اسماعيل الحلوتي
مباشرة بعد نهاية المباراة الحاسمة التي جمعت مساء يوم الثلاثاء 29 مارس 2022 في الساعة السابعة والنصف بالمركب الرياضي محمد الخامس في مدينة الدار البيضاء، بين المنتخب الوطني المغربي ونظيره من الكونغو الديمقراطية برسم إياب الدور الفاصل في تصفيات كأس العالم (قطر 22)، التي عادت نتيجة الفوز فيها لصالح أسود الأطلس بحصة عريضة (4/1)، بعد أن كانت نتيجة الذهاب التي أجريت بينهما يوم الجمعة 25 مارس 2022 في ملعب الشهداء بكينشاسا انتهت بالتعادل الإيجابي (1/1)، وخروج الشعب المغربي في جميع مدن المملكة وخارج الوطن للاحتفال بالتأهل الثاني على التوالي للمنتخب الوطني والسادس في مشواره الكروي….
أبى بعض النشطاء بموازاة ذلك إلا أن يتناقلوا على نطاق واسع عبر موقع التواصل الاجتماعي “واتساب” مقالا تحت عنوان “كم أنا تافه! … الأستاذ ولا عب كرة القدم”، نشر بإحدى الجرائد الإلكترونية يوم الأربعاء 30 مارس 2022 وهو المقال الذي بدا فيها كاتبه المسمى “كيمية العياشي” متذمرا منذ الفقرة الأولى، ليس لأنه يرفض تأهل منتخب بلاده أو أنه يحمل جنسية أخرى غير جنسيته المغربية، بل لأن ما غاظه وهو الأستاذ “المقتدر” أن تكون الجامعة الملكية لكرة القدم تعتزم مكافأة عناصر المنتخب الوطني بحوالي مائة مليون سنتيم مقابل هذا التأهل الكروي. إذ حز في نفسه كثيرا وهو الذي قضى 36 سنة من عمره في الجد والاجتهاد بقطاع التعليم، أن يتخرج على يديه الكريمتين العشرات من الأطر الكفأة منهم أطباء ومهندسون وأساتذة ومحامون ورجال سلطة وغيرهم، وبالكاد بلغ راتبه الشهري مليون سنتيم…
وهكذا اعتبر “الأستاذ المبجل” نفسه تافها لا لشيء سوى أنه أساء لنفسه حين اختار أن يكون مدرسا عوض أن يكون مغنيا أو لاعب كرة قدم، معتقدا أن تفاهته تكمن في انضمامه إلى “فريق” بناة الحضارة الإنسانية والانخراط في المعركة ضد الجهل وتنوير العقول، وزاد متحسرا على ما سجله من أهداف لصالح وطنه وأمته حين أراد لها أن تتبوأ بفضل تضحياته مكانة مرموقة بين الأمم.
ثم إنه اعتبر نفسه بدون خجل ولا وجل أنه شخص تافه لكونه كان يملك من أسباب التميز في العزف على أوتار التفاهة ولم يفعل، حين تخلى عن كل مواهبه في سبيل خوض معركة العلم والحضارة والثقافة، وإلا لكان حظي باستقبالات كبار المسؤولين والوزراء وحصد الكثير من الجوائز والامتيازات والمنح، لما حباه الله به من صوت ذهبي بشهادة زملائه وقدرات هائلة في الحكي والتمثيل وعلو كعبه في كرة القدم.
ولم يقف عند هذا الحد عندما اعتبر نفسه مرة أخرى تافها لما آثر حياة الفقر والجوع والعطش مقابل إغناء وطنه والرفع من قدره والتباهي به أمام الأوطان، وعدم تمكنه خلال رحلة العمر الطويلة التي أفناها داخل محراب العلم والمعرفة من تأمين عدا شقة وسيارة لنفسه وأسرته بواسطة قروض بنكية.
فمن حق “الأستاذ” المدعو “كيمية العياشي” كما جاء في توقيع “رسالته”، أن يغتاظ من مشاهدة تلك المجازر التي يتعرض إليها زملاؤه من الأساتذة سواء منهم “الذين فرض عليهم التعاقد” أو غير هم على أيدي الأجهزة الأمنية أثناء مسيراتهم الاحتجاجية السلمية، وأن يندد بما يتعرضون إليه من إصابات متفاوتة الخطورة ومن اقتطاعات تعسفية، وأن يشجب كذلك تلك الاعتقالات العشوائية الجائرة والمحاكمات الصورية، وأن يستاء من تجميد الترقيات والأجور وغير ذلك كثير…
بيد أنه ليس من حقه الإساءة إلى صورة الأستاذ ووصف من كرسوا حياتهم لخدمة الوطن وأبنائه بالتفاهة، مبررا ذلك بكونهم لا يحظون بنفس الاهتمام الذي يحظى به أعضاء المنتخب الوطني لكرة القدم ونجوم الأغاني المغربية. فليس تافها من اختار عن قناعة حب الوطن وممارسة واحدة من أسمى المهن وأرقاها في تاريخ البشرية، ذلك الشخص الذي يكرس أوقاته وجهوده لتربية الأجيال والنهوض بالأمة، في أجواء من المسؤولية والعطاء المثمر ونكران الذات.
ولا غرو أن نجد أمير الشعراء أحمد شوقي، يمدح المعلم في إحدى قصائده التي تعتبر من عيون الشعر العربي ويرفع من مكانته بين الناس، باعتباره نبراسا يهتدى به في طريق العلم والمعرفة، حيث يقول في مطلعها:
قم للمعلم وفه التبجيلا…. كاد المعلم أن يكون رسولا
وهي القصيدة التي تترك في وجدان قرائها والمستمعين إلى عباراتها المنتقاة بعناية قشعريرة وصدى طيبا من القيم العليا والأخلاق الفاضلة التي لا تقدر بثمن، حيث أن المعلم الحقيقي الذي يرقى إلى مرتبة الرسل والأنبياء هو من يسهر على تربية المتعلمين ويزودهم بأفضل ما لديه من معارف قيمة وأفكار نيرة من شأنها الارتقاء بالفكر والذوق والإحساس، وهو الذي كان ولا يزال يلعب دورا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا…
إن للتعليم قداسة خاصة، ولا يمكن لها أن تكون كذلك إلا إذا حرص المنتسب إليها على أداء واجباته في إطار من الحس الوطني الصادق وروح المسؤولية والتحلي بمبادئ الإخلاص في العمل والصدق في القول، الاعتزاز بالانضمام إليها والحرص على نقاء سريرته، والعطاء الجاد والمتواصل، باعتباره صاحب رسالة تربوية نبيلة، تقتضي استشعار عظمتها والإيمان بأهميتها، الحفاظ على شرفها والدفاع عن أهدافها عوض تبخيسها، بعيدا عن مختلف الإغراءات والحسابات الضيقة. إذ لا مجال لمقارنة الأستاذ بلاعب كرة قدم وغيره، ويكفي فقط أن يوحد بينهما حب الوطن.