بقلم: موسى برهومة
لعل من البداهة التذكير بأن مشروع التنوير الفكري الذي ينشده العالم العربي، ينهض على مداميك عديدة، ومؤثرة من أبرزها مشروع التحديث العلمي والتكنولوجي؛ فالحضارة بوجوهها كافة تنهض على الأفكار الكبرى التي تتفتق عنها مخيلات المفكرين والفلاسفة والأدباء والفنانين. فإذا رمنا أن نذهب بعيداً في البحث عن الكيفية التي يفيق بها العالم العربي من سباته الحضاري، يتعين أن نبدأ في تكوين قاعدة للتفكير العلمي الذي ميدانه المختبرات والمصانع ومراكز الأبحاث والجامعات. لكنّ المتمعّن في صورة البحث العلمي في العالم العربي، لا بد أن يصيبه الإعياء، ويعصف به اليأس؛ فالأرقام تنبئ بأن أحوال العالم العربي في مضمار البحث العلمي في أدنى مستوياتها عالمياً. العالم، كما تذكر التقارير، ينفق سنوياً 536 مليار دولار على أمور البحث العلمي، نصيب الدول النامية منها لا يتعدى أكثر من 4% فقط. وتنفق الولايات المتحدة واليابان وأوروبا مجتمعة نحو 417 مليار دولار سنوياً على أمور البحث العلمي والتطوير، وهي نسبة تمثل 75% مما ينفقه العالم أجمع على المجال ذاته. وتنفق الولايات المتحدة وحدها ثلث ما ينفقه العالم أجمع على البحث العلمي، تليها اليابان التي تنفق ربع ما ينفقه العالم أجمع على البحوث العلمية وتطويرها اقتصادياً. لهذا، وسواه، فإن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، في حين أن 95% من الباحثين الصينيين يعودون إلى بلادهم بعد استكمال دراستهم في الغرب. هناك مليون خبير عربي يعملون في الدول المتقدمة، وفي بريطانيا مثلاً هناك 34% من الأطباء ينتمون إلى الجاليات العربية. ولا يزيد عدد مراكز البحث العربية عن 600 مركز مقابل ألف و500 مركز في فرنسا وحدها، أما إسرائيل؛ فتنفق 17 ضعف ما ينفقه العرب على الأبحاث العلمية.
الدول العربية أنفقت 94 مليار دولار عام 2009 على شراء الأسلحة، بينما خصصت للبحث العلمي وتطبيقاته ملياري دولار فقط. لذا فإن العرب لا ينتجون إلا ثلاثة من العشرة في المائة فقط من إجمالي البحوث العالمية يقدمها 55 ألف باحث، ولا يسهمون إلا بواحد من عشرة في المئة فقط من إجمالي براءات الاختراع العالمية. ولطالما روّعت هذه الأرقام والحقائق الباحثين العرب والمسلمين ممن يتوقون إلى الالتحام بفلك الحضارة الكونية. وكان قد جرى بحث هذا الأمر في مؤتمرات وملتقيات وندوات في غير ما مكان في الوطن العربي. ومن بين تلك الندوات، كانت تلك التي أقامتها مؤسسة عبد الحميد شومان بعمّان بمشاركة عدد من الاختصاصين العرب في حقلي العلوم والتكنولوجيا، وصدرت وقائع الندوة في كتاب “العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي: الواقع والطموح”، وجاء الكتاب في 462 صفحة من القطع الكبيرة، وصدر ضمن منشورات “شومان” بالتعاون مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وأكد أستاذ الهندسة أحمد أبو الهيجاء في جامعة العلوم والتكنولوجيا في مقدمة الكتاب أن “النظام العربي، بشكل عام، ما يزال نظاماً معيقاً للعطاء العلمي” موضحاً بأنه، ” لا توجد بيئة سياسية أو اجتماعية مواتية لتحقيق إنجاز مصرفي يقود إلى مشروع نهضوي عربي تتملّك فيه الشعوب العربية التكنولوجيا المتطورة”. وأبرز الكتاب أن العلوم والتكنولوجيا في عالمنا المعاصر “جاءت نتيجة لتراكم علمي ومعرفي امتد واستمر منذ القدم ” بحسب أستاذ الفيزياء في الجامعة الهاشمية عدنان نايفة الذي ربط التقدم العلمي والتكنولوجي بالأساس الاقتصادي، موضحاً أنهما “خطان متوازيان غالباً، ويعتمد على الآخر، ويرتبط به”. واتخذ أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة محمد السيد سليم، ماليزيا نموذجاً لإظهار سياسة العلم والتكنولوجيا في واحدة من أبرز دول النمور الآسيوية التي أصبحت خلال عقدين من الزمن “مركزاً للنمو التكنولوجي في جنوب شرقي آسيا”، إذ لفت سليم، المتخصص في الدراسات الآسيوية، إلى جهود رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد منذ العام 1981 الذي جعل “التكنولوجيا مفتاح التنمية” في بلاده. في حين يعترف سليم بعدم قدرة الدول العربية على تكرار التجربة الماليزية بحرفيتها، ومن ثم يدعو إلى “استفادة العرب من خبرة التعامل الماليزي، الياباني في علاقاتهم الأوروبية”. ولدى تحليله الاجتماعي لسياسات العلم والتكنولوجيا في الوطن العربي، يلفت الباحث المصري السيد ياسين إلى “سيادة نمط متخلف في استيراد التكنولوجيا، يتمثل في الاعتماد كلية على الخارج من حيث تطبيق أدوات نقل التكنولوجيا التي تهيمن عليها المراكز التكنولوجية في الغرب”، ويؤكد أن من شأن ذلك “إضعاف القوى التكنولوجية الوطنية الحية وعدم دعمها (…) وإهدار الاختراعات الوطنية المسجلة التي ثبتت فائدتها”. كما يدعو ياسين التجمع العلمي العربي “أن ينشط لممارسة دوره في نقد السياسات الحكومية المعلنة وتحليلها، إضافة إلى تقديم رؤى بديلة مدروسة”. وفي حديثه عن العلوم والتكنولوجيا والتنمية السياسية، يرى الكاتب المصري محمد السيد أحمد أن ما جرى في 11 أيلول 2001، يعد “حداً فاصلاً بين حقبتين، حقبة أعتقد فيها أن من الممكن النظر إلى العنف بصفته عاملاً مزعجاً..”، والحقبة الثانية ترافقت مع ظاهرة العولمة “، وبات يحتل فيها العنف موقعاً مركزياً “، إذ فشل النظام الدولي القائم في ” إقامة علاقات تضامن بين البشر تفوق ما بينهم من أسباب فرقة واصطدام”.
ويطالب رئيس جامعة البتراء، رئيس الوزراء الأردني الأسبق عدنان بدران بـ “توافق عربي شامل وجدي، يلتزم بتخصيص ما نسبته 1% من الإنفاق القومي على شؤون البحث والتطوير”، فضلاً عن وضع “خطة خمسية تبدأ من العام 2005 إلى العام 2010″، وكذلك “تخصيص نسبة 6% من الإنفاق القومي للاستثمار في القوى البشرية المدربة عن طريق تطوير التعليم بمراحله المختلفة”، وهو ما يتنبه إليه الكتاب الذي يحث على تفعيل اللغة العربية لمواكبة التطورات في العلوم والتكنولوجيا. كما عالج الكتاب دور مؤسسات التعليم العالي، ومراكز البحث العلمي في توطين العلوم والتكنولوجيا، وكذلك نقل العلوم والتكنولوجيا من الدول المتقدمة وأثره على النهضة العلمية، وسبل الحد من هجرة الكفاءات العربية، واستقطاب الكفاءات المهاجرة، ودور البحث العلمي والتقاني العربيين في التنمية، والآفاق المستقبلية للتجارة الإلكترونية في الوطن العربي، والاستخدامات الإلكترونية في القطاع المصرفي. ويسعى الكتاب إلى صياغة استراتيجية للعلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي، من خلال صياغة فلسفة للتعليم والبحث العلمي، تسهم في تنمية الطاقات الإبداعية العربية ، بحسب ما ينشد الباحث المصري أحمد فؤاد باشا الذي يتطلع، فضلاً عن التميز على المستوى التكنولوجي، إلى “قيام الأمة العربية بإحراز قصب السبق العالمي في مضمار التقنية الحيوية وعلوم المواد، وصناعة الدواء، وتطوير تقنيات الليزر، وإنتاج الطاقة الشمسية، وغيرها من صور الطاقات الجديدة والمتجددة.