشرج (البوجو) وحافلات (البرلي) و(الفورد) تفوح منها رائحة الكزوال الثقيلة تتعاكس على نحو فوضوي أمام أنظار شرطي هرم يقودها سواقون ذووا بلوزات زرقاء فوق سراويل (قنطريسية) بجيوب تجاور الركبتين وبجماجم معوجة ووجوه مقروحة الجفون يجيدون تدوير (المانيفير) في سرة الشاحنات، هم سائقون رضعت أجسادهم هواء المسافات بغيضها وفيضها تلك المسافات و الأسواق والمواسيم المتعامدة مع الهم والكدر التي هشمت سنابل أيامهم وحولت خضرها عجافا…
محمد صمري أبو ريحانة*

Related Post

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *